قضايا وآراء

ما بعد حلب.. حاجتنا للحكمة والحكماء

محمد حسني عودة
1300x600
1300x600
نعيش اليوم في زمن تجتمع فيه ليس فقط المتناقضات، بل نجد منظري تلك المتناقضات يتعاضدون مع بعضهم البعض في ظل مصالح تجمعهم مهما اختلفت عقائدهم أو أيديولوجياتهم في درجة صلاحها وفسادها، فلا يمكن أن يكون في بنيتها صلاحا إذا بررت تلك الأيديولوجيات نزع كرامة الإنسان وسلبه حقه في أن يعيش بإنسانيته التي منحها إياه خالقه.

فمن جهة تجد المعسكر الذي يمثله الرئيس بوتين؛ فكرا وعقيدة وسياسة هو نفسه الذي يتحالف في نفس الوقت وبكيفية متمايزة مع الصهاينة في احتلالهم لفلسطين، بل هو ذاته الذي يتحالف مع المعسكر الآخر الذي يمزق بطائفية بغيضة أشلاء العراق وسوريا واليمن، في وقت كان هذا المعسكر الآخر وأعوانه يسوقون شعارات تغنوا بها ردحا من الزمان لتحرير القدس، في حين هم أنفسهم الذين يعيثون في الأرض فسادا. وهل هناك أكثر وضوحا مما شهدناه ونشهده من تشريد وقتل طائفي في العراق وإزهاق للأرواح في سوريا؟ وهل أبلغ وحشية مما حدث ويحدث في حلب؟

ألم يخسر هذا المعسكر الطائفي شعوب العالم الإسلامي خسارة لم تحدث في تاريخه منذ سقوط إمبراطورية الفرس وقد تجلت طائفيته في أوضح صورها للطفل الوليد قبل الرضيع؟ تلك الخسارة هي في جميع مستوياتها، ولكن الأدهى والأمر هو انتهاء ثقة الشعوب الإسلامية في معظمها بكل هؤلاء ممن حملوا شعار الطائفية وأزهقوا الأرواح وفتتوا الأوطان وعاثوا في الأرض فسادا. لن تنسى الشعوب الحية ذلك، بل سيضاف ذلك كفصل جديد كبير في كتاب تاريخ الطائفية.

فهل يصلح الله عمل المفسدين؟

بالطبع لم يصبح الرئيس بوتين يمتطي عقيدة شيعية ولا علوية يدافع بهما باستماتة عن نظام أهلك الحرث والنسل والشجر والدواب، في نفس الوقت الذي قد رسما فيه سوية خطوط تحالف شيطاني فريد في معادلة رياضية دقيقة "أتحالف معك إذا وإذا فقط تحالفت معي مهما أهلكنا سوية أم بشكل منفرد من البشر روحا وكرامة بل إنسانية".

والمشهد الدولي الخارجي لا أقل من وصفه بثلاثة فرق، فريق عاجز ومكبلة أيديه أن تصنع شيئا من أجل الإنسانية في سوريا، وفريق ثان غارق في تآمره "دع القوم يتيهوا ويلتهوا بأنفسهم عقودا من الزمن تتحقق فيه مصالحهم ومصالح الاحتلال الصهيوني لفلسطين"، وفريق ثالث يتحالف بشيطانية ويتملق نفاقا من جهة أخرى للفريق الثاني كي ينال مصالحه مهما كانت في غيها وتجبرها.

إنه امتحان عسير وتحد عظيم في القرن الواحد والعشرين الذي يتغنى فيه الغرب بزهوه في الحضارة المادية، وتطور تقنيات الاتصال والمعلوماتية، وازدهار البحث العلمي، ورقي النظم الصحية والتعليمية من جهة؛ ومن جهة أخرى هبوط تلك الحضارة من هذا الرقي المادي إلى لاشمولية بل ازدواجية في التعامل مع الإنسان؛ فالإنسان في معسكرها غير الإنسان الذي هو في فلسطين وسوريا والعراق وغيرها.

لا شك أن المشهد العالمي مخيف جدا، فعندما تطبق المعايير بازدواجية حسب المعسكر الذي يهمك، وعندما يقود العالم في أقطابه أناسا لا يحتكمون إلا لمصالحهم، في نفس الوقت الذي في أيديهم قوة السلاح والتمويل والعتاد، فلا أمم متحدة تفعل مبادئها وقراراتها دون ازدواجية كما نشهد في احتلال فلسطين مثالا نبراسا جليا.           

ولا نستغرب أبدا كيف أن التعسكر الطائفي يتحالف مع فكر اليسار؛ ذلك الفكر الذي غلف بشعارات زائفة تغنى بها ممثلو الفكر العربي اليساري عقودا من الزمن لم تختلف كثيرا في مساوئها تحالفا عن معسكر الغرب في دعمه  للدولة الصهيونية الوليدة منذ عام 1948.

وفي الجانب المقابل فكريا؛ تجد تخبطا مشهودا في العالم الإسلامي والعربي خاصة؛ ربما هو الأعنف منذ سقوط دولة الموحدين ليس جمودا وانحطاطا فحسب، بل تجد تشرذما فكريا ممنهجا قادته أيد لها أهدافها وشهواتها ومصالحها، والتي كان في أبسط صورها أناس تصدروا التجريح في علماء الأمة وتسفيه فكر الآخر، فضلا عن التشكيك في عقيدته والغلو في تصنيفه أنه ليس على منهج أهل السنة والجماعة، والذي وصل بالبعض حد التكفير والبراءة حتى من الوالدين وذوي القربى.

وفي موازاة لهذا التيار الممنهج ترى أصحاب ودعاة الفكر الوسطي بأسهم بينهم شديد يتنازعون منهجا إداريا غير ملائم للزمان والمكان مع صراع الأفكار وتربص الأعداء والحاقدين بشتي خلفياتهم ، بل تراهم وقد أهملوا القيادة لجيل الشباب وبقي الكهول في مقاعدهم، وبهذا فقد اضمحل بل انعدم التواصل ليس بين جيلين من حملة هذا الفكر الوسطي بل بين ثلاثة أجيال.

فكيف يكون إذن الإسلام هو الحل إذا  كان من يحمل دعوة الإسلام هذا حاله بل ديدنه؟

أليست الحكمة هي ضالة المؤمن؟ أليس المؤمن كيس فطن؟ فهل كان من يتصدرون قيادة الفكر والأحزاب الإسلامية بالمستوى المناط بهم؛ فطانة وكياسة في تصدرهم فكرا وتخطيطا وإدارة مخاطر وقيادة تؤلف القلوب من حولها، وليس فقط نظام الحزب حيازة لكل شيء وغيري لا شيء لأعمل معه كخلفاء لله في الأرض؟ مشهد مخيف وكأنك تعيش انتخابات برلمان الصوت الواحد.

الأستاذان الكبيران سيد قطب ومالك بن نبي رحمهما الله رمزان إسلاميان شامخان حملا من الفكر الإسلامي واختلفا في تحليلهما لمعضلات الأمة وانتكاستها، فمن جهة تجد الأستاذ سيد قطب رحمه الله اعتبر أن ما يأتي به الإسلام هو الحضارة وغيره من الجاهلية وأن المسلم متحضر وغيره متخلف، في حين تنبه الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله مبكرا للبعد الإسلامي السياسي الاجتماعي في نسق منهجه وفي محاولاته لتشخيص لماذا خرج المسلمون من الحضارة؟ وما السبل لعودتهم إليها؟ ولماذا تحول الإسلام ممارسة كعامل تخلف وليس كعامل تحضر لأن الإسلام هو في أصله عامل تحضر وخير للبرية والكون أجمعين؟ وربما لم أجد في كلمات قالها الأستاذ مالك من نبي رحمه الله أكثر وصفا لجمودنا في جعل عقيدتنا مصدر انبعاث حضارتنا من الكلمات التالية: "ليست المشكلة أن نعلِّم المسلم عقيدة هو يملكها وإنما المهم أن نرد إلى هذه العقيدة فاعليتها، وقوتها الإيجابية".

للأسف لم يكن لفكر مالك بن نبي أن يُدرس ويُفعل في مناهج الفكر الإسلامي، فمن جهة كان جل ما كتبه بالفرنسية ثم ترجم ليس في وقته كاملا ما عدا كتاب واحد كتبه بالعربية، ولم يكن متمكنا من العربية مثل الفرنسية بالإضافة إلى منهجية فكره التي كانت تأخذ مدرسة أخرى غير تقليدية بعيدا عن الثناء على الحضارة الإسلامية؛  كان ناقدا فذا لمعضلات ما حصل بعد سقوط دولة الموحدين.

هذان الأستاذان الكبيران كل له باعه وإنتاجه الفكري والإسلامي. فبدلا من الاستفادة من كليهما وننقح ما هو ثراء لنا إسلاميا وفكريا وعلميا، تجد هناك من يقدحون بهما لأجل القدح أو التمجيد لغرض التمجيد.

هنا بالذات وبإلحاح نجد المدرسة الحديثة التي نجح فيها الغرب في تربية الجيل الناشئ منذ نعومة أظفارهم على القراءة النقدية التي لو تبصرت وتدبرت القرآن الكريم في إخباره عن الأمم السابقة وفي حوارهم مع رسلهم وفي الكون تفكرا لتعلمنا من القرآن الكريم كيف ننشئ جيلا قارئا ناقدا. وهل أبدع من أن تتعلم توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات من القرآن الكريم مباشرة دون كتاب فيه تعريفات ربما تقرأها فلا تحسن تدبرها ولا تعشعش في عقلك تدبرا أبدا.

ولا أكاد أجد كلمات من مفكر وفيلسوف إسلامي (في القرنين العشرين والواحد والعشرين) تصف حالا وعلاجا في نفس الوقت مثل ما شخصه الأستاذ والمفكر الإسلامي مالك بن نبي في عام 1954 في كتابه "وجهة العالم الإسلامي" عندما طالب بالتأسيس لعلم تجديد الصلة بالله حيث قال: "وتغيير النفس معناه إقدارها على أن تتجاوز وضعها المألوف، وليس هذا من شأن (علم الكلام) بل هو من شأن منهاج (التصوف). أو بعبارة أدق، هو من شأن علم لم يوضع له اسم بعد، ويمكن أن نسميه (تجديد الصلة بالله). والتصوف الذي قاد إلى دروشة المرابطين وشعوذتهم، لا يمكن أن يقدم لنا الأساس الضروري للإصلاح عندما نحث جهودنا إلى النهضة، فهو لا يستهدف سوى تطهير بعض الأنفس من الخطايا، في حين يهدف الإصلاح إلى توفير الدافع الداخلي لدى جماهير الشعب، تلك الجماهير المتعطشة إلى (انتفاضة القلب) كيما تنتصر على ما أصابها من خمود".

بالطبع لا مالك بن نبي رحمه الله ولا نحن ندعو لدروشة صوفية وإن كنت ألمس في الوقت الحاضر بعض الإسلاميين يلوحون بحاجتنا للروحانيات في وقتنا هذا – ولا شك بحاجتنا لترقيق القلوب وتقوى الله عز وجل في السر والعلن – ولكن الخوف كل الخوف أن يبعد مثل هؤلاء عن تشخيص الداء،  فلا نهضة تحدث بل مجموعة من الدراويش تمجّد المظاهر والطقوس.

من هنا تستبين لنا الحاجة الملحة للحكماء في تفكرهم لما حل بأمتنا؛ ليس انهزاما عسكريا فحسب بل تشرذما فكريا، وإلا فكيف يمكن أن تجد رجلا مسلما يقود شاحنة ليقتل أناسا في أسواق في مدينة نيس الفرنسية وبرلين الألمانية، وفي أجلّ أوقات احتفالاتهم وتسوقهم في أعياد الميلاد وغيرها؟ أي انحطاط تربوي أبلغ من هذا الذي وصل بمن يفعل أعمال وحشية - هي كلها ضد ما جاء به الإسلام ليكون رحمة للعالمين؟! وهل ما حدث من مثل هؤلاء في إرهابهم لأبناء جلدتهم في أوطانهم أبلغ مشهدا مما نقول؟ وهل نحن في وقت أمس فيه من هذا الوقت في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية من حكماء الجاليات الإسلامية كي يعملوا سوية جسدا واحدا في أرقى وجه حضاري لإيصال رسالة الإسلام، ويدرأوا السيئة بالحسنة، ويكونوا مع الحق والعدل جسدا واحدا ضد الظلم وانتهاك حقوق الإنسان مهما كان اعتقاده وجنسه ولونه وعرقه.

ولكننا أمة الخيرية وأمة العدل وأمة الرحمة، فكيف لنا أن نترك رسالتنا التي هي رحمة للعالمين دون أن نكون قارئين ناقدين لما يحدث؟ ليس فقط فيما بين أيدينا تربويا وفكريا في إعداد الأجيال التي هي مناط التكليف لها بحمل رسالة الرحمة العالمية، ولكن أيضا في وجه الظلم العالمي الذي كانت بوابته احتلال فلسطين وازدواجية المعايير الأممية.

ولهذا، لا وقت أمسّ من هذا الوقت في القرن الواحد والعشرين- والعالم على حافة الهاوية من انتشار الظلم والفساد في الأرض - من أن نرى الحكماء يذودون بأنفسهم حكمة في درء ما قد يسود العالم من نتائج وخيمة هي أدهى وأمر من قنبلة نووية أو هيدروجنية أو احتباس حراري وغيرها؛ ذلك لأن الظلم إن استشرى سيادة، وأصبح إزهاق روح الإنسان وكرامته ديدنا فذلك مما لا أمن من عقباه: فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ? إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (47) إبراهيم.
التعليقات (0)