كتاب عربي 21

النهضويون والدولة من بورقيبة إلى الباجي

لطفي زيتون
1300x600
1300x600
ولدت الدولة الحديثة في بلادنا في أجواء انفصام كبير بين التيارين الرئيسين التحديثي والمحافظ، وصل إلى ما يشبه الحرب الأهلية التي انتهت بالحسم المادي لأحد التيارين. 

شكلت ولادة الحركة الإسلامية أو ما بات يعرف لاحقا بالإسلام السياسي إحدى نتائج وردود الفعل على عملية الحسم وانفراد تيار واحد بعملية بناء الدولة التي لم تلبث مآزقها أن بدأت تتالى. 

منذ البداية كانت علاقة الإسلاميين متوترة مع الدولة الحديثة التي كانت في أذهانهم بعيدة أن لم تكن مناقضة للنموذج التاريخي للدولة الذي غاب في الواقع ولكنه بقي مفصلا في أدبياتهم وأصبحت استعادته هي الطوبا التي تتأسس عليها إيديولوجيا ما يعبر عنه بالإسلام السياسي من هناك قامت أدبياتهم على نزع أي مشروعية عن تلك الدولة والتقدم باعتبارهم البديل عنها بالتصريح تارة وفي ثنايا الخطاب المشحون بمصطلحات مثل البديل والتمكين والدولة الإسلامية واحتل مؤسس الدولة الحديثة حيزا واسعا في هجوماتهم.. 

لم يقبل الإسلاميون أيضا بالتغييرات العميقة التي طرأت على المجتمع ليس على المستوى الثقافي والقانوني فحسب بل على المستوى الاجتماعي حيث اختفت أو تكاد الطبقات التي كانت تقود في الماضي ومنها طبقة علماء الدين لصالح فئات اجتماعية حديثة، تلقت تعليماً وتدريباً حديثاً وذلك رغم كونهم (الإسلاميون) جزءا من تلك الفئات الحديثة.. 

باعتبار الطبيعة الشمولية للدولة وهشاشة شرعيتها الجديدة وصعوبة الظروف السياسية والاقتصادية في الثمانينات الفترة التي وقع فيها التقاطع بين الجماعة الإسلامية وأجهزة الدولة البورقيبية انتهجت الدولة في تعاملها مع الظاهرة الجديدة نفس الأساليب التي مردت عليها في حسم خلافاتها مع التحديات التي تواجهها وهي الإقصاء والحسم الأمني والتنكيل بالأفراد.. هذا رغم الاستعداد الذي أبدوه للاندراج في المنتظم القانوني والقبول بشروط اللعبة الديموقراطية التي أطلقها مؤسس الدولة في بداية الثمانينات ما جعلهم يمثلون استثناء في تيار الإسلام السياسي في العالم العربي وجلب لهم انتقادات واسعة وخاصة ما أعلنوا عنه من قبولهم بالتداول على السلطة بين إيديولوجيات متناقضة ما اعتبر وقتها في دوائر تيار الإسلام السياسي انحرافا عن الأساس الإيديولوجي ذاته.. 

أدى الإقصاء والقمع إلى عكس المراد منهما فتوسعت القاعدة الشعبية للإسلاميين بالتوازي مع تصاعد قمعهم وتكرست حالة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي التي انتهت بالتصادم بين الدولة والإسلاميين نتج عنه الإطاحة بمؤسس الدولة الحديثة الذي رأى في تيار الإسلاميين تحديا شخصيا له ونقيضا لكل ما يعتبره انجازات لدولته قطع على نفسه عهدا أمام الشعب أن لا يموت قبل أن يستأصله.

تفاعل الإسلاميون ايجابيا مع أجواء الانفتاح ووعود الديموقراطية فشاركوا في انتخابات 1989 وساندوا الرئيس واعتبروه مرشحهم للانتخابات الرئاسية وقاموا بتغيير الاسم ليتخلوا عن الصفة الإسلامية.

 وكما كانت هذه التغييرات في إيديولوجيا وتنظيم الحركة سطحية واقرب إلى رفع الملام كانت ديمقراطية النظام القديم اشد سطحية واستأنفت آلة القمع دورانها باعتبارها المسلك الوحيد الذي انتهجته الدولة في التعامل مع الإسلام السياسي ولكن مع فارق هذه المرة أن من يقود الحرب حاكم جديد يافع يحظى بدعم دولي وموارد كبيرة وفي وضع إقليمي ودولي تصاعد فيه الخوف من التيارات الإسلامية التي باتت تزحف نحو الحكم في أكثر من دولة تحول فيها ذلك الزحف إلى ما يشبه الحرب الأهلية.

سريعا ما هزمت الحركة في المعركة التي تحولت بعد تفكيك التنظيم السري إلى عملية استئصال ممنهجة استعملت فيها الدولة كل أدواتها الأمنية والقضائية والثقافية والإدارية حتى أصبحت مقاومة الإسلام السياسي ايدولوجيا رسمية تمثل الأساس في عملية تسويق النظام دوليا والتغطية على تجاوزاته. 

خلال الرحلة في صحراء الشتات الطويلة التي قطعها الإسلاميون التونسيون قام قطاع منهم بمراجعات عميقة لمسيرتهم كان أهمها إعادة قراءتهم للدولة الحديثة حيث استقرت القناعة أنها الإطار الحديث المنظم للاجتماع السياسي ولن يؤدي التعامل معها على أنها طرف من الأطراف يمكن معاداته وإسقاطه بعضلات التنظيم إلا إلى مزيد من التقاتل والتفتيت والحروب الأهلية ومن نتائج هذه القناعة التخلي عن فكرة الحلول محل الدولة أو الحلول فيها بعقلية الطائفة أو الصفوة والقبول بالانضباط لمقتضى التفويض الشعبي من خلال الانتخابات في تسييرها وإدارة شؤون الناس من خلالها.

وكانت تجربة الحكم التي أتاحتها الانتخابات الأولى بعد ثورة الحرية والكرامة اختبارا حقيقيا لعمق هذه القناعات التي تبين أنها لم تكن مشتركة لا بين مكونات التيار الذي طرأت عليه خلال سنوات الشتات تغييرات جوهرية في تركيبته فنشأت حركات على يمين ويسار النهضة التي لئن بقيت المكون الأساسي إلا أنها خرجت من محنتها موزعة بين مدارس وتيارات متباينة ومتناقضة أحيانا.. 

أقصى ما حققته تجربة الترويكا من تطور في الممارسة السياسية هي قبول الإسلاميين تشكيل تحالف حاكم مع قطاع من العلمانيين الذين اعتبروا علمانيين معتدلين لقبولهم بالاشتراك في التحالف.. 

نتيجة هذا التحالف بين إيديولوجيات متباينة أصبح اليوم معلوم النتائج إذ أدى إلى تفتت الحزبين العلمانيين والى خسارة النهضة لقطاع واسع من أنصارها ولعودة سوء التفاهم والتوجس وان بدرجة اقل بكثير من الماضي بينها وبين أجهزة الدولة التي إدارتها وهي في الحكم بعقلية مختلطة بين القديم والجديد.. 

وفرت هذه التجربة فرصة استثنائية للنهضويين ليدخلوا مسالك هذه الدولة التي صارعوها طويلا وليفهموا ما أصبحوا يعرّفونه بإكراهات الحكم وليكتووا بلفح نار التنين وهو الوصف الذي اختاره لتوصيف الدولة الحديثة أهم منظريها (توماس هوبز) ما دفع الإسلاميين التوقف جميعا أو في اغلبهم لقراءة تجربتهم التاريخية قراءة مغايرة. 

بعد الانتخابات التشريعية التي أسفرت عن فوز حزب جديد وبعد المغامرة الخاسرة التي انجرفت إليها قاعدة النهضة في انتخابات الرئاسة إضافة إلى تصاعد التهديدات من التيارات الإرهابية كانت الأجواء تنبؤ بعودة الصدام بين الإسلام السياسي والدولة لولا جرعة العقلانية التي اكتسبتها أجهزة الدولة بعد الثورة ولولا الموافقة التاريخية التي شاءت أن يكون على رأس الدولة رجل هو بين السياسيين التونسيين أطولهم تجربة وأكثرهم تمرسا على السلطة ومعرفة بالدولة وفهما للمجتمع واحد الذين اكتووا من داخلها باستبدادها في السبعينات فكان من المجموعة التي استقالت لتدفع ولتضع أسس الحركة الديموقراطية. 

كما يصادف على رأس تيار الإسلام السياسي وجود رجل عرف بجرأته الفكرية مجددا أساسيا للتيار ومر في مسيرته الطويلة بكل محن العلاقة المتوترة بين الإسلاميين والدولة ولامس عن قرب تجاربهم ليس في بلادنا فقط بل في كل الأقطار.. 

اختار رئيس الدولة الباجي قايد السبسي مسلكا مغايرا لسلفيه في علاقته وعلاقة الدولة بحركة النهضة منطلقا من كونهم تونسيين لهم نظرة مغايرة ولكنهم لا يقلون وطنية وحبا لشعبهم عن بقية التيارات الأخرى فاختار الاعتراف بحجمهم وإدراجهم في الائتلاف الحاكم سبيلا إلى تطبيع علاقتهم مع الدولة وتهيئتهم لتقبل بهم أوسع فئات المجتمع.. متجاوزا إلى حد عن المرارة التي خلفتها معركة الرئاسيات.. 

ويبدو أن أجهزة الدولة تتفاعل ايجابيا مع سياسة رئيسها وقد خبرت حجم الخسائر التي يخلفها الصدام بينها وبين مجتمعها أو قطاع واسع منه. 

يد رئيس الدولة الممدودة وجدت في المقابل ترحابا من شيخ النهضة راشد الغنوشي الذي يخوض معركته الحاسمة في نفس الاتجاه بالضبط: التأسيس لعلاقة جديدة بين تياره والدولة تقوم على اعترافه بشرعيتها وبعلوية دستورها وبفضائها الاستراتيجي وعقيدتها الأمنية والعسكرية والاعتراف بانجازاتها والبناء عليها واستيعاب مفهوم المصلحة العليا للدولة وتجسيده في السياسات والبرامج..

كما يحاول الغنوشي التأسيس لعلاقة جديدة بين حركته والمجتمع تقوم على التخفف من الإيديولوجيا والتفاعل مع محيطها لتتحول إلى حزب وطني يعتبر الإسلام أحد مكوّنات الإجماع والاجتماع التونسيين وهو باعتباره ذلك ملكا لجميع التونسيين بالتساوي سواء أكانوا يؤمنون به عقيدة أم ينتمون له ثقافة وحضارة ما يمكنهم من توظيف قيمه والاستفادة منها في برامجهم ورؤاهم دون عقد ولا احتكار من جهة ما.. ?وهو بهذا الاعتبار فوق النزاعات الحزبية والمنافسة السياسية، ذلك أنّ الأحزاب السياسية تُترجم رؤية إنسانية لتنظيم المجتمع وتطويره وليست ترجمة للرسالات السماوية المقدّسة. 

هل ينجح هذا الالتقاء بين الرجلين إلى أن يتحول التقاء بين تيارين كبيرين حكما الاجتماع السياسي التونسي خلال عقود طويلة وضيع صراعهما على بلادنا فرصا كبيرة للتقدم والنمو.. التقاء يفضي إلى مصالحة وطنية شاملة تغلق ملفات الماضي وتدفعنا بعيدا في المستقبل ؟؟ 

نرجو ذلك. 
1
التعليقات (1)
وحيد العبدالجليل
الأربعاء، 17-02-2016 11:51 ص
رائع جدا الاعتراف بالواقع واجب وكفانا احلام وردية تحطمت على صخرة الواقع منذ 100 سنة الاسلاميون جماعة من المسلمين لا يحتكرون فهم الاسلام او التعبير عنه هذا المقال يضع خارطة طريق حقيقية للتنفيذ وليس ادعاءات تردد من سنوات ولكن في الحقيقة يتعمل الاسلاميون وكانهم الناطق الرسمي عن الاسلام ومن يعرف الاسلاميين يفهم قولي