كتاب عربي 21

أصحاب مبادئ.. أصحاب مصالح

طارق أوشن
1300x600
1300x600
"أتساءل عن مهنية وأخلاقيات طاقم الأمم المتحدة. عليهم التحدث استنادا إلى وقائع ملموسة تم التحقق منها وليس ترويج اتهامات". لم يصدر هذا التصريح عن ديكتاتور معروف بممارساته الاستبدادية الخارجة عن القانون الدولي، بل عن زاو هتاي، الناطق الرسمي باسم الحكومة البورمية. ومصدر الاستغراب أن رئيسة تلك الحكومة ليس سوى اونغ سان سوتشي الحائزة على جائزة نوبل للسلام، والقضية ما يتعرض له مسلمو الروهينغا من ممارسات تقترب من "التطهير العرقي" حسب وصف مدير المفوضية العليا للأمم المتحدة جنوب بنغلاديش. وعندما تشكك من بنت "مجدها" الشخصي على "مجابهة" الطغمة العسكرية التي حكمت البلاد لعقود في أخلاقيات الأمم المتحدة فإن الأمر يدعو فعلا للاستغراب. أما مواصلتها اضطهاد الأقلية المسلمة تأسيا بالعسكر في ضرب واضح لمبادئ حقوق الإنسان فلا تحتاج لتعليق.

لم تكن سوتشي أول من انقلب على مبادئه وغير توجهاتها أو كشف عن حقيقته بمجرد وصوله لكرسي حكم أو منصب سلطة أو وضع اعتباري ماديا كان أو أدبيا، ولن تكون الأخيرة بطبيعة الحال. روبير مينار، المدافع الشرس عن حقوق الصحافيين ضد أشكال القمع السلطوي من خلال منظمته مراسلون بلا حدود، انتهى به المطاف عمدة لمدينة فرنسية صغيرة، بدعم من اليمين المتطرف الذي يدعي عدم انتمائه التنظيمي لصفوفه، يقضي أيامه في التدقيق في لوائح حضانات ومدارس بلدته لتصنيف التلاميذ حسب دياناتهم واعتمادا على الأسماء ليس إلا. روبير مينار يعلم أن الأمر مخالف للقانون لكن زمن المتاجرة بالمبادئ ولى وصار خرق القوانين عنده قاعدة بعد أن كان شخصه حالة استثناء.
فيلم (  Le grand partage التشارك الأكبر- 2015) للمخرجة ألكساندرا لوكلير.

في ظل حالة استثناء ميزتها موجة برد قارس غير مسبوقة تجتاح فرنسا خرجت أعداد من مواطنيها  في تظاهرات للتنديد بأوضاع الفئات المهمشة التي لا تجد لها مأوى يقيها البرد. السكن حق دستوري في رأي هؤلاء ومن بينهم كانت بياتريس، الأستاذة الجامعية،  وغريغوري، الكاتب الروائي، وهما من المنتمين لليسار.

واستجابة لخطورة الوضع تصدر الحكومة اليسارية، التي تحكم البلاد، قانونا يقضي بإجبار العائلات المالكة  أو المؤجرة على قبول استضافة المعوزين في بيوتها بشكل مؤقت حتى تحسن الأحوال الجوية بالبلاد.
قبل إصدار القانون...

بيير: (ساخرا) مظاهرة الأمس كانت جيدة؟..

بياتريس: بلغ عدد طلبات الإسكان الاجتماعي السنة الماضية ثلاثة آلاف مقابل مئتي سكن ممنوح.. لكن هذا لا يعنيك في شيء.. أليس كذلك؟

بيير: نعم، نعم فمؤيدو اليمين معروف أن لا رحمة في قلوبهم...

تدخل الأستاذة اليسارية بياتريس إلى مدرج الكلية وتبدأ الكتابة على السبورة: السكن في النظام الاقتصادي الليبرالي، آليات السوق ودور الدولة في فرنسا..

طالب: هل قرأت الصحف؟

بياتريس: لا، أعطني الجريدة.. كل من يتوفر على عقد عمل ولا يتمكن من توفير سكن لائق يحق له التقدم بطلب إلى الجهة المختصة ليتم توزيع المستفيدين على شقق بمساحات إضافية لا تتوافق وعدد ساكنيها.

بعد إصدار القانون...

تعيش بياتريس مع زوجها وابنتهما الصغيرة في شقة واسعة بإحدى الدوائر الراقية بباريس، وهي بالتالي معنية باقتسام شقتها مع "غرباء". وللتحايل على الأمر لم تجد غير "إرشاء" الموظفة المكلفة بالتسجيل بتوقيع خاص من زوجها الكاتب لإحدى رواياته باسمها، والتبرير: الحفاظ على جو إبداعي يمنح الكاتب القدرة على إكمال العمل على مؤلفاته.

يخرج الاثنان من مكتب الموظفة بعد أن تحقق مراد بياتريس.

غريغوري: أخجل من نفسي بياتريس، أخجل من نفسي..

لم يستسغ غريغوري خيانة مبادئه اليسارية فواجه بها زوجته في مشهد آخر..

غريغوري: أرفض أن أتحول إلى بورجوازي صغير.. أتسمعينني؟ أرفض ذلك.. أرفض ذلك.

بياتريس: لا أراك قادرا على اقتسام مجالك الحيوي مع آخرين. أنت لا تتحمل أن أخلط غسيلك مع ثياب ابنتنا.. هل تعتقد فعلا أنك قادر على تحمل الآخرين؟

غريغوري: بيا.. نحن يساريان..

يصل طالبان إلى حيث يتناقش الاثنان.

طالب 1: درسك اليوم كان مهما سيدتي.. داخل العائلة الواحدة لا خيار إلا التعاون. أنت محقة..

طالب 2: وداخل المجتمع أيضا نحتاج طغيان نفس الروح.

بياتريس: طاب يومكما.

غريغوري: لنعتبر ما يحدث فرصة..

بياتريس: أعرف أنني إنسانة أنانية.

غريغوري: سنتخطى الصعاب.. ستتخطين الصعاب.

بياتريس: كم هو متعب أن تكون صاحب قناعات..

يظهران حاملان أمتعة امرأة من أصل مالي وابنتها.

بياتريس: لقد كنت مخطئة بتصويتي على مرشح اليسار.. لو كان الأمر بيدك الآن هل كنت ستفعلها؟

غريغوري: أقسم أنني سأصوت يسارا.

بياتريس: أنت كاذب.

وفي الأخير لا يمنحان المرأة وصغيرتها غير غرفة معزولة خارج الشقة دون ملحقات صحية أو مكيف لتسخين الجو على أن يبدو الأمر وكأنهم يستضيفونها في شقتهم الفاخرة.

غريغوري (يشعر بتأنيب الضمير): من نحن يا بيا؟ من نكون؟

بياتريس: من نكون؟ أناس يقدمون العون للضعفاء. أتعلم أن هناك من يدفع إيجارا مقابل غرفة أصغر من تلك.

التنظير في الغالب مجرد ترف فكري لدى كثيرين، لكن الممارسة تبقى الفيصل  وأمامها ينهزم الغالبية وينبطحون أمام الإغراءات أو بعض المكتسبات الطبقية الناجمة عن تسلق اجتماعي قد يكون مستحقا لكنه لا يبرر خيانة المبدأ أو الإحجام عن نصرة النموذج والمثال.

يحدث أن يجد الشاب نفسه في خضم صراعات إيديولوجية فيختار في الغالب الاصطفاف للدفاع عن المسحوقين حالما بغد أفضل تتحق فيه العدالة الاجتماعية والحريات الفردية والجماعية. لكن الزمن بما يحمله من تغييرات إيجابية أو سلبية كثيرا ما تصطدم مع القناعات المبدئية فيكون للطموح الفردي الغلبة وللأنانية الشخصية الكلمة الفصل.

في الوطن العربي، يشهد التاريخ أن من أوصلوا الأوضاع لما هي عليه كانوا في كثير من الأحيان من رافعي شعارات المساواة والكرامة والتحرر والاستعمار والامبريالية أو المنادين بتطبيق شرع الله في خلقه والاقتداء بنهج السلف الصالح. ولم تكن الخطابة يوما مفتاح إنجازات أو طريقا للتقدم والازدهار. فمن رفعوا شعار تحرر الفرد من الاستعمار والأوطان من التبعية هم من أوغلوا في مستنقع الخيانة والاصطفاف ورهن البلاد للأطماع والمعادلات الدولية بين الغرب والشرق وهلم اتجاهات. أما من نادوا بعزة المواطن فكانوا أول من مرغ تلك الكرامة في وحل المعتقلات وسجون الاستبداد وامتهان الكرامة الإنسانية على أيدي أنظمة بوليسية ومخابراتية صالت وجالت بلا حسيب أو رقيب. ومن رفعوا شعارات المساواة وتوزيع الثورة هم من اكتفوا بالتوزيع على الأهل والخلان وتوريث الأموال المنهوبة والمناصب جدا عن أب عن أبناء وحفدة صغار.

وحدهم من كان حظهم عاثرا وفهمهم للألاعيب السياسية قاصرا من دفعوا الثمن اعتقالا وسجنا ونفيا واستبعادا وجحودا.

في فيلم (هم الكلاب – 2014) للمخرج المغربي هشام العسري، يخرج رجل مجهول الهوية من المعتقل يعد ثلاثين سنة قضاها وراء القضبان، فقرر زيارة رفيق درب النضال الذي صار مالكا لمؤسسة صحفية يشار إليها بالبنان.

الرجل مجهول الهوية: وقالوا لي أنك قلبتي "الفيستة"/ (المعنى أنك قلبت المعطف أي انقلبت على مبادئك) لم يجب رشيد دخان بل طلب من الفريق الصحفي الخروج وأغلق عليه باب المكتب ليبقيا وحيدين في مواجهة بعض.

الرجل مجهول الهوية: ألا تملك معلومات عن أطفالي وزوجتي؟

رشيد دخان: ابنك صار بطلا لسباق الدراجات.

الرجل مجهول الهوية: لم تجبني. هل صحيح أنك قلبت "الفيستة"؟

رشيد دخان: تعبت من النضال والمواجهة، وفي المحصلة وجدت أنني مجرد "نوتة خاطئة".

الرجل مجهول الهوية: لست هنا لمحاسبتك. أود فقط الاستفسار عن مصير رشيد دخان؟ عن النضال والتقدم وعن أفكار ماركس؟

رشيد دخان:لقد اعتقلوك في إضراب 81، أليس كذلك؟

الرجل مجهول الهوية: نعم، وماذا بعد؟

رشيد دخان: أتعرف الأسباب وراء ذلك الإضراب؟ زيادة في ثمن السكر بـ50% والدقيق 40% وفي الزبدة 74%. هل ترى أفكارا ثورية في هذه الفاتورة؟ البطن هو الذي يدفع الناس للثورة. وأنت اليوم تتفاخر علي بكونك دخلت السجن..

انتهى المشهد بطرد الرجل مجهول الهوية من مكتب رفيقه السابق في النضال والحلم الثوري.

طوال المشهد كان رشيد دخان معلقا بأنبوبة أوكسجين وكأنه يحتضر كما هذا اليسار الذي باع المبادئ وقلب "الفيستة" متنكرا للقوات الشعبية نظير امتيازات وريع انتخابي ومناصب في الإدارات والوزارات والمجالس المنتخبة والمعينة بأوامر وظهائر النظام.

أما في فيلم (علي، ربيعة والآخرون – 2000)  لمخرجه المغربي أحمد بولان، فقد خرج علي من سجن قضى فيه عقدين من الزمن كانا كفيلين لتفرق مصائر ومسارات الآخرين : عبد الله الذي صار مختلا وحميد الذي تحول عن الفكر الماركسي إلى إمامة المصلين بالمسجد والثالث كان إدريس. 

إدريس كان من أبلغ عن مكان علي كزعيم للخلية اليسارية التي ينتمي إليها بعد أن حاصره المحققون.. وكان لابد للقاء الاثنين أن يتم.

صار إدريس بورجوازيا "صغيرا" يعتبر كل ما عاشه في شبابه من "نضال" طيشا وهو الذي لم يكن يفارق كتب اللينينية الماركسية ويتبناها بمعرفته بأحكامها.

في فيلا يملكها ادريس يجلس الاثنان على طاولة خمر.

إدريس: باستثناء بعض الشعيرات البيضاء لم يتغير فيك شيء.

علي: لقد كنت محفوظا في ثلاجة طبيعية.

إدريس: عشرون عاما مرت وكأنها البارحة.

علي: ليس الأمر كذلك، إنها عشرون سنة.

إدريس: أنا قضيت في السجن خمس سنوات. واليوم أعتبر الأمر تجربة جيدة.

علي: عندما سمعت طلقات الرصاص التي قتلت الشرطي علمت أن كل أحلامي سارت سرابا. لكنك أنت..

إدريس: أعلم أنك تعتقدني سيئا وأن ما حصل لك كان بسببي. أنت مخطئ.

علي: لم اخترت الإبلاغ عني؟

إدريس: الحقيقة لا يعلمها إلا الله.. لا ذنب لنا في ما وقع. لقد كنا ضحايا ظروف مرحلة معينة من التاريخ.
علي: ألم تستطع الانتظار حتى أغادر خارج البلد؟

إدريس: كانوا يطلبون عنوانا.. اسما.. زعيما، وكنت زعيما بالنسبة لي. كنا شبابا وكنت محقا بخصوص الألاعيب السياسية والتجاذبات الحزبية. كنت تملك نظرة إستشرافية لكن الماضي يبقى ماضيا، ونحن أبناء اليوم.

علي: ربما ينطبق عليك الأمر. لكن الأمس بالنسبة لي هو ذاته اليوم..

بين الساسة والفنانين والصحافيين وآخرون كثر يرتزقون على "الدفاع" على حقوق الآخرين تتفاوت النظرية عن الممارسة وتنتج حالات شاذة تكاد تغطي عن القابضين على الجمر عن اقتناع. ولعل فيما عاشته الجغرافيا العربية في السنوات الأخيرة وما كشفته من أفاقين وأسقطته من أقنعة عن أولئك الذين عاشوا على "الدعوة" للثورة على الظلم قبل أن تفاجئهم الانتفاضات الشعبية وتدفعهم للتموقع مع الطبقة التي ينتمون إليها فعليا مالا وسلطة وبحثا عن الأضواء.

ليس في الأمر ما يفاجأ فقد سبقت المحامية سامية، التي قضت جزءا من حياتها تناضل مع العمال والطلبة، إلى إعلانها مدوية في وجه زميلها المعتقل مصطفى خلف في فيلم (ضد الحكومة – 1992) للمخرج عاطف الطيب وهي تزوره في المعتقل بأمر رجال أمن الدولة للتأثير عليه سلبا في مسعاه لإدانة الحكومة في حادث اصطدام حافلة مدرسية بقطار.

سامية: كل ايلي بتعملوا ده غلط ومافيش منه أي فايدة.

مصطفى خلف: تعالي اقعدي.

سامية: اسمعني.. الموضوع عدا مرحلة الهزار ودخل في الجد.. متعملش بطل في معركة خسرانة.
مصطفى خلف: مين ايلي قالك انها خسرانة؟

سامية: أنا بقولك كده.. أنا عارفاهم أكثر منك.

مصطفى خلف: لو عارفاهم مكنتيش قلتي أنها خسرانة .. ايلي بيعملوه ده معناه انهم خايفين وبيتخبطوا وأني أنا على حق.

سامية: طز فيك  وفي ايلي بتعملوا وايلي حتعملوا.. انت فاكر انها لعبة .. لا يا حبيبي انت متعرفهومش .. حيفضلو يضغطوا عليك وينتهكوا ادميتك لحد ما تنخ زي الكلب ولا حد حيسأل فيك وفي الاخر يلبسوك ايلي هما عايزينو.. ويوم ما يعتقوك حيحولوك لجاسوس تبيع نفسك ليهم لغاية ما تكره اليوم ايلي تولدت فيه.

اللهم أحسن خاتمتنا..
0
التعليقات (0)