قضايا وآراء

الانتقال من ألم الجراح إلى أمل المستقبل

جواد الحمد
1300x600
1300x600
إن قلوبنا تعتصر ألماً لما يجري من سفك للدماء وتشريد للشعوب وتدمير للحضارة وإنهاك للأمة واقتصادها وجيوشها وشبابها، حيث إننا نتعرض اليوم كأمة عربية وإسلامية لعملية استنزاف أساسها أخطاؤنا التي استفاد الآخرون منها ليدفعونا إلى الوراء.

لكن المشهد المؤلم هذا وبما يُوحي من تشاؤم وضباب لم تعهده أمتنا إلاّ قليلاً في تاريخها التليد، كما أنه جاء بعد بشائر واسعة ومتعددة من النجاحات في بدايات التحول الديمقراطي والحريات والتطور الحضاري والانفتاح على العالم، ومحاربة الجهل والفقر والمرض في ظل أجواء الربيع العربي لعام 2011، والتي انقضَّت عليها القوى المتضررة الداخلية والخارجية، والتي نجح الأردن بتجاوزها بإصلاحات سياسية وتشريعية ودستورية معقولة، ومر الربيع عليها بسلام بحكمة الدولة وقيادتها وحكمة المعارضة السياسية، واعتدال المزاج الشعبي الأردني بعيداً عن العنف والتطرف والإرهاب.

لكن دولاً أخرى ذهبت رياح الاستبداد فيها لِتَقْضي على الأمل، واستُخْدِم العنف المفرط بكل أشكاله لمواجهة تطلعات الشباب والشعوب وتحديات المرحلة، وأُدْخِلَت الأمة في حروب أهلية وطائفية وجد الطامعون فيها من الجوار الإسلامي والنظام الدولي فرصتهم فيها للتدخل في شئوننا، بل وإرسال الجيوش والمليشيات والإرهابيين ليساهموا في تمزيقها، حتى أصابت الهشاشة والدمار المجتمع والدولة، ولم تُفْلِح النخب الحاكمة ولا المعارضة الوطنية أن تنجح في حسم المعركة أو الانتقال بهذه البلاد إلى بَرِّ الأمان، أو التوصل إلى تسوية سياسية ومصالحات، حتى أصبحت دولنا ألعوبة في يد النظام الدولي وحلفائه، حيث استرخت إسرائيل.

ولولا البطولات الفدائية التي يقوم بها الشباب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال العسكري ومستوطنيه المسلحين، وروح المقاومة وقواها الحية التي تتربص بهذا العدو لتدحره عن أرض فلسطين، لما وجدت إسرائيل ما يُقْلِقُها، حيث الجيوش الممزقة والحروب الأهلية الطاحنة والتدخل الدولي الذي يعمل لخدمة أمنها لعقود قادمة.

لكن هذه التحولات والانعطافات الصعبة والمدمرة إنما هي لحظات تاريخية عابرة حسب السنن الكونية، وحسب الخبرة التاريخية المعاصرة، فما امتدت حروب أهلية لعقودٍ إلا نادراً في التاريخ، فيما كانت في معظمها ضمن فترات 5-10 سنوات، حيث إن أمتنا هي الأقل دخولاً في هذا الأتون المجنون من بين الأمم، وهاكم الحرب الأهلية الأميركية والاسكندينافية، وحروب قبائل الجرمان، والثورة الفرنسية، وحرب الكوريتيْن، والحروب الأفريقية، وحروب أميركا اللاتينية، والحرب الصينية اليابانية، والحربين العالميتين الأولى والثانية خلال خمسين عاماً والتي قتل فيها أكثر من 55 مليون إنسان، وهكذا..
 
علماً بأن معظم هذه الحروب الأهلية الطاحنة كانت في البلاد الأخرى وفي الحضارات الأخرى، ولم يكن نصيبُ حضارتنا منها إلاّ النَزَر اليسير بحمد الله، ورُبَّما كان هذا أحد أسرار الحُنَق والقهر والاستهجان الذي يصيبنا مِمَّا نرى منها اليوم في بلادنا، ولئن كُنَّا قد دخلنا عامنا السادس في هذا المشهد الصعب فإننا على أبواب عبوره إلى توافق وطني ومصالحات تاريخية قسرية رغم ما تُخَطِّط له الدول الكبرى من تفتيت وإنهاك.

ولذلك فإن محاولة مفكري إعلام الخصوم والأعداء إقناعنا بأننا خارجون عن التاريخ، وأننا أمة ممزقة بطبعها، وأن الاستبداد فينا قيمة حضارية واجتماعية، وأن الإرهاب مؤصل في ثقافتنا، وأن مناهج التعليم لدينا لا تُخَرِّج إلاّ الجيل المُدَمَّر والمتخلف، وأن الفجوة الحضارية المادية بيننا وبينهم لا يمكن رَدْمها، وأننا لا نستطيع حَلَّ مشاكلنا إلاّ بالاستعانة بالخارج، إنما هي جزءٌ من المعركة والصراع والتنافس الحضاري بين أمتنا العريقة تاريخاً وقيماً وأنماطاً وبين أممهم العريقة أنماطاً وماديةً، وإن ثقتنا بأنفسنا وبديننا وبأمتنا وعروبتنا وحضارتنا يجب ألاّ تقبل الاهتزاز، وإلاّ فقدنا ذاتنا وتلاعب بنا الآخرون كما شاءوا، وساد عصر الاستعمار فينا ثانية، وتمتعت إسرائيل برغد العيش على حساب أرضنا ومقدساتنا وثرواتنا وأمْنِنا.
 
ونعتقد أن طريق الحضارة والتقدم على درب البناء والحداثة، ولإعداد الجيل العربي للتنافس الحضاري الواسع، ولاستعادة مجد الأمة وعزتها، ولاستعادة وحدتها واستقلالها، ووقف الحروب الطاحنة بينها، ولاستئناف التحول نحو الديمقراطية والحرية والشراكة الوطنية والقومية الكاملة بين أبناء الأمة، إنما هو السبيل لانتهاء هذه المعاناة ونقل الأمة إلى ساحات التنافس الحضاري المتميز، وذلك لا يُلغي أهمية معايشتنا الصعبة لآلام التشرد والجراح والقتل واليُتْم التي يُعاني منها أبناؤنا في جوارنا العربي العزيز، ولا يُنْسِينا حجم ومخاطر التطرف والإرهاب الذي زرعه بيننا خُبراء من الخصوم والمُعَادين لنا.

وإن ظاهرة تنظيم "القاعدة" ومن بعدها تنظيم "داعش" لَتُنْبِئ بحجم الاختراق الاستخباري الذي تحقق في مجتمعاتنا ليثيروا علينا أبناءنا، وليأخذوهم رهينةً لفكر غريب وجدوا له جذوراً شاذة في تاريخنا، وليرفعوا شعارات بَرَّاقة تقف خلفها أكذوبة مرسومة لتمزيق الأمة واستنزاف طاقاتها ومواردها في صراعها الداخلي، ليسهل عليهم قَضْمُنا وانتهاك سيادتنا وتوجيه طاقاتنا إلى غير الوجهة التي تخدم مستقبلنا ومشروعنا الحضاري.

وبرغم أننا نعيش في الأردن في واحة من الأمن والأمان، غير أن أنياب التطرف والإرهاب تُحاول التسلل إلى أولادنا، ولئن تمكَّنا من إفشالها على مدى العقود الماضية فإننا قادرون على مقاومتها، وحماية أبنائنا منها، بإصرارنا على الحرية والديمقراطية والشراكة والتعاون والوحدة الوطنية والاعتدال في فكرنا الإسلامي والعربي مهما ادلهمت الخُطُوب.

وإن الشباب اليوم بحاجة ماسة إلى مزيد من الاحتواء والاستثمار والشراكة في إدارة البلاد، وقيادة الوطن، ومؤسسات المجتمع، كما هو بحاجة إلى توسيع انتمائه وولائه لفكرنا وهويتنا العربية الإسلامية ولهذا الوطن الغالي وللأرض العربية كلها، وإن مسئولية ذلك تقع على المجتمع بقواه السياسية والاجتماعية والإعلام والنخب، كما تقع على عاتق الدولة ومؤسساتها المختلفة لتعمل بتناسق وتكامل يُحقق للبلاد مزيداً من الأمن والاستقرار والنماء والحرية والديمقراطية، آملين أن تكون الانتخابات البرلمانية القادمة خطوة على طريق الشراكة والمشاركة من الجميع، وبحرية ونزاهة تدحر الفكر المتطرف والعنفي، وتستقطب عقول الشباب وكفاءاتهم في خدمة البلاد والأمة.

إن واجب القادة والمفكرين والسياسيين من رجال الدولة والمجتمع السهر على حفظ البلاد واستقرارها وازدهارها وحريتها واستقلالها ونمائها وحفظ ثرواتها، وبناء أجيالها على هدى من مبادئ الدين الحنيف، دين الوسطية والاعتدال، ولاسترجاع العراقة العربية المتميزة بصفاتها الشامخة من العزة والكرم والشجاعة والفداء.
0
التعليقات (0)