كتاب عربي 21

تْخَاتْخُوْنْكَهْ إيُّوتَاكِهْ وَتْخَاشُونْكَه وِيتْكُو

تميم البرغوثي
1300x600
1300x600
أحكي اليوم عن أخوة لي ولكم، من سكان أمريكا الأصليين. من يعرفهم البعض بالهنود الحمر، وهم ليسوا هنودا ولا حمر، إنما ابتلاهم بهذا الاسم أول غزاتهم، كريستوفر كولومبس، لأنه ضل سبيله، إذ كان يريد أن يصل إلى الهند بالإبحار غربا من الأندلس والدوران حول الأرض، فاصطدم بهذه القارة التي نعرفها اليوم باسم أمريكا، ووجد فيها أناسا. ولما كان هو يريد الهند، قرر أن من لقيهم هنود.

ما علينا.. أحكي عن معركة على نهر، بين الأمريكيين البيض، وبين شعب من السكان الأصليين يدعى السو، بضم السين، وعن بطن منهم يدعى اللاكوتا، يعيشون في أراض نعرفها اليوم بالأسماء التي فرضها عليها غزاتها: مونتانا، ونبراسكا، وداكوتا الجنوبية، في شمال الولايات المتحدة. وقد دارت رحاها يوم الخامس والعشرين من يونيو حزيران 1876.

وأحكي عن رجلين من اللاكوتا: أولهم طبيب، يدعى تْخَاتْخُونكَه إيًّوتاكِه، (بسكون التاءَين والنون من الكلمة الأولى) ومعناها، الثور الجالس، أو الذي يهم بالجلوس. والثاني، يدعى تْخَاشونكَه ويتْكُو، (بتسكين التاء والنون من الكلمة الأولى) أي الحصان المجنون، والترجمة الأدق، هي المجنون حصانُه. وقد تعمدت كتابة اسميهما بلغتهما الأصلية، كما كانا ينطقان بهما، فالأسماء مثل الأرض، تحتل وتحرر.

كان البيض قد عقدوا المعاهدة بعد الأخرى، ألا يتعدوا على أراضي اللاكوتا، وأن يتركوا لهم قطعان الجاموس الوحشي ليصيدوها ويعتاشوا منها. ولكن شاع بين البيض أن ثمة ذهبا في أراضي اللاكوتا، فخرقوا اتفاقهم، واجتاحوا أراضيهم.

ولما كان الغزاة، مثل كل الغزاة، قليلي العدد والشجاعة، كثيري السلاح والطمع، فقد انقضوا على قطعان الجاموس وأبادوها، ليجيعوا شعب السو الذي يتغذى عليها، ويهجروه من أرضه. ثم جعلوا يتتبعون القبائل، فإن وجدوا منهم جمعا على نهر هاجموهم وقتلوا رجالهم وأولادهم ونساءهم.

وتاريخ غرب الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الحقبة، ليس إلا سلسلة من المذابح، يشار إليها في الرواية الرسمية بالحروب الهندية، أو حروب السُّو الكبرى.

كان كثيرون من اللاكوتا، وغيرهم من القبائل، مثل الشايان والكرو في هذه المنطقة، يقبلون بما يعرضه عليهم البيض، وهو إخراجهم من أرضهم وإسكانهم في معازل، تحت الحصار. طعامهم وشرابهم وأرضهم يأخذها البيض، ويعطونهم منها ما يقيم أودهم بالإذن.

إلا أن الطبيب، الثور الجالس، وكان له من اسمه نصيب، رفض الذهاب إلى المعزل، وتمسك بحقه وحق أهله  في أرضهم، فأمعن البيض في إبادة قطعان الجاموس ليجيعوه وأهله. لكنه تمسك بحقه وعاش مع عدد قليل من عشيرته في الشتاءات الأمريكية القارسة، على حدود كندا اليوم، بلا طعام يأكلونه ولا فرو يلبسونه.

غير أن رفضه أن يبيع حريته بلحم الجاموس وبخرقة يلبسها، بدأ يلهم الشباب والشيوخ من قومه ومن غير قومه، وأخذوا ينسلون من كل حدب وصوب إليه، ولم يشعر البيض إلا وهذا الثور الجالس قد صار قائدا لآلاف المقاتلين. ثور عنيد جالس على أرضه، لا يتحرك، لا يهرب، ولا يخاف، وينتظرهم.

على جدول يسمى بلغة الغزاة ليتل بيغ هورن، أو القرن الكبير الأصغر، في منطقة يسميها السو، حقل العشب المدهن، التقى الجمعان. كان اللاكوتا، ملتفين حول الثور الجالس، إذا طلعت عليهم من وراء النهر كتيبة من الجنود الأمريكيين بقيادة جنرال من محبي الذهب والمذابح، يدعى جورج أرمسترونغ كستر.
 
كان فارس القوم، يومها ذلك الشاب الثلاثيني الملقب بالحصان المجنون، تخاشونكه ويتكو. ويقول الرواة إن الحصان المجنون هذا كان ذا شجاعة أسطورية، ويفسرون أن سببها كان رؤيا رآها في صغره: رأى فارسا على حصان، وكأنهما في عالم الأرواح، كانا ثابتين لا يحركان يدا ولا قدما، ولكنهما طافيان في الفضاء وكأنهما يطيران، وسط البرق والرعد. وكان ثمة أناس يحاولون أن يمسكوا بالفارس والحصان ليمنعوه من الانجراف في عاصفة البرق والرعد، ولكنه يتفلت منهم، فتصيبه صاعقة على خده الأيسر، وتصيبه حبات البرد، فيصير جسمه أحمر منقطا بالأبيض.

يقول الرواة، إن الفتى أفاق من نومه وقص رؤياه على أبيه، فأخبره أبوه أنها نبوءة، وأنه هو الفارس الطافي على الحصان، وأن الصاعقة على خده والبَرَد على جسمه يجب أن تكون شعاره في الحرب، فيدهن جسمه بالأحمر المرقط بالأبيض ويرسم صاعقة على خده الأيسر. وقال له أبوه أيضا، إنه إذا فعل ذلك ولم يلمسه أحد من قومه، ولم يأخذ سَلبا أو غنيمة، فإنه لن يجرح في الحرب.

في المعركة، سيقوم الحصان المجنون، بالركض من أقصى يمين الميدان إلى أقصى يساره، أمام صفوف الجنود الأمريكيين وهم يرمونه بالرصاص، ثم يعود من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وكأنه يتحداهم أن يصيبوه، ولا يصيبونه.

ويرى بقية اللاكوتا ما يصنعه فارسهم، الراكض عاريا، إلا من صبغته الحمراء المرقطة بالأبيض، على حصانه، ذهابا وإيابا، مرة واثنتين وثلاثا أمام صفوف من الجنود الأمريكيين، ولا يصيبه شيء من رصاصهم. 
يعديهم جنونه، ويهجمون على الغزاة، فينتصرون.

لا يكاد بنو السماء هؤلاء يغيبون عن بالي. ومنذ أن قرأت عن مشهد الشيخ المعتصم في الثلج وحده تهوي إليه أفئدة قومه، والفارس الراكض حصانه المجنون أمام رصاص العدى فلا يصيبونه، وأنا لا أستطيع نسيانهما. في حياتي القصيرة نسبيا، شهدت قتل الملايين من أهلي العرب، بأيدي الغزاة، أو بأيدي أنفسهم. 

إننا، في زمن الاستباحة الممتد منذ الحرب العالمية الأولى إلى اليوم، لأحوج ما نكون لقراءة تاريخ الشعوب التي هزمت وقاومت.

وإن العرب الذين يفرغون جهدهم في مصاحبة الأغنياء المتحكمين في البيت الأبيض، عليهم أن يعملوا على التحالف مع أشباههم من ضحايا الإمبراطورية الأمريكية القدامى والجدد. وإن قصص هؤلاء يجب أن تدرس في مدارسنا، وأن يكون في جامعاتنا أقسام لتعلم لغاتهم ومعتقداتهم وتواريخهم الشفهية والمدونة. 

أيها الناس، إني أرى وجوهنا تحت تيجان الريش.
التعليقات (1)
الراهبه
الأربعاء، 28-12-2016 01:00 ص
ان من قتل على يد الغزاة هو اقل بكثير من عدد المقتولين بيدي اهلهم

خبر عاجل