كتاب عربي 21

حول المصالحة الفلسطينية والانتفاضة

منير شفيق
1300x600
1300x600
على الرغم من أن المصالحة الفلسطينية قد تجاوزتها الانتفاضة، وجعلت ما ثار حولها من إشكالات من الماضي؛ لأن الانتفاضة اندلعت لتقول للشعب الفلسطيني والسلطة ولحماس ولفتح والجهاد والشعبية وكل الفصائل، إن المعركة مع الاحتلال والاستيطان وحصار قطاع غزة ومواصلة سجن الأسرى، قد دخلت في الثلث الأخير من شهرها الخامس. الأمر الذي يعني أن شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة-الانتفاضة" هو الشعار الذي يتوجب على الجميع أن يتبنّوه. ومن ثم تخضع له كل الخلافات والانقسامات السابقة. أيصبح الجميع مسؤولا عن إنجاح الانتفاضة من خلال الانخراط فيها، والاتحاد تحت رايتها؟ 
فلا محمود عباس ولا فتح ولا حماس ولا الجهاد ولا الشعبية ولا الديمقراطية ولا القيادة العامة، ولا أيّ فصيل، أو حتى أيّة منظمة غير حكومية، إلاّ وأعلن بشكل أو بآخر تأييده للانتفاضة سواء أُسْمِيَت انتفاضة أم هبّة أم اندفاعة احتجاجية، والأهم أن ما من طرف فلسطيني، أفردا كان أم تنظيما، أم جماعة، إلاّ ويرفض الاحتلال والاستيطان، ولا يستطيع أن يدافع عن حصار قطاع غزة، أو عن تأبيد الأسرى في السجون. 

ولكن بالرغم من ذلك تجد الكثيرين يتحدثون عن الانقسام بين فتح وحماس ويطالبون بتحقيق المصالحة التي عادت من قِبَل محمود عباس لتدور حول السلطة الواحدة والقرار الواحد، والأجهزة الأمنية الواحدة، كأننا في العام 2007 أو ما بين الأعوام 2007-2015 (تشرين أول/أكتوبر 2015). أو كأننا لا نعيش زمن الانتفاضة.. الزمن الذي تخطّى أسباب الانقسام، والبحث عن مصالحة تُعيد ترتيب البيت الفلسطيني من خلال الاحتكام إلى الانتخابات من جديد، أي تكرار الفشل تلو الفشل الذي لحق بكل محاولات المصالحة أو الخطوات التي ظُنَّ بأنها سارت باتجاه المصالحة.

فمن جهة، ثمة الغَرَق من جديد في تجريب المُجرّب أو تكرار الفشل، ومن جهة أخرى ثمة هروب، عن قصد أو دون قصد، من مواجهة تحديّات الانتفاضة وما تقتضيه من خطوات وتوافقات. 

لو عدنا، في موضوع المصالحة، لمناقشة ما كان يُناقَش في الجولات السابقة كما يريد محمود عباس مثل موضوع السلطة في قطاع غزة، أو في موضوع التحضير للانتخابات، أو موضوع إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، نكون قد عدنا لمناقشة ما اختلفنا عليه ولم نتوافق حوله. ولاستمر الانقسام، ولبقيت "المصالحة" شعارا للصراع السياسي. 

أما لو ركز على الانتفاضة من حيث دعمها وتحويلها إلى انتفاضة شعبية شاملة تغلق الشوارع في وجه الاحتلال وتصمّم على رحيله، وعلى تفكيك المستوطنات من الضفة والقدس، وعلى فك الحصار عن قطاع غزة وإطلاق كل الأسرى، فإن الآفاق ستفتح أمام التوافق بين فتح وحماس كما بين كل الفصائل، إذ لا أسهل من أن يتحدّ الجميع في ميدان الانتفاضة، وتحت العلم الواحد، والشعار الواحد، وجوهره دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات. فها هنا تفتح المعركة مع العدو على أساس تحقيق أهداف لا خلاف حولها، وعلى أساس اتبّاع استراتيجية انتفاضة شاملة (عصيان مدني شعبي سلمي) مصمّمة على تحقيق الأهداف؛ أهداف دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات وفك حصار قطاع غزة وإطلاق كل الأسرى.
 
أما ماذا سنفعل بعد ذلك، فيجب أن يُترك تحت جواب: لكل حادث حديث؛ لأننا بعد أن نصيد الدب، لنختلف على "اقتسام جلده"، وليس قبل ذلك، بل لا بـأس بعدئذ في "الانقسام"، أو الاحتكام للاستفتاء أو الانتخابات وما شابه. وبالمناسبة يجب ألاّ ينسى أحد أن الهدف الأساسي والاستراتيجي هو تحرير فلسطين كل فلسطين؛ لذلك يجب ألاّ يُصار إلى اقتراح أو بحث أي حل للقضية الفلسطينية، أو عقد أيّ اتفاق يتعارض أو يعيق العمل من أجل تحقيق هدف التحرير. فالمطلوب الآن مواجهة تحدي الاحتلال والاستيطان وحصار قطاع غزة وتحرير الأسرى، وذلك من خلال المضيّ بالمقاومة واستراتيجية الانتفاضة الشاملة.

ومن هنا يظهر كم يخطئ الذين يعتبرون أن التحدي الذي نواجهه هو الانقسام وتحقيق المصالحة، وعلى أساس ما طرح من قضايا خلافية مثل السلطة الواحدة التي يُراد من طرحها نزع سلاح المقاومة في قطاع غزة، أو مثل قضية "السلاح الواحد" الذي يُقصد منه سلاح الأجهزة الأمنية القائمة في الضفة الغربية لتسيطر بالكامل على قطاع غزة، وتجريده من سلاحه وحلّ الأجهزة الأمنية التي تشكّلت لحمايته (وهذه مشكلة الخمسين ألف موظف ومعظمهم قوات أمنية تحمي سلاح المقاومة وتحافظ على سِريّته وسِريّة الأنفاق). والأنكى بحث العودة إلى الانتخابات، الأمر الذي يُقصَد منه تحديد من سيمتلك الغلبة والانفراد بالسلطة والقيادة. الأمر الذي يعني تكرار ما جرى من صراع وانقسام بعد نتائج انتخابات 2006. وإذا لم يكن الأمر كذلك فكيف يُفسّر، أو يُفهم، ما حدث من صراع وانقسام استمرا حتى اليوم. 

طبعا لا يتوهمن أحد بأن الذين يلطمون الخدود على الانقسام أو يرون الخلاص في المصالحة، مقتنعون فعلا بأن الانقسام كارثة الكوارث أو أن المصالحة هي من "سيخرج الزير من البير"، بل أكثرهم يعلم علم اليقين أن من المحال التوفيق بين استراتيجيتين وخطين سياسيين يتعارضان تعارضا كبيرا، وهؤلاء يجربون المجرّب ليس لأنهم لا يعرفون أنهم يجربون ما ثبت فشله. 

فمحمود عباس، بالرغم من الانقسام، تجاوزه طوال الوقت وذهب إلى المفاوضات وحاول ما استطاع أن يُنجحها. أما الذي أفشله فليس الانقسام وإنما موقف نتنياهو أساسا، ثم الموقف الأمريكي الذي استسلم لموقف نتنياهو حتى لو لم يكن مقتنعا به. 

ومحمود عباس إذ لا يفعل كما فعل ياسر عرفات عندما فشلت مفاوضات كامب ديفيد2 ، وتأكد من حقيقة الموقف الأمريكي والصهيوني، دعم الانتفاضة إلى حد دعمه للمقاومة المسلحة؛ لأنه محمود عباس وليس ياسر عرفات علما أن موازين القوى الراهنة أفضل كثيرا من التي واجهها عرفات. فمحمود عباس لا يستطيع أن يثق بقدرة الشعب ولا يمكنه أن يتصوّر انتفاضة شاملة تدخل عصيانا شعبيا سلميا ( مع أنه يصرّ على السلمية)، تستطيع أن تفرض على الاحتلال أن يرحل. بل حتى لو تصوّر ذلك لا يستطيع أن يقتنع به؛ فهو من أصحاب منهج "عنزة ولو طارت" عنادا وأشياء أخرى. 

وإلاّ كيف يفسّر كل هذا العناد على تكرار ما هو فاشل؟ وكيف يفسّر كل هذا التمسّك بالتنسيق الأمني واستجداء العودة إلى المفاوضات مع نتنياهو؟ علما أن دلائل كثيرة أصبحت تطرق بابه بأن الكيان الصهيوني، على مستوى القيادة والجيش والرأي العام، مأزوم وقابل للتراجع أمام الانتفاضة وهي في مراجلها الأولى، فكيف حين تتحِدّ كل الفصائل وتنزل الجماهير لتغلق الشوارع في وجه الاحتلال، وتصمّم على دحره وعلى تفكيك المستوطنات من القدس والضفة الغربية، وفك حصار قطاع غزة وإطلاق كل الأسرى. فهو الإضراب العام – العصيان الشعبي العام – وهو التصميم الذي لا يلين، ولو امتدّ أسابيعَ وشهورا. 

فعلى التأكيد يصبح الجميع، دولا وشعوبا ورأيا عاما أمام مأزق كبير، ومن ثم لا يمكن لنتنياهو ولا أمريكا ولا أوروبا الخروج من هذا المأزق إلاّ بتلبية مطالبه العادلة، التي وراءها شعب منتفض صمّم على الانتصار وهو انتصار يكاد يكون محققا بإذن الله.  
التعليقات (0)