قضايا وآراء

مضايا.. السقوط الأخير لأقنعة إيران

أحمد قاعود
1300x600
1300x600
مرت مسألة المواطنة بمراحل تاريخية معينة، اختلف مفهوما كما مقتضياتها من هذا العصر إلى ذاك، تبعا لاختلاف النظم السائدة والتركيبات السياسية والمفاهيم الاجتماعيةـ لا بل إلى اختلاف كافة مناحي الحياة ببعدها الزماني والمكاني. في تلك المراحل كلها كان لا بد لمفهوم المواطنة أن يحمل في طياته ما يشير إلى مرتكزين أساسين هما الواجبات والحقوق، وإن اختلفت مضامين تلك الواجبات والحقوق من مرحلة إلى أخرى، لكن حماها كان يدور أيضا حول معاني الهوية والانتماء وبعضا من القيم.

لكن تصدعا كبيرا ظاهرا أصاب صرح الوطنية والانتماء والولاء في عالمنا العربي حينما بدأت الشعوب فيه رحلة المفاصلة إن جاز القول، وأعلنت آنذاك أنها رحلة اللاعودة نحو الحرية والكرامة والمساواة، أصاب ذلك التصدع صميم البناء الداخلي للشعب العراقي والسوري واللبناني وما زال مستمرا، فأحدث شرخا كبيرا في النسيج الاجتماعي ووضع على المحك كل ما ينتمي للوطن أرضا وشعبا وانتماء وهوية، ودخلت الشعوب العربية مرحلة الفئوية الطائفية والإفراز المذهبي كنتاج طبيعي لحالة الشحن التي تؤصل لها طهران في المنطقة، وذابت قيم الولاء والانتماء ومعهما الهوية الوطنية تحت لافتة الولاء المذهبي، في مرحلة حساسة ودقيقة من تاريخ الأمة العربية كان مطلوب منها أن تستجمع قواها وإمكاناتها وكل ما لديها من مقدرات لتخطي هذه المرحلة وطي صفحة القهر والإستبداد، بيد أن الغاما كثيرة زرعت في طريق الشعوب المنتفضة، كانت الأيدي الفارسية الأكثر سخاء في الزرع، كما كان إقبالا غربيا منقطع النظير في تغذية ذاك الزرع تجلى نتاجه حينما بدأ موسم الحصاد في بغداد والشام، وكان من الغزارة كافيا أن لا يستثني أحدا من المحيط إلى الخليج.

ثمة عوامل كثيرة عاقت مسيرة التغير السياسي في بلدان العالم العربي، وبرزت إشكالية التغيير تلك في عوامل داخلية وخارجية، واحدة من أبرز تلك العوامل الخارجية تدخل القوى الدولية والإقليمية في شؤون الأمة العربية، كانت إيران أبرز القوى الإقليمية التي فرضت وجودها وباتت لاعبا أساسيا في الحقل السياسي، وشهدت المنطقة امتداد أذرع طهران الشيعية في بلدان العالم العربي وخاصة حزب الله اللبناني والحوثيون المصطنعون في اليمن، وكانت تلك الأذرع يد إيران الطولى للعبث في مسار وحيثيات الثورة. وإفرازا لحالة الشحن الطائفي، أظهرت سلوكيات الأجهزة الأمنية الموالية لإيران، لا سيما في العراق وسوريا واليمن، أنانيتها ونقمتها على شعوبها ورغبتها في الانتقام من المجتمع بأسره. واتجهت تلك المنظومة إلى تدمير كل ما هو اجتماعي وديني وأخلاقي واقتصادي، وقد أظهر ذلك الانقضاض على كل مقدرات البلد ومقومات المجتمع نزعة مذهبية انتقامية وحشية لا تستثني شيئا ما ينتمي للوطن. وقد أوجد التدخل الإيراني في سوريا والعراق حالة من الصراع الطائفي في طريقه إلى تشكيل جغرافيا سياسية جديدة في المنطقة تنتج مزيد من التجزئة والتفرقة على أسس طائفية ومذهبية وبالتالي بروز أشكال جديدة من العنف أكثر حدة ودموية.

وباتت تلك المنظومة جهة رئيسية منتجة ومؤصلة للعنف داخل المجتمعات العربية، وضع المنطقة أمام أشكال جديدة من المليشيات الشيعية تنم عن نية عنيفة تضمر حقدا ورغبة في إلحاق الأذى بالآخرين، وهذه إحدى السمات الرئيسية للعنف، كما يرى غاندي ذلك من منظور إنساني وأخلاقي.

أظهرت تلك الأحداث أزمة حقيقة مرتبطة بمفهوم المواطنة ومقتضياتها لدى المواطن العربي الشيعي؛ وبين ولائه المذهبي، حيث بدا واضحا انحياز الفئات الشيعية في العالم العربي إلى إيران وهي تقف في اتجاه مغاير لإرادة الجماهير العربية في أرض الشام و بلاد الرافدين، وظهر جليا ارتباط تلك المنظومة الأمنية بصناع القرار في طهران التي تجاوزت في كثير من الأحيان المستوى السياسي واتجهت إلى التنسيق المباشر مع قوى إقليمية ودولية ذات يد طولى في الشأن الداخلي لبلدان العالم العربي، وانشغلت - لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية وبلاد الغرب عموما - مراكز الأبحاث واستطلاعات الرأي الموجهة لمعرفة اتجاه حركة الجماهير العربية التي خلطت كثير من حسابات المصالح والنفوذ في المنطقة، ومن ثم انتهاج أفضل السبل لإجهاضها أو حرفها عن مسارها، وشكل هذا قاسما مشتركا لإيران والغرب وصل حد التلاقي في الأهداف والغايات الكامنة وراء افشال الثورة.

شكّل هذا التدخل الإيراني وما نتج عنه من انقسام طائفي وتعصب مذهبي إشكالية حقيقة زادت من حالة التعقيد المتمثلة بمسألة المواطنة بكل تشعباتها ومقوماتها للشيعة العرب القاطنين الديار العربية، هذه الحالة كشفت التناقض القيمي والتنكر للذات الوطنية التي تعبر عنها حالة الشيعة العرب – على وجه الخصوص حزب الله اللبناني والحوثيون في اليمن لا بشكل مطلق ودون تعميم - وعلى ذلك كله: كيف تؤثر حالة الاستقطاب والشحن في المنطقة على قطبها الرئيسي طهران، بما تملك من أدوات ونفوذ وأذرع ومليشيات مسلحة، وما نتج عن ذلك من انفصام في الهوية الوطنية للفرد العربي الشيعي الذي أوجد خللا عميقا في الانتماء الوطني. وكان من إفرازات التوظيف السياسي للولاء المذهبي تعزيز التعصب الطائفي والمذهبي، وضرب النسيج الوطني والاجتماعي، إضافة الى حرف مسار التغيير إلى نزاع مذهبي بدلا من حركة جماهيرية عفوية قوامها المطالبة بالعدالة الاجتماعية والمساوة والحرية.

في ظل هذه الظروف التي أهدرت فيها مقدرات الأمة وتشتت طاقاتها وتفرقت كلمتها، وانعدمت المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية، ويوم أن اتجهت الجماهير العربية بعفوية وشعبية بعد تراكم الضغط والكبت واستبداد طويل العمر يضرب في كل مناحي الوطن، يوم أن اتجهت نحو التغيير الحقيقي في البنى السياسية والتنظيمية والإدارية للنظم القائمة، وقررت أن تستكمل مسيرة التغيير السياسي لتحقيق التغيير الشامل الهادف لإحداث نهضة حقيقة تنعكس آثارها على كل مكونات المجتمع، حينها دخلت الثورات العربية كثيرا من المنزلقات التي أريد لها أن تنزلق بها، حين تداعت القوى ذوات المصالح في المنطقة لإفشال التجربة العربية الساعية لتحقيق الديمقراطية والتخلص من الأنظمة الجبرية والقهرية؛ وصولا إلى المجتمع المدني الذي تحكمه آليات ديمقراطية تنسجم مع تطلعات الفرد والمجتمع.

شكل هذا التداعي لحماية الأنظمة نقطة التقاء في المصالح بين إسرائيل والغرب عموما وايران، فقد ألقت الولايات المتحدة الأمريكية بكل ثقلها وطاقاتها واستخدام نفوذها لأفشال التجربة الديموقراطية في مصر، وتوج ذلك بالانقلاب العسكري في 30/6/2013 الذي اعتبر بالدرجة الأولى مصلحة إسرائيلية، كما ألقت إيران بكل ثقلها وامكاناتها لقمع ثورة الشعب السوري والحفاظ على نظام استبدادي طاغوتي، يرتدي زورا ثوب العروبة والإسلام.

وهنا يوثق التاريخ على أرض الشام، وعلى أنقاض ودماء وأشلاء شعب عربي سني، كيف كشف الطفل السوري، الذي يحاصره النظام وحزب الله وإيران في الزبداني ومضايا، الطفل الجريح، المجوع، الممزق، العريان.. كيف كشف بأشلائه وآهاته ودمائه التقاء المصالح بين إسرائيل والأمريكان؛ وبين شيعة طهران.

وكأن الزبداني ومضايا تشهد تجليات بصيرة الشاعر سميح القاسم حين قال:

سقطت جميع الأقنعة، سقطت فإما رايتي تبقى وكأسي المترعة أو جثتي والزوبعة، سقطت جميع الأقنعة سقطت قشور الماس عن عينيك يا رجلا يصول بلا رجولة، يا سائقا للموت أحلام القبيلة، سقطت تماثيل الرخام، سقطت دموعك يا تماسيح التواريخ الطويلة، سقطت وأبراج الصقور انخدعت عشرين عام، أنا يا ضمير الأرض أبراج الحمام، سقطت أغانيك الحزينة، والأساطير الذليلة.
التعليقات (0)