رسالة الصورة

كتب فهمي هويدي: صورة المستشار هشام جنينة وهو يجر حقيبة ملابسه، أثناء توجهه إلى مقر نيابة أمن الدولة بأطراف القاهرة محملة بمعان كثيرة ينبغي أن نقرأها جيدا، ذلك أنها المرة الأولى في التاريخ المصري المعاصر التي يحال فيها رئيس جهاز المحاسبات إلى نيابة أمن الدولة. إذ منذ تأسيس الجهاز في عام 1942، أي منذ نحو ثلاثة أرباع القرن، لم يوضع الحارس الأول على المال العام في مثل ذلك الموقف. 

الأمر الثاني أن نيابة أمن الدولة كانت قد أصدرت بيانا في 28 آذار/ مارس الماضي ذكرت فيه أن المستشار جنينة يواجه اتهامات بتضخيم أرقام حول الفساد مخالفة للحقيقة الأمر الذي من شأنه تعريض السلم العام للخطر وإضعاف هيبة الدولة. وتلك تهمة قديمة مدرجة في قانون العقوبات منذ عدة عقود حيث اعتبر تكدير السلم العام جريمة يعاقب عليها بالسجن لمدد تتراوح بين ستة أشهر وثلاث سنوات، وقد جرى إحياؤها في السنوات الأخيرة لمعاقبة غير المرضي عنهم والتنكيل بهم، خصوصا أن التهمة فضفاضة للغاية ولا تحتاج إلى أدلة لإثباتها. 

الأمر الثالث أن الرجل حين دُعي إلى نيابة أمن الدولة فإنه توقع الأسوأ؛ إذ تحسب لاحتمال صدور قرار بحبسه اقتناعا منه بأنه يواجه طرفًا مصرا على الإيقاع به ولن يتردد في حبسه إذا ما ارتأى ذلك، بغض النظر عن سلامة موقفه القانوني. 

الأمر الرابع أن سجل المستشار جنينة وتاريخه المهني يكشف عن مشكلته الحقيقية التي عرضته لمتاعب كثيرة، ذلك أنه طوال عمره ظل مقاتلا صعب المراس، منذ كان قاضيا في خدمة العدالة وأحد رموز الدفاع عن استقلال القضاء سيرا على درب أبيه المستشار أحمد جنينة الذي انتخب رئيسا لنادي قضاة القاهرة، إلى أن قدر للابن أن يرأس جهاز المحاسبات ويقود معركته ضد الفساد بلا هوادة. وفي معركته تلك فإنه لم يبال بما بدا أنه خطوط حمراء أو جهات سيادية أو ملفات محظورة، وشأن كل من وضع أصبعه في عش الزنانير، فإنه ظل معرضا للسع طول الوقت.


الأمر الخامس أن مشهد الرجل وهو يجر حقيبته أمام مبنى نيابة أمن الدولة بدا وكأنه رسالة موجهة لكل من يأخذ الأمور على محمل الجد، غير مبال بالقوى الأخرى المستفيدة من استمرار الأوضاع القائمة، وهي قوى غير مرئية لكنها تملك من النفوذ ما يمكنها من أن تحافظ على مصالحها وتزيح من يقف في طريقها بمختلف السبل، مهما كان مقامه أو وزنه.


الأمر السادس أن مشهد مثول الرجل أمام محقق نيابة أمن الدولة، وقضاءه نحو 5 ساعات في المهمة التي استدعى من أجلها، بدا مهينا له وللدولة الذي كان قبل أشهر معدودة من أحد مسؤوليها الكبار، وللدقة فإن الإهانة لم تكن من نصيبه وحده، وإنما هي تصيب كل من يُستدعى إلى ذلك المكان الغامض والمهيب، المحاط بأسوار عالية، ولا يسمح بالدخول إليه إلا لمن سجل اسمه وحاجته لدى موظف قابع وراء مكتب جانبي، وعلى صاحب المصلحة أن ينتظر ساعات أو ساعات في الشارع تحت الشمس الحارقة، قبل أن يؤذن له بالدخول.


ما يستحق الملاحظة أن المُستدعَى إلى نيابة أمن الدولة يفترض أنه ذاهب إلى إحدى أذرع العدالة وأبوابها. لكنه في حالتنا يمر بطقوس ويوضع في أجواء تملؤه بالخوف والرهبة. ويوحَى إليه بأنه داخل إلى مؤسسة عقابية لا يأمن المرء على نفسه من ولوج أبوابها أو الخروج منها آمنا.


من المفارقات ذات الدلالة أن يكون ذلك مصير رئيس جهاز المحاسبات في مصر، في حين تشهد البرازيل زلزالا سياسيا كبيرا جراء تقرير أعده الجهاز المماثل هناك (يسمونه محكمة المحاسبة)، كشف عن فساد وتلاعب في موازنة عام 2015. وبسبب قوة المجتمع والبرلمان فإن التقرير كان سببا رئيسيا لعزل رئيسة البرازيل من منصبها بناء على تصويت في البرلمان. ورغم التباين في الحالتين، فإن البيانات التي أعلنها المستشار هشام جنينة لم تفتح ملفات إهدار المال العام، ولكنها انتهت بعزل الرجل من منصبه وإحالته إلى نيابة أمن الدولة.


لم توجه الاتهامات بعد إلى المستشار جنينة، لأن جلسة التحقيق التي تمت يوم الثلاثاء 24/5 كانت للاستدلال فقط، ويفترض أن تكون الصورة أكثر وضوحا بعد اللقاء الثاني الذي سيتم يوم الأحد المقبل. وحينئذ ستتضح معالم القضية التي ليس لنا أن نخوض في تفاصيلها في الوقت الراهن. وغاية ما نرجوه أن يحسن الأصل المنشود الانطباعات السلبية التي حملتها إلينا الصورة.

(عن صحيفة الشرق القطرية)