مقالات مختارة

التنكيل بـ«جنينة» بديل لـ«مكافحة الفساد»

عمار علي حسن
1300x600
1300x600
هناك نكتة دارجة يرددها عموم الناس تقول إن رجلا ذهب لإبلاغ آخر بأن زوجته تخونه مع صبي كهربائي وإنه قد رآهما وتيقن من علاقتهما الآثمة، ففوجئ بالزوج يرد عليه: «ومن قال لك إنه يفهم في الكهرباء». هذه الحالة أشبه بما انتهت إليه لجنة تقصي الحقائق حول ما ورد في دراسة للمستشار هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، فانتهت إلى إدانته لأنه أخطأ في تجميع الأرقام، وخصم ما هو معروض أمام القضاء من حسبة الفساد، وتلقف مناصرو السلطة الأمر، فراحوا يطالبون بإقالة الرجل ومحاكمته أو استجوابه أمام البرلمان، وهذا من حقهم. 

لكن في المقابل نريد ثلاثة أمور: الأول هو معرفة ما ورد في دراسة جنينة التي أرسل نسخة منها إلى رئيس الجمهورية، بينما نشر تقرير لجنة تقصي الحقائق كاملا في الصحف، حتى يكون الرأي العام على بينة من الأمر. والثاني هو معرفة حجم الفساد الحقيقي، الذى اتهم جنينة بتضخيمه، ثم محاسبة ومحاكمة الفاسدين أيا كانت مناصبهم. والثالث هو الاعتراف بأن الجهاز المركزي للمحاسبات وغيره من الأجهزة الرقابية ترصد الفساد المالي المكتشف، بينما يبقى الفساد المستتر والمخفي والهارب من المتابعة رقما ربما أكبر بكثير مما يقع في أيدي الرقابيين.

بغير هذا يكون التقرير قد انحرف عن هدفه بتقصد جنينة، وليس بالتصدي للفاسدين، ومحاولة إظهار الأمر وكأن مصر خالية من الفساد، مع أن الفساد المالي والإداري والسياسي في بلادنا لا يحتاج إلى «جنينة» ولا جهاز المحاسبات، فتقارير الشفافية الدولية تضعنا، بلا فخر، في أكبر الدول فسادا في العالم، ورئيس الجمهورية نفسه تحدث ذات مرة عن «الخرابة» التي آلت إليه، وكل إنسان في هذا البلد يتعامل مع الأجهزة البيروقراطية والشرطية والخدمية له قصص تروى مع الفساد والفاسدين. والخوف كل الخوف أن يأخذوا الرأي العام إلى تضليل جديد يقول له: المشكلة في جنينة وليس في الفساد، فإن أقلناه ومنعناه من السفر وحاكمناه وسجناه ستتطهر مصر من دنس الفساد، وتعود بيضاء، ليلها كنهارها.

قبل أسابيع زرت جنينة في مكتبه، باحثا عن إجابة على سؤال يؤرقني: هل نقص الفساد في بلادنا؟ وهل هناك نية صادقة، وعزم لا يلين، على مواجهته؟ دفعني لهذا إيماني، الذي يستند إلى أدلة قاطعة وبراهين ناصعة بأن الفساد أخطر من الإرهاب، لأن الأخير يستنهض طاقة الدولة والمجتمع لمواجهته فيزيدهما قوة ومكنة ومنعة، وبالتالي فهو لا محالة مذموم مدحور، أما الأول فهو يقتل هذه الطاقة أصلا، إنه أشبه بهذا المرض اللعين الذى يصيب مناعة الجسم، فيدعه هشا مهيضا أمام أي مرض ولو كان خفيفا عابرا.

قال لي الرجل وابتسامة تكسو ملامحه: دورنا أن نكشف الفاسدين ونقدمهم إلى جهات التحقيق المعنية، لكن ليس علينا أن نلزمها بشيء ولا نتتبع مجرى ما كشفناه وقدمناه. فسألته: وهل ما كشفته يشي بأن الفساد قد تراجع؟ أجاب بلا تردد: للأسف لا، الفساد تغلغل في كل مكان، وكافة الجهات، بعضها بوسعنا أن نلاحقه، وبعضها عصي علينا لأسباب خارجة عن إرادتنا، فهناك تقاليد رسخت في العقود الفائتة عن إمكانية مراقبة بعض المؤسسات والجهات ولا سبيل إلى تغييرها على ما يبدو إلا بجهد جهيد، رغم أن المال في النهاية هو مال الشعب.

وراح يسرد وقائع على عجل، يضرب بها أمثلة، فاستقر في يقيني أن الفاسدين تحولوا إلى عصابات إجرامية قوية، لها أنياب وأظافر ومخالب تخمش كل من يحاول أن يقترب منها، وبعض هذه العصابات أصبحت تستهدف الجهاز المركزي للمحاسبات نفسه.

واستعدت ما جرى للمستشار جنينة نفسه، ابتداء باتهامه بأنه يعمل على هدم بعض المؤسسات الصلبة والأساسية للدولة، رغم أنه لم يفعل شيئا سوى أن قال لها بالمستندات الدامغة: أنت فاسدة، وانتهاء باتهامه بأنه من الخلايا النائمة لـ«جماعة الإخوان» وهو ما كذبته شواهد ودلائل عديدة فيما بعد، وبات أمرا يدعو للسخرية، وينضم إلى هذه الأسطوانة المشروخة التي يرددها فاسدون ومنافقون ومغرضون ومتخصصون في تشويه الناس عن كل شخص لديه رأي مختلف فيما يجري.

أما سؤالي الثاني، فأجاب عنه جنينة: نقدم ملفات باستمرار للرئاسة، وأعتقد أن الرئيس جاد في محاربة الفساد، لكن يبدو أن الفاسدين قد توحشوا لدرجة أن الدخول في معركة ضدهم بات أمرا يحسب حسابه ألف مرة.

لم تكن هذه الإجابة، التي تنطوي على قدر من الحرص والشعور بالمسؤولية، كافية بالنسبة لي، فالمستشار جنينة كمسؤول، ورغم زهده في المنصب، له حدود يلتزم بها، فكلامه «رسمي» وتصريحه «محسوب عليه»، أما شخصي المتواضع، فلا يتوقف عند حد الرسميات، ويطلق ذهنه كي يردم الهوة بين ما نطق به جنينة وما سكت عنه. 

وهذا التخيل يجعلني أقول بكل وضوح: لا أشعر بجدية الرئيس في مواجهة الفاسدين، فكثير من اختياراته للمسؤولين الإداريين تقول إنه لا يتجنب تماما غير الأكفاء من الجهاز البيروقراطي، هذا صنف من الفساد، ومعاملته لبعض رجال المال وأتباع «رأسمالية المحاسيب» تقول: إنه لا ينهرهم بل يسترضيهم. وهناك مؤسسات في البلد فسادها طافح، ورائحته تزكم الأنوف، ولا يمسها أحد. والناس في الشوارع يقولون إن الفساد قد زاد، لأن الفاسدين يشعرون الآن بأنهم في مأمن، فها قد قامت ثورة، فما مسهم منها شيء، بل إن بعضهم ازداد غنى، شأنه شأن أثرياء الحروب.

سألت المستشار جنينة عما يمكن أن تفعله الشخصيات الوطنية العامة لمساعدته فأجاب: هو مال الشعب، ومسؤولية حمايته تتعدى الأجهزة الرقابية. ابتسمت وقلت له: أنا واثق أنك جاد وصارم وقاطع في محاربة الفساد، وعلى كل الوطنيين أن يقفوا إلى جانبك، ويشدوا من أزرك، لكنني أعود وأقول إن المسألة ليست انحيازا شخصيا لجنينة، فأنا لا تربطني به أي صلة اجتماعية وليس لي معه أدنى مصلحة، لكنه انحياز تام ضد الفساد، فإن كان جنينة قد أخطأ في الحساب، سنقول عنه إنه موظف ضعيف الإمكانيات، أو أن من تحته من المحاسبين الذين أعدوا الدراسة ليسوا أكفاء، لكن هذا لن يعمى أعيننا عن أن بلادنا تزخر بالفساد، وأن الفاسدين يزدادون توحشا، بعد أن تحولوا إلى عصابات ومراكز قوى، لها أظافر ومخالب وأنياب وأذرع في كل جهاز وكل مؤسسة وكل وسيلة إعلامية، ولن يدفعنا كل هذا إلى التخلي عن الإيمان القاطع والجازم والراسخ بأن مصر لا يمكنها أن تتقدم إلى الأمام بينما الفساد ينخر في عظامها، وينهش لحمها، وأن أي رئيس لهذا البلد لا يمكننا أن نصدقه إلا إذا رأيناه يقاتل الفاسدين في كل مكان، ويدرك أن مال الشعب لابد من مراقبته لدى كل المؤسسات والجهات بلا تمييز.

عن صحيفة المصري اليوم المصرية

0
التعليقات (0)