كتاب عربي 21

ما بعد التطبيع ووسائل المقاومة المعطلة

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
"عميلنا العزيز مرحبا بك في أورانج، تم تغيير العلامة التجارية لشبكة موبينيل إلى أورانج"، تلك رسالة تلقتها هواتف ملايين المصريين في يوم 8 مارس 2016، مع هدية مجانية 60 دقيقة. نحن شركة فرنسية نعمل في عديد من الدول العربية والأوربية، هكذا تعرف كل الشركات متعددة الجنسيات نفسها للعرب، لا أحد منهم يفضل البوح بوجود فرع لشركته في إسرائيل؛ نظرا لمعرفته الدقيقة بحساسية هذا الأمر بالنسبة لشعوب العالم العربي والإسلامي، وما يتبعه من آثار ليست في صالحه على الإطلاق.

حاولنا البحث والتقصي عن شركة أورانج وعلاقتها بإسرائيل، فاكتشفنا أن علامتها التجارية موجودة في إسرائيل منذ عام 1998 من خلال شراكة مع شركة "بارتنر الإسرائيلية"، وفى عام 2011 وقعت الشركتان اتفاقية تجديد لاستعمال العلامة التجارية والمساعدة التقنية وغيرها. 

كما اكتشفنا أن الشركة الإسرائيلية "بارتنر" تساهم مباشرة في أنشطة الاستيطان في الضفة الغربية ومرتفعات الجولان السورية من خلال نشرها 176 جهاز إرسال وواصل فوق الأراضي الفلسطينية المصادرة من قبل الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، كما تنتشر محلاتها التجارية في المستوطنات التي تم إنشاؤها بمخالفة القوانين الدولية التي تقر واقع الاستعمار نفسه.

نظرا لما سبق، فقد تعرضت الشركة الفرنسية فرانس تيلكوم (أورانج) لهجوم شديد في الأوساط الأوروبية نفسها تبلور في تدشين عدد من الحملات الشعبية الداعية لمقاطعة الشركة في عدد من البلدان الأوربية، بما فيها بلد المنشأ (فرنسا)، كان آخرها حملة في يونيو 2015، وهو ما دفع رئيس الشركة للإعلان عن اعتزامه الخروج من إسرائيل، ولكن بطريقة المماطلة، قائلا: "أحتاج وقتا لكي لا أعرض الشركة لمشاكل قانونية" دون أن يحاول بالمناسبة نفى التهم الموجهة لأورانج بخصوص تقديمها خدمات للمستوطنات المجرمة وفقا للقانون الدولي.

استطاعت أورانج اختراق السوق المصري منذ سنوات، متخفية وراء رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس رئيس شركة موبينيل سابقا، وصاحب أكبر قضية تهرب ضريبي في مصر حتى الآن (قيمتها 14 مليار جنيه)، فقد قام الأخير ببيع أغلب الشركة لأورانج في عام 2009، ثم باع بقية الحصة في 2015، ومنذ ذلك التاريخ والحديث يتداول بطريقة جس النبض حول تغيير العلامة التجارية من موبينيل إلى أورانج، إلى أن جاءت لحظة الحسم في 8 مارس الماضي ليتم الإعلان عن ذلك رسميا في مؤتمر صحفي في قلب العاصمة المصرية القاهرة.

لم تمر دقائق على إعلان تغيير العلامة التجارية حتى دشن بعض المصريين الواعين بتاريخ الشركة وسجلها صفحة على موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك؛ لمقاطعة الشركة، ودعوة المصريين للتظاهر ضدها في 15 مارس، وهو ما حصد تفاعلات كبيرة للغاية وصلت إلى 300 ألف مشترك في أول ساعات إنشاء الصفحة، ولكن فجأة تعرضت الصفحة للحظر، واختفت فاعلياتها.

خرجت الشركة بعد إغلاق الصفحة، تتحدث للمصريين بالطريقة الاستحمارية ذاتها التي يتحدث بها السيسي إليهم: "ليس لنا فرع في إسرائيل"، هكذا قالت الشركة في بيان رسمي للمصريين، وهى نفسها الشركة التي رضخت لحملات المقاطعة الأوربية في مايو 2015، قائلة: "سنخرج من إسرائيل، ولكن نحتاج وقت". نعم هي الشركة ذاتها "أورانج"، والفارق الزمنى بين التصريحين ثمانية أشهر فقط، ولكن ربما المخاطب مختلف، فالأول الأوروبيون، والثاني العرب والمصريون.

ربما لا يعرف كثير من المصريين أن شركة موبينيل اتهمت بالتجسس لحساب إسرائيل في أغسطس 2011، في قضية شهيرة "عرفت بأبراج موبينيل على الحدود المصرية الإسرائيلية"، التي اعترف فيها نجيب ساويرس نفسه -بعد محاولات للنفي- ولكنه ألقى المسؤولية على موظفين بالشركة، وتم تحويل القضية في عهد المجلس العسكري في عام 2012 إلى محكمة جنح اقتصادية، وحكم فيها بالسجن 3 -5 أعوام، مع إيقاف التنفيذ، وغرامة على خمسة موظفين بالشركة وانتهت القضية.

إن ما حدث في مسألة أورانج لا يمكن فهمه بمعزل عن عمليات التطبيع التي تجرى على قدم وساق بين نظام المنقلب والعدو الصهيوني على كافة المستويات السياسية والدبلوماسية والأمنية والدفاعية والاقتصادية والثقافية والرياضية.. الخ، ولكن قصة مختلفة كثيرا عما سبق؛ نظرا لارتباطها بعموم المصريين الرافضين للتطبيع على المستوى الرسمي، ولكنهم غير قادرين على فعل شيء أمام نظام يحكم بقوة السلاح ولا يتورع في الإتيان بأعمال الترهيب والترويع والقتل والقمع والتعذيب.. الخ.

إن ما حدث في قضية أورانج أخطر مما يحدث على المستوى الرسمي؛ لارتباطه بعموم المصريين الرافضين للتطبيع مع الكيان الصهيوني على كافة المستويات، فإذا بهم يفاجأون بانتقال خدمات هواتفهم إلى شركة متواجدة في إسرائيل تقدم خدماتها للمستوطنات الإسرائيلية عيانا بيانا جهارا نهارا وسط استنكار عالمي وحملات أوربية لمقاطعتها، إذا بهم في قلب عملية تطبيع غادرة تمت بعيدا عنهم على مرأى ومسمع من مؤسسات دولة يحكمها ويتحكم فيها جنرالات، إذا بهم يستقبلون رسائل التطبيع إلكترونيا " أهلا بكم في أورانج"، هكذا دون اختيار منهم أو سابق معرفة بهوية الشركة التي تحولوا إليها في دقائق.

إن ما حدث لا يمكن وصفه إلا بعملية "تطبيع ماكرة خادعة غادرة " تمت من وراء ظهر المصريين، تستهدف كسر ما تبقى لديهم من مخزون حضاري مقاوم للتطبيع بالفطرة، وهو أمر لا يمكن فهمه بعيدا عن مبادرات التطبيع التي خرج بها مثقفون مصريون ورياضيون مؤخرا، مطالبين بالتطبيع العلني مع إسرائيل، وكذلك لا يمكن فهم هذا الأمر بعيدا عن سلوك النظام الانقلابي القائم في علاقته بإسرائيل على كافة المستويات.

لقد وصلت عمليات التطبيع الرسمي حدا فاق كل سقف بما فيها سقف مصطلح التطبيع نفسه، بحيث يمكن القول إن هذا المصطلح قد فقد قدرا كبيرا من قدرته التفسيرية التي تميز بها في الماضي، نظرا للتحولات النوعية التي جرت في هذه المساحة المهمة على مستوى السياسة الخارجية المصرية تجاه القضية الفلسطينية والعدو الصهيوني، الأمر الذى جعلنا نرشح مفهوما جديدا لوصف وتفسير ما يجرى في هذه المرحلة أسميناه "ما بعد التطبيع"؛ لأن ما يحدث على المستويات المختلفة تخطى الحالة الطبيعية في علاقات الدول ببعضها، إلى حالة أقرب للتبيعة للعدو صراحة، وليس أدل على ذلك سوى ما نتابعه من تصريحات شبه دورية رسمية وغير رسمية تخرج من الكيان الصهيوني تتفاخر بأن السياسات التي يتخذها السيسي هي من بنات أفكارهم وتعليماتهم وضغوطهم، كما في ملف إغراق الأنفاق، وهو أمر بالغ الخطورة، ويحتاج وقفة على كل المستويات، خاصة عندما تصل عمليات التطبيع إلى المستوى الشعبي بطريقة الاستغفال والاستحمار والاستهبال، كما حصل في موضوع أورانج.

آن الأوان لاستعادة وسائل المقاومة المعطلة لدى الأمة وإعادة تشغيلها وتفعيلها، وعلى رأسها حملات المقاطعة لإسرائيل والشركات الداعمة المعروفة بالشركات متعددة الجنسيات المتواجدة في كل البلدان العربية، سواء العاملة منها في مجال الاتصالات، كما في حالة أورانج التي تحدثنا عنها، أو في مجال المشروبات والأغذية الأخرى مثل كوكاكولا ونستلة وغيرها أو في أي مجالات أخرى. آن الأوان لعمل إعلامي منظم طويل الأمد يقوم على التنسيق بين كل المنابر الإعلامية الحرة يستهدف مناهضة عمليات التطبيع المتسارعة على كافة المستويات الرسمية وغير الرسمية، ويستعيد تنشيط وتفعيل وسائل المقاومة المعطلة في الأمة، وعلى رأسها المقاطعة الاقتصادية. فهل آن الأون.
التعليقات (0)