قضايا وآراء

استطلاعات الرأي لم تخطئ.. بل أخطأنا نحن!

صابر كل عنبري
1300x600
1300x600
معروف أن استطلاعات الرأي نوع من القياس لمعرفة آراء الناس وتوجهاتهم، وهي تُجرى على مختلف الأصعدة في العالم، سياسيا، واجتماعيا، وثقافيا وعلميا، ولعل الصعيد الأبرز الأكثر أهمية في أنحاء العالم، هو الصعيد السياسي، أي الانتخابات، حيث تمثّل الاستطلاعات مؤشرات حول الفائز المحتمل أو الخاسر المحتمل، وهي على كل الأحوال لا تخرج عن كونها مجرد مؤشرات، وليست حقائق ثابتة ومطلقة، فالأولى التعامل مع نتائج استطلاعات الرأي من هذا المنطلق. 

وفي هذا السياق، تعتبر استطلاعات الرأي العام الأمريكي، جزءا لا يتجزأ من الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حيث كانت ولاتزال تشكّل أداة تحمل مؤشرات للفوز والخسارة، كما أنه لا يمكن لأحد أن يتصور هذه الانتخابات من دون استطلاعات الرأي العام التي فرضت نفسها على الساحة السياسية الانتخابية الأمريكية على مدى أكثر من ثمانية عقود، أي منذ عشرينيات القرن الماضي تقريبا.

قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية المنعقدة في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، استخدمت هذه الأداة البحثية لأكثر من 80 مرة تقريبا، ولعل ذلك يعود لكون الانتخابات الأخيرة الأكثر إثارة وجدلا في تاريخ الانتخابات الأمريكية، لكن الفوز المفاجئ لرجل الأعمال الأمريكي "دونالد ترامب"، وخسارة غريمته الديمقراطية، شكّل منعطفا مهما في تاريخ الاستطلاعات الأمريكية، بسبب ما يعتبره المحللون فشلا ذريعا لهذه الوسيلة في استشراف الميول والرغبات الحقيقة للمواطن الأمريكي، ووضع ذلك علامات استفهام كبيرة حول جدوى استطلاعات الرأي على مستوى العالم، بعد تحميل المراقبين والمحللين؛ استطلاعات الرأي والمراكز والمؤسسات التي أجرتها، مسؤولية فشل التوقعات والتكهنات بشأن نتائج هذه الانتخابات، حيث جاءت هي على عكسها تماما حسب وجهة نظر معظم المحللّين. الآن وقد هدأت العاصفة، وسكنت الأمواج، يجدر بنا أن نتساءل: هل حقا أخطأت هذه الاستطلاعات، أم نحن المحللين والمراقبين؛ أخطأنا؟

في الإجابة على هذا السؤال، كما ورد في عنوان المقال، لم تخطئ استطلاعات الرأي العام الأمريكية حول نتائج الانتخابات، بل نحن أخطأنا، أما كيف أخطأنا؟ في الإجابة على هذا السؤال أيضا، يكفي أن نكون على معرفة بعلم الاستطلاع، وطريقة تفسير وتحليل البيانات والنتائج التي خرجت من هذه الاستطلاعات، وكذلك بطبيعة الانتخابات الأمريكية المعقدة.

فيما يلي نستعرض أهم أخطاء ارتكبها المحللون والمراقبون في تحليل نتائج استطلاعات الرأي العام بشأن الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة:

أولا، نتائج الاستطلاعات التي تجري حول الانتخابات سواء في الولايات المتحدة الأمريكية أو غيرها، تتغير بين ليلة وضحاها، نتيجة مستجدات قد تؤثر في سير نتائج تلك الاستطلاعات وتحدث تغييرات فيها. هذه المستجدات قد تحدث في أي لحظة قبيل الاستحقاق الانتخابي بأسابيع، أو بأيام، وحتى بساعات، هذه المستجدات تتمثل في أمرين:

1. "الحسم في اللحظات الأخيرة"، حيث يحسم عدد كبير من الناخبين خيارهم.

2. "المفاجآت الأخيرة"، وهنا أقصد من المفاجآت، وقوع أمر مهم يُحدث تغييرا في مجرى الانتخابات أصلا، بالتالي ينبغي الحكم على الاستطلاعات التي تجري قبيل الانتخابات بأيام، وليس تلك التي أجريت قبلها، بأشهر أو حتى أسابيع.

وفي هذا السياق، من تابع استطلاعات الرأي حول نتائج الانتخابات الأمريكية، يعرف جيدا أنه كلما اقترب موعد الانتخابات، قلت المسافات بين المرشحين، حيث نزل الفارق من 10 نقاط أو أكثر في أيار/ مايو، إلى ثلاث أو أربع نقاط قبل الانتخابات. إذ إن الاستطلاعات التي أجريت قبل أيام أو ساعات من تنظيم الانتخابات، تؤكد احتدام المنافسة، وتقلص الفارق بشكل كبير، إلى درجة تحدّث استطلاعان عن تقدم ترامب على هيلاري كلينتون في اللحظات الأخيرة قبل الانتخابات فقط.

هنا، أشير إلى أهم استطلاعات أجريت قبل أيام أو ساعات من الانتخابات، التي إما على تقلص المسافة بين المرشحين، وتقارب حظوظهما، أو تقدم ترامب على كلينتون.

أولا: استطلاعات الرأي التي أكدت تقلص الفارق مع استمرار تقدم كلينتون بنقاط محدودة:

أ. استطلاع مشترك لـ"رويترزـ إبسوس" قبل الانتخابات بساعات، أظهر تقدم كلينتون على ترامب بواقع 45% مقابل 42%. 

ب. كذلك وفق استطلاع نشرته شبكة فوكس نيوز نتائجه الاثنين 7 تشرين الثاني/ نوفمبر، أي قبل يوم من الانتخابات، تقدمت كلينتون بـ4 نقاط على ترامب. وقالت الشبكة إن المرشحة الديمقراطية حصلت على نسبة تأييد بلغت 48%، في حين حصل ترامب على نسبة 44%.

ثانيا، الاستطلاعات التي تحدثت عن تقدم ترامب:

ثمة استطلاعات قالت إن ترامب تقدم على كلينتون بفارق بسيط. فعلى سبيل المثال، نشير إلى استطلاعين للرأي:

أ. أظهر استطلاع للرأي أجرته شبكة "إي بي سي نيوز" وصحيفة "واشنطن بوست" في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر؛ أن المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية تقدم على المرشحة الديمقراطية بنقطة واحدة للمرة الأولى منذ أيار/ مايو الماضي. وكشف هذا الاستطلاع أيضا عن تراجع كلينتون 7 نقاط لدى شريحة الناخبين المتحمسين جدا لها. ونال ترامب، بحسب الاستطلاع المذكور، 46% من الأصوات، مقابل 45% لكلينتون.

ب. نشر موقع صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" الأمريكية، قبل إجراء الانتخابات بأربعة أيام (4 تشرين الثاني/ نوفمبر) أن 47,5% من الناخبين الأمريكيين مستعدون للتصويت لصالح ترامب، بينما يدعم 42,5% هيلاري كلينتون.

أهم عوامل تقريب نسب المرشحين في استطلاعات الأيام الأخيرة:

أ. إعلان مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (اف بي آي) "جيمس كومي" في 28 تشرين الأول/ أكتوبر عن وجود رسائل إلكترونية جديدة، يمكن أن تقود إلى فتح تحقيق حول طريقة تعامل هيلاري كلينتون مع معلومات وصفها كرمي بـ"السرية". هذا الإعلان الذي تحدث عنه البعض، بأنه كان بمنزلة قنبلة، صداها انعكس على نتائج الاستطلاعات خلال الأيام الأخيرة من الانتخابات.

فعلى سبيل المثال، الاستطلاعات التي أشرنا إليها، قد جرت كلها بعد إعلان جيمس كومي، إذ أكدت هذه الاستطلاعات تراجعا في مؤيدي كلينتون، وارتفاعا في مؤيدي ترامب.

ب. "الحسم في اللحظات الأخيرة"، كما في جميع الانتخابات وفي أنحاء المعمورة كافة، قد حسمت شريحتان في المجتمع الأمريكي أمرهما في اللحظات الأخيرة، مما ساهم ذلك في تغيير ملحوظ في نتائج الاستطلاعات، وكذلك نتائج الانتخابات:

- شريحة المترددين، التي كانت تريد المشاركة في الانتخابات، لكن لم تحسم خيارها، وهو حسم في الأيام القليلة الأخيرة التي سبقت الانتخابات، وقد ساهم ذلك في تقليص المسافات بين المرشحين في الاستطلاعات، وارتفاع منسوب ترامب في هذه الاستطلاعات. 

- شريحة الرماديين، هذه الشريحة التي كانت قد قاطعت الانتخابات في الدورات السابقة، أو لم تشارك فيها، قد حسمت أمرها من المشاركة في الانتخابات، فقررت المشاركة، بعد نجاح ترامب في استمالتها إلى صناديق الاقتراع عبر اتباع خطاب جماهيري دغدغ مشاعرهم، وهذا أيضا ساهم بشكل كبير في تغيير نتائج الاستطلاعات في الأيام الأخيرة لصالح دونالد ترامب، وهذا ما شهدناه في نتائج الانتخابات أيضا.

ثالثا: للاستطلاعات عناصر ومقومات علمية معتبرة، لا يمكن تجاهلها، ولعل أهمها في عملية تفسير أو تحليل نتائج استطلاعات الرأي، هو "نسبة الخطأ" التي تحظى بأهمية قصوى في تفسير النتائج، خاصة عندما تكون النتائج في استطلاعات الرأي متقاربة. هذه النسبة تختلف من دولة لأخرى، لكن بشكل عام تتراوح بين 3 إلى 5 في المئة.

المشكلة الرئيسية التي حدثت في قراءة استطلاعات الرأي الأمريكية، تعود إلى عدم إدخال هذا العنصر أي "نسبة الخطأ" في عملية تحليل النتائج من قبل المحلليين والمراقبين، والاكتفاء بالنسب المئوية التي قالت الاستطلاعات إنه يُتوقع أن يحصل عليها كل من المرشحين في العملية الانتخابية؛ فحسب.

وتظهر أهمية إدخال هذا العنصر في تحليل نتائج استطلاعات الرأي الانتخابية، عندما تكون النسب المئوية التي يحصل عليها المرشحون متقاربة. فعلى سبيل المثال، عندما يحصل مرشح على 44 في المئة، والآخر على 46 في المئة في استطلاع للرأي، فهذا من الناحية العلمية، وفق علم استطلاع الرأي، لا يعني أن الذي حصل على 48 في المئة، متقدم على الآخر في حقيقة الأمر، وهذه قراءة غير دقيقة، حيث كما قلنا عندنا "نسبة الخطأ" التي تتراوح بين 3 إلى 5 في المئة، وفي الانتخابات الأمريكية عادة هذه النسبة تتراوح بين 4 إلى 5 في المئة. فعندما ندخل عنصر "نسبة الخطأ" في تحليل النتيجة المذكورة، فمعنى ذلك أن المرشح الذي حصل على 44 في المئة يمكن في النتائج الحقيقية، أن تنزل هذه النسبة إلى 40 في المئة، أو ترتفع إلى 48 في المئة، وكذلك المرشح الذي حصل على 46 في المئة، يمكن أن تنزل النسبة إلى 42 في المئة، أو ترتفع إلى 50 في المئة. فكلا الاحتمالين واردان جدا. 

الذي حصل في الانتخابات الأمريكية عندما خرجت النتائج، أن نسبة الخطأ هذه في الولايات التي كانت حظوظ المرشحين "كلينتون" و"ترامب" فيها متساوية أو متقاربة تقريبا، كانت لصالح المرشح الجمهوري "دونالد ترامب". فعلى سبيل المثال، وليس الحصر نذكر أمثلة على هذا الصعيد: 

أظهر استطلاع للرأي أجرته "إن بي سي" وصحيفة "وول ستريت جورنال" و"جامعة ماريست" بالاشتراك في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر، أي ستة أيام قبل الانتخابات، في ولاية فلوريدا، شهدت تقاربا كبيرا بين كلينتون وترامب (45% - 44%)، وجاءت نتيجة الانتخابات بعد عملية الفرز في هذه الولاية، قريبة من تلك النتيجة، حيث وفق نتيجة الانتخابات، حصل ترامب على 49.12 في المئة مقابل 47.74 في المئة لكلينتون في فلوريدا.

في تحليل نتيجة الاستطلاع في ولاية فلوريدا، يظهر هامش الخطأ الذي قلنا إنه عادة يتراوح بين 4 إلى 5% في الانتخابات الأمريكية، أن كلينتون التي حصلت في الاستطلاع في هذه الولاية على 45 في المئة، حصلت في الانتخابات على 47.74، أي أكثر من نتيجة الاستطلاع بنقطتين إضافيتين، بينما ترامب الذي حصل في الانتخابات في هذه الولاية على 49.12 بالمائة من الأصوات، حصل في الاستطلاع على 44%، وهذا يعني أن النسبة ارتفعت بـ5 نقاط، وهو الحد الأقصى في هامش الخطأ الذي أشرنا إليه. 

رابعا: الاستطلاعات التي تجري على المستوى الوطني، ولا سيما في الانتخابات الأمريكية التي لها طبيعة معقدة، لا تمثل بالضرورة مؤشرا علميا لتشخيص مبكر لنتائج الانتخابات، وخاصة إذا ما كانت النسب متقاربة، كما لا يمكن الاعتماد على الاستطلاعات التي تتقارب فيها نسب المرشحين لاستشراف نتائج الانتخابات الأمريكية، وذلك بسبب النظام الانتخابي الأمريكي المعقد، فالاستطلاعات التي أجريت على المستوى الوطني، والتي أظهرت تقدم كلنتون بفارق بسيط، كانت نتائجها منسجمة مع نتائج التصويت الشعبي على المستوى الوطني، حيث زادت أصوات كلينتون على ترامب بأكثر من مليون صوت حتى الآن، ويتحدث المراقبون عن زيادة هذا العدد على مليوني صوت بعد الانتهاء من فرز أصوات الغائبين المقترعين عبر البريد.

فعلى سبيل المثال، المرشحة هيلاري كلينتون التي فازت بـ55 صوتا للمجمع الانتخابي بولاية كاليفورنا، بعد فوزها بأكثر من 60 في المئة من الأصوات الشعبية في هذه الولاية، مقابل 34 في المئة لترامب، كانت ستفوز بـ55 مقعدا في المجمع لو حصلت على 51 في المئة من الأصوات الشعبية أيضا، وهذا يعني أن 9% من هذه الأصوات غير مؤثرة في النتيجة، لأن كل مرشح لكي يفوز بكافة مقاعد المجمع الانتخابي في أي من الولايات، يحتاج إلى 51 في المئة من الأصوات فقط. 

كما أن ذلك يعني أن الاستطلاعات التي تجري على المستوى الوطني؛ لا تُعدّ معياراً حقيقياً للوصول إلى الفائز المحتمل بسبب اعتماد نظام المجمع الانتخابي، وليس التصويت الشعبي على المستوى الوطني.

مع ذلك، إذا كانت النسب التي يحصل عليها المرشحون في استطلاعات تجرى على المستوى الوطني متباعدة أكثر من عشر نقاط تقريبا، حينئد يمكن أن تشكل هذه الاستطلاعات مؤشرا لتشخيص نتائج الانتخابات، لكن إذا كانت النسب في الاستطلاعات متقاربة، فلن تشكل نتائجها مؤشرا حقيقيا لقراءة مبكرة لنتائج الانتخابات.

وفي الختام، أؤكد مرة أخرى، أنه فيما يتعلق بالانتخابات الأمريكية،لا بد أن يتم قراءة نتائج الاستطلاعات بشكل علمي يأخذ في الحسبان العناصر المهمة في تفسير النتائج، كما ينبغي أن يُنظر إلى الطبيعة المعقدة للانتخابات الأمريكية، للوصول إلى فهم دقيق يساعدنا في تحليل نتائج الاستطلاعات.
التعليقات (0)