مقالات مختارة

ينفذون وصية الملك خيتي!

فهمي هويدي
1300x600
1300x600
كتب فهمي هويدي: لا يفاجئنا قرار وزارة التربية والتعليم حذف اسم وصورة الدكتور محمد البرادعي، نائب رئيس الجمهورية السابق، من كتاب مدرسي تحدث في أحد موضوعاته عن الفائزين المصريين بجائزة نوبل. ذلك أن إقصاء الآخر ومحوه من التاريخ تقليد فرعوني قديم، حين كان الفرعون يمحو تاريخ من سبقه من على المسلات ليكتب بدلا منه تاريخه هو، معتبرا أن التاريخ يبدأ به. 

ومنذ ذلك الحين فإن رضا الحاكم أو سخطه في مصر أصبح عنصرا مهما في كتابة التاريخ. وهي الفكرة التي سجلها الدكتور جمال حمدان في كتابه «شخصية مصر»، حين ذكر أن الفرعون الذي كان يتولى ضبط النهر مارس بدوره ضبط الناس. إذ «بغير ضبط الناس يتحول توزيع الماء إلى عملية دموية»، ولأنه ضابط النهر وصانع المصر البعيد فقد صار بمثابة «الملك الإله». وعلق على ذلك قائلا إن المصريين القدماء أصبحوا عبدة النيل أصلا وعبيد النيل أيضا. «ثم أصبح عبيد النيل عبيد الدولة أو عبيد فرعون بالتبعية وفي النهاية» ــ (شخصية مصر ــ جـ2 ــ ص 553).

في تقصي الجذور، لا يستطيع المرء أن يتجاهل تلك الخلفية خصوصا حين يجد أن سلطة الدولة بلغت أوجها وقدرتها على التأثير «ضبط الناس» تضاعفت مئات المرات من خلال أذرعها الأمنية وأبواقها الإعلامية. في ظل ضعف المجتمع وتدجين مؤسساته واستتباعها، فإن رضا السلطة أو سخطها أصبح يحدد مصائر الناس. 

ولا غرابة والأمر كذلك في أن يمحى اسم الدكتور البرادعي من كتاب اللغة العربية المقرر على الصف الخامس الابتدائي. ذلك أن الرجل حين اختلف مع السلطة وشد رحاله إلى الخارج، فقد استحق اللعنة في مفهوم الثقافة الفرعونية، إعمالا بوصية الملك خيتي لابنه مريكارع (نحو سنة ألفين قبل الميلاد)، التي قال فيها: «إذا وجدت في المدينة رجلا خطرا يتكلم أكثر من اللازم ومثيرا للاضطراب، فاقض عليه واقتله وامح اسمه وأزل جنسه وذكراه وأنصاره الذين يحبونه» (نفس المصدر ص555).

استنادا إلى هذه الوصية، فإننا إذا أحسنا الظن سنرجح أنه تم التعامل بقدر من الرأفة مع الدكتور البرادعي (حتى الآن على الأقل)، حيث كل ما حدث أن اسمه تم محوه فقط من كتب وزارة التربية والتعليم. أما إذا استخدمنا منطق كتائب الإبادة فقد نقول إن إقامته بالخارج جنبته تنفيذ الوصية بالكامل. ولا غرابة في ذلك لأنها نفذت بحذافيرها بحق آخرين ممن تكلموا أكثر من اللازم وأثاروا الاضطراب!

الشاهد أن لعنة الآخر وإقصاءه بصورة أو أخرى باتت جزءا من الثقافة السائدة في الأجواء المخيمة. فكل المعارضين تم محو أسمائهم بالكامل من قائمة المشاركين في البرامج التلفزيونية، وكتاب الصحف القومية، كما أنهم تحولوا إلى منبوذين في المجتمع. وللمستشار زكريا عبد العزيز رئيس الاستئناف تجربة في هذا الصدد. فالرجل لم يكن معارضا يوما ما، ولكنه كان مدافعا عن استقلال القضاء وعن ثورة الشعب في عام 2011، ولذلك فإن 13 ألف قاض انتخبوه رئيسا لناديهم ثلاث مرات. 

لكن الرضا رفع عنه لسبب أو آخر فوجهت إليه الاتهامات وقدم إلى المحاكمة. وحين حدث ذلك فإن زملاءه الذين انتخبوه خلال المرات الثلاث تجنبوه وقطعوا صلتهم به، ولم يقف إلى جواره سوى قاض واحد هو المستشار فؤاد راشد. وحين صدر الحكم بإحالته إلى المعاش، وتأكد سخط السلطة عليه فإنه أصبح يعيش في عزلة، وانضم إلى قائمة المنبوذين سياسيا.

يروى في هذا السياق أن فؤاد باشا سراج الدين مر بتجربة مماثلة. ذلك أنه بعد حظر حزب الوفد وسجنه ورفع عنه الرضا فإن هيئة السكة الحديد سارعت إلى إلغاء تصريح أعطي له حين كان وزيرا للمواصلات يوما ما، يخوله حق ركوب القطارات بالمجان. لكنه حين أطلق سراحه وحكم بأحقيته في قيادة حزب الوفد فإنه استيقظ ذات يوم لكي يجد بطاقة السفر المجاني على قطارات السكة الحديد قد أعيدت إليه في صندوق بريده. إذ أدرك مسؤولو السكك الحديد أن السلطة رضيت عنه وطوت صفحة سخطها عليه.

لدي قصص أخرى وتجارب شخصية عديدة تعبر عن هذه الحالة. إحداها رواها الدكتور كمال أبو المجد، ذلك أنه كان له صديق (هو الدكتور فتحي عثمان) شغل في الخمسينيات وظيفة مدير مكتب وزير الأوقاف آنذاك. وكانت العلاقة بينهما قوية بحيث كان التواصل هاتفيا بينهما يتم بين الحين والآخر. وذات يوم اتصل به الدكتور أبو المجد على رقمه الخاص فرد عليه صوت آخر أبلغه بأن ذلك الاسم لا وجود له في المكتب. وإذ أدهشه ذلك إلا أن دهشته زالت حين علم أن الدكتور عثمان تم اعتقاله. فمحا زملاؤه اسمه من المكتب وأنكروا وجودهم فيه. اقتناعهم بأن سخط السلطة عليه كان لشطبه ونسيان اسمه.

ليست الظاهرة مقصورة على عامة الناس الذين دعاهم المأثور الشعبي لأن يتمرغوا في تراب «الميري» (السلطة) إذا لم يتمكنوا من اللحاق بركابها، لأننا نجد مثقفين، وإعلاميين، يقودون حملات محو المعارضين، واستئصالهم، ومنهم من يتحدث صراحة عن إبقائهم في السجون طول الوقت في تأويل «حداثي» لوصية الملك خيتي!

المفارقة أن كثيرين استنفروا لمحو اسم الدكتور البرادعي من قائمة المصريين الحائزين على جائزة نوبل، لكنهم التزموا الصمت إزاء إعادة كتابة تاريخ ثورة 2011 بكامله، ليناسب مصالح الأطراف المعنية ومراكز القوى الجديدة.
0
التعليقات (0)