كتاب عربي 21

فواتير الفشل

تامر أبو عرب
1300x600
1300x600
1-
محمد الجيار مواطن مصري يعيش في مدينة السادس من أكتوبر، في شهر يناير 2015 كانت فاتورة الكهرباء الخاصة به قيمتها 50 جنيهًا، في الشهر التالي دفع 62 جنيهًا، وبعدها 99 جنيها، و286 جنيها، وبتوالي الشهور توالت الارتفاعات حتى وصلت فاتورته الشهر الماضي إلى 792 جنيها.

لم يطرأ تغيير على استهلاك محمد للكهرباء خلال هذه الفترة بحسب تأكيداته في الشكوى التي أرسلها لصحيفة المصري اليوم وإلى جانبها صور الفواتير، لم تدخل شقته أجهزة جديدة كثيفة الاستهلاك للكهرباء، ولا تحتوي على لمبات إضاءة كثيرة بحكم مساحتها المتوسطة.

كلما استلم فاتورته الشهرية دفع القيمة المطلوبة دون تفكير في الشكوى أو الكلام معتقدا أنها ستكون الزيادة الأخيرة، لكن لم يحدث، وفي 14 شهرا زادت فاتورة الكهرباء الخاصة به 14 ضعفا، وعندها قرر أخيرا أن يتكلم ويرسل شكواه إلى الصحافة ربما تجد من يقرأها.

لكل شيء في مصر ضريبة، لكن تبقى ضريبة الصمت هي الأغلى.

2-
قبل عدة شهور بدأ جميع المصريين يلمسون ارتفاعا جنونيا في فواتير الكهرباء والمياه والغاز الطبيعي، وقتها اعتقد البعض أنها ربما تكون تصفيات آخر العام لكن اتضح فيما بعد أنها أصبحت قاعدة حولها الصمت إلى أمر واقع.

المصريون المقسمون بين مواطن فقد وظيفته، ومواطن يبحث عن عمل، ومواطن لم يزد راتبه منذ 4 سنوات، ومواطن يملك عملا خاصا يكافح لضمان استمراره في ظل حالة الركود التي ضربت كل الأنشطة التجارية في البلاد، أصبح مطالبا بصورة شهرية بدفع مبالغ شهرية كبيرة نظير فواتير المياه والكهرباء والغاز، ومطالبا بالتوازي بالحصول مع أي سلعة أو خدمة بضعف – أو عدة أضعاف – السعر الذي كان يحصل عليها به قبل عامين.

في المقابل تحصل المصانع التي تبيع السلع بأضعاف سعرها العادل على الطاقة بسعر مخفض، وتخرج الشرائح مرتفعة الدخل تباعا من الحد الأقصى للأجور، ويتأجل تطبيق ضريبة الأرباح الرأسمالية بضغط من رجال الأعمال، وتعتمد الحكومة بشكل رئيسي على الجباية من الفقراء للتغطية على فشلها الاقتصادي المتتالي.

لكن الأمور لا يمكن أن تستمر على هذا النحو.

من يتابع تعليقات الناس على أخبار حملة #امسك_فاتورة التي دشنها مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي يدرك أن صبرهم أوشك على النفاذ، ومن يرى ضيقهم في التقرير الذي أذاعه برنامج 90 دقيقة حول الموضوع نفسه يعرف أن تحميل محدودي الدخل فاتورة فشل النظام وحكومته طوال الوقت لا يمكن أن يستمر كثيرا.

3-
حملة امسك فاتورة كاشفة لما تم، وجرس انذار لما قد يتم، صرخات الناس على مواقع التواصل الاجتماعي وفي المداخلات الهاتفية والتقارير التليفزيونية مرشحة للتحول إلى فعل احتجاجي أكبر من أن تتم السيطرة عليه.

الأمر يتجاوز كثيرا فكرة ارتفاع أسعار الفواتير، هو فقط مرآة لما أدت إليه سياسات الحكومات المتتالية التي تطمع دائما في الجنيهات المحدودة في جيوب الفقراء لأنها تأمن جانبهم وتعتقد أنها يمكن أن تخدرهم طوال الوقت بأحاديث الوطنية واللحظة الحرجة التي يجب أن يتحملها الجميع.

هذا يمكن فهمه إن كانت الإجراءات التقشفية تطال "الجميع" فعلا.

لكن الواقع يؤكد أن كل الإجراءات لا تقترب من رجال الأعمال والأغنياء، ربما لأنهم يملكون الأدوات التي يستطيعون بها الدفاع عن أنفسهم، هذا اتضح بشدة وقت فرض ضريبة الأرباح الرأسمالية حين تلاعبوا بالبورصة وساهموا في انهيارها حتى رفعت الحكومة الراية البيضاء وقررت تأجيلها لأجل غير مسمى، وهذا يتضح يوميا في الدور الذي يقوم به الإعلام الذي يسيطرون عليه في تمرير وتبرير أي إجراء استثنائي ضد الفقراء والذي سينقلب إلى النقيض ويضرب النظام نفسه في سويداء القلب إذا ما امتدت الإجراءات الاستثنائية إليهم.

أهم ميزة للحملة تأكيدها أن الفقراء لن يبقوا إلى الأبد الحلقة الأضعف، وأنهم يمتلكون صوتا قادر على الإزعاج متى قرروا استخدامه، وأن ما يمنعهم فقط إحساسهم بصعوبة اللحظة، لكن عندما يشعروا بأن من يطالبهم بمراعاة صعوبة اللحظة لا يراعيها هو سيصبح استمرار الصمت مستحيلا.

4-
تبشرنا الصحف بزيادات في أسعار السلع تصل إلى 40%، وصل سعر أنبوبة البوتاجاز إلى 50 جنيها، زادت مصروفات المدارس بمعدلات كبيرة، قلت كمية ألبان الأطفال المعروضة وبالتالي ارتفع سعرها، تضاعف مقابل المستخرجات الحكومية الرسمية، زادت أسعار كثير من الأدوية الرئيسية بنسبة تصل أحيانا إلى 10 أضعاف، كما زادت أسعار الملابس والفاكهة ومواد البناء والأجهزة الكهربائية والأدوات المنزلية، وبالتوازي مع ذلك جاءت زيادة فواتير المياه والكهرباء والغاز بقيم قياسية.

يتحمل الغلابة زيادات الأسعار نتيجة نقص الدولار وهم ليسوا السبب فيه، يتحملون نتيجة تراجع السياحة وهم لم يقصفوا السياح المكسيكيين ولم يتسببوا في إسقاط الطيران أو يقتلوا الطالب الإيطالي، يدفعون ثمن فشل سياسات اقتصادية لم يضعوها، بينما من فعل ذلك كله لم يرحل، لم يحاسب، لم يغير سياساته، لم يفعل أي شيء بخلاف مطالباته الدائمة بتحمل فترة لا يعرف هو نفسه متي ستنتهي.

"امسك فاتورة" صرخة على الحكومة أن تسمعها وتعيها، وأن تبحث عن حل لمشكلاتها بعيدا عن جيوب الفقراء.
التعليقات (0)