قضايا وآراء

روسيا.. انسحاب بطعم الانتصار

علي البغدادي
1300x600
1300x600
في خطوة مفاجئة جاء إعلان الرئيس الروسي بوتين في 14 مارس الجاري انسحابا جزئيا للقوات الروسية من سوريا بعد أن أنجزت الجزء الأكبر من مهامها، ورغم أن هذه الخطوة جاءت مفاجئة ومربكة للساحة السياسية في المنطقة –لأنهم سبق وأن أعلنوا أن العمليات العسكرية قد تستمر لسنتين قادمتين- إلا أنها تبدو مفهومة عند النظر إلى سياق الأحداث في سوريا ومدى ما حققه التدخل الروسي من إنجازات. 

لقد جاء التدخل الروسي في سوريا ضمن رؤية ترى أن سوريا جزء أساسي من متطلبات الأمن القومي الروسي، وأن إسقاط النظام السوري هو حلقة من سلسلة تستهدف إحياء الثورات الملونة في ساحات النفوذ الروسية، وأن ظهور روسيا كدولة عظمى يقتضي أن تملأ الفراغ الأمريكي في المنطقة وتكون صاحبة كلمة ونفوذ فيها، وأن التنظيمات الإسلامية المقاتلة وعلى رأسها تنظيم الدولة وجبهة النصرة يمثلان خطرا لاحتوائهما على المئات من المقاتلين من حملة الجنسية الروسية وجنسيات الجمهوريات المتاخمة لها. 

اتخذ الرئيس بوتين قراره بالتدخل العسكري المباشر في سوريا وفق خطوة محسوبة غير متهورة وقد كتب وقتها كاتب هذه السطور بأن التدخل (يتسم بالحذر الشديد، فروسيا في ضوء ظروفها الاقتصادية والداخلية لا تتحمل حربا واسعا، لذلك يستبعد المراقبون أن تتعمق روسيا في الداخل السوري، وتقتصر في عملياتها على تكريس معقل لها على الساحل السوري حتى حلب تمهيدا للحفاظ على تواجدها في أي عملية سياسية قادمة). 

في البداية أبهرت الطائرات الروسية المراقبين بتنفيذها ما يقارب 90 طلعة جوية في اليوم، ولكن ولأنه لم يكن لدى موسكو تجربة في استخدام الطائرات الحربية خارج حدودها في السنوات الأخيرة، ونظرا لعدم وجود منظومة لوجيستية جيدة، تبين أن الحفاظ على هذه الوتيرة لوقت طويل مهمة صعبة وكان تقدير القيادة الروسية مفاده أن تغطية الأراضي السورية بالطيران يحتاج عددا مضاعفا من الطلعات الجوية، وما يقتضيه ذلك من إمداد لوجستي مستمر، وخدمات أرضية وتأمين لقواعد الطيران والخطوط الخلفية بقوات برية للحماية من مفاجآت الميدان، ومن أجل ذلك على روسيا بناء قواعد جوية، بالإضافة إلى مخازن للذخيرة والعتاد وقطع الغيار، بمعنى نقل كميات كبيرة من الوسائل والمعدات العسكرية على غرار ما تفعله القوات الأمريكية في الخليج مثلا. 

طبعا وتيرة الإقلاع ارتفعت بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية، وزادت روسيا من عديد قواتها وأرسلت مزيدا من المعدات، وحسنت من ظروف الإمداد اللوجستي، ودرست جهوزية الطائرات المقاتلة واستدامة وتيرة الطلعات الجوية وكفاءتها. 

وبطبيعة الحال فإن الضربات الجوية لا يمكن لها أن تحسم المعركة وإن كان لها دور أساسي في تحجيم قوات المعارضة السورية، لكن يجب أن يساندها زحف بري وبتقدير خبراء عسكريين روس فإن حسم المعركة البرية في امتداد الأراضي السورية يحتاج جيشا لا يقل تعداده عن نصف مليون مقاتل وهو عدد ليس باستطاعة أحد حشده لا الروس ولا الإيرانيون ولا السوريون، وقد قامت قوات النخبة الروسية بعمليات نوعية في مناطق سيطرة تنظيم الدولة والتنظيمات الإسلامية الأخرى وفوجئت ببسالة المقاتلين. 

كان هناك توجه روج له بعض السياسيون الروس على أساس تصنيف قوات المعارضة السورية بحيث يتم عزل التنظيمات الإسلامية المتطرفة حسب وجهة النظر الروسية، ثم تشكيل جيش موحد من قوات النظام السوري والكتائب المتحالفة معه بالإضافة إلى قوات المعارضة (المعتدلة) وإعطاء الأولوية لحرب تنظيم الدولة وجبهة النصرة مع دعم إقليمي ودولي، لكن هذه الفكرة لم تجد لها سبيلا على أرض الواقع. 

كل هذه العوامل أدت إلى حصول قناعة لدى القيادة السياسية والعسكرية الروسية بأن حل الأزمة السورية هو حل سياسي ولا يمكن له أن يكون عسكريا، ولعل هذا ما يفسر جزءا من المشهد الميداني والسياسي والحرص على عقد هدنة وإلزام جميع الأطراف بها بعد أن حقق الجيش السوري بسبب الغطاء الجوي الروسي تقدما كبيرا على امتداد الأراضي السورية خصوصا في ريف حلب وإدلب واستعاد السيطرة على 10 آلاف كيلومتر، وهو بهذا استطاع قلب المعادلة الميدانية لصالحه وأصبح في مأمن عن أي تهديد وجودي بل إنه امتلك زمام المبادرة. 

أمر مهم يجدر ذكره وإن كان قد أخذ أكبر من حجمه في بعض التحليلات وهو العامل الاقتصادي، فرغم أن روسيا تعاني أزمة اقتصادية ضاغطة إلا أن تدخلها في سوريا ليس بذلك التدخل المؤثر اقتصاديا فالورس مقتصدون في نفقاتهم ولا يمكن القياس بحجم الإنفاق الأمريكي إذ تبلغ كلفة العمليات العسكرية الروسية في سوريا ما بين 2,5 و 4 ملايين دولار يوميا وهو مبلغ منخفض إذا قيس بميزانية الدفاع الروسية البالغة 50 مليار دولار سنويا، وفي مقابل هذا المبلغ اكتسب الجيش الروسي خبرات عسكرية جديدة وقام بتجربة طائراته الحديثة والمحدثة واختبر إمكانياته الصاروخية، وأعاد تشكيل منظومته اللوجستية واكتسب قواعد عسكرية جديدة، فالمبلغ الذي أنفقته روسيا إذن ليس بذلك المبلغ الباهظ والمؤثر خصوصا إذا ما قورن بعوائده، لكن الخشية كانت في التورط في حرب بعيدة المدى لا تتحملها روسيا في وضعها الحالي. 

يثير بعض المراقبين أيضا أن خلافا روسيا-سوريا وروسيا-إيرانيا هو ما أدى إلى إعلان انسحاب القوات الروسية، وهو أمر ممكن بطبيعة الحال لكن المبالغة فيه يخرجنا عن الرؤية الدقيقة للمشهد، فرغم أي خلاف قد يظهر بين الحلفاء إلى أن هذا المحور (روسيا-إيران-سوريا) هو أكثر المحاور المنخرطة في الشأن السوري تماسكا إذا ما قارناه بمستوى التنسيق بين دول الإقليم والمنظومة الدولية، كما أن الخلاف في الرؤى يسير ضمن سياق لن يؤدي إلى قلب المعادلة بشكل جذري، ولا يمكن بحال التقليل من أهمية القوى الموالية لإيران والمتواجدة في وضع مريح ميدانيا على الأرض السورية، والتي باستطاعتها خلط الأوراق إن تم تهميشها. 

نستطيع القول إن القوات الروسية لم تحقق جميع أهدافها المعلنة من تدخلها العسكري المباشر في سوريا ويأتي على رأس تلك الأهداف القضاء على تنظيم الدولة وهو هدف صعب المنال، إلا أنها وفق حسابات الربح والخسارة أجادت لعبة الدخول ثم الخروج بأقل الخسائر، فقد أوقفت تدهور قوات النظام السوري وأعادت له زمام المبادرة، وقامت بمناورات عسكرية حقيقية وأعادت تقييم جهوزيتها، وأبقت لها قاعدتها البحرية العريقة في طرطوس وأنشأت قاعدة جوية في حميميم في اللاذقية وأبقت القوات الكافية لحماية قواعدها ومن العتاد ما يفي بالحاجة لإعادة التدخل السريع، ونشرت منظومة الدفاع الجوي اس اس 400 المتطورة، وتقوم طائراتها بأعمال الدورية في الأجواء السورية، وأوقفت الخطة التركية القاضية بإقامة منطقة عازلة، ونجحت في العودة إلى صدارة الموقف الدولي بحيث أصبحت صاحبة الكلمة الأولى في الشأن السوري بعد أن استفردت الولايات المتحدة بالمنطقة لسنوات، وأتى إعلان الانسحاب الروسي لينزع فتيل حرب طويلة الأمد كان من الممكن لها أن تندلع لو توفرت إرادة أمريكية لتوريط روسيا، أو لو تورطت أكثر في ما يعرف بالحرب ضد الإرهاب وهي مستنقع صعب ليس من السهل الخروج منه وقد نأت الولايات المتحدة بنفسها عن السقوط فيه، ولترسل رسائل إيجابية لدول الإقليم عن نيتها الجادة في إطلاق المفاوضات وأنه ليس لديها النية للدخول في مواجهة عسكرية معها. 

لقد طبق بوتين بسياسته القصة التي وردت في التراث العربي حيث قيل لعنترة: أنت أشجع العرب؟ قال: لا ولكنني أقدم حين أرى الإقدام عزما، وأحجم حين أرى الإحجام حزما ولا أضع رجلي موضعا إلا وأرى لي منه مخرجا، وكنت آتي إلى الضعيف الجبان فأضربه الضربة يطير لها قلب الشجاع فأثني عليه وأقتله. 
التعليقات (0)