قضايا وآراء

لقد كان في غزة يوما مطار... لا معبر!!!

أحمد علي البرعي
1300x600
1300x600
كان القيادي الحمساوي يومها يلقي محاضرة سياسية في طلبة الجامعة، وقال في معرض كلامه عن سياسة الحركة إن الدكتور عبد العزيز الرنتيسي رحمه الله كان من المؤيدين بل والداعين إلى دخول المعركة السياسية، والمشاركة في الانتخابات، والوصول إلى أغلبية لتشكيل حكومة، فهمس في أذني وقال لي: ليس صحيحا، لقد قال الدكتور الشهيد: إن دخلت حماس المعترك السياسي وقُدّر لها أن تُشكّل الحكومة سيُضرب عليها الحصار، وستُغلق أمامها كل الأبواب، وسيُجوّع الشعب، ويتعلق برقبة حماس، وسيُفرض عليها وقتئذ أن تطعم الناس وتتنازل عن خط المقاومة.

دخلت حماس أو أُدخلت إلى غمار المعركة السياسية باختيار منها أو بتخطيط ممن يرغب ترويضها، وعاشت التجربة وعايشها وعاش فصولها الشعب الفلسطيني، وخاصة أبناء غزة المحاصرة. نعم لقد نجحت التجربة في فصول لا ينكرها إلا عصفوري الذاكرة، فقد أضحت غزة أيقونة العزة والكرامة، يرفع أهلها رؤوسهم شموخا وعزا، وأصبحت أسطورة جهادها وصمودها ومقاومتها -خاصة في معركة العصف المأكول الأخيرة- قصة ملحمية يتغنى بها كل من ابتغى للحرية سبيلا. ما كان لذلك أن يحدث وعيون الأجهزة الأمنية وسياطهم تلاحق المقاومين، وتضيق الخناق عليهم وتلاعبهم على "الخمسة البلدي" ولك أن تأخذ ما يحدث في الضفة الغربية الآن كناقوس تذكير إن نسيت أو تناسيت. إن لم يكن لحكومة غزة مندوحة سوى أنها حمت ظهر المقاومة وأفسحت لها المجال للعمل حتى أضحت ثقافة تدرس في مدارس العز الغزي لكفاها.

عُزلت حماس وفُرض على غزة الحصار الظالم من القريب والغريب، ووجدت المقاومة الفلسطينية نفسها وحيدة في الميدان فاجتهدت في خلق البدائل وفتح خطوط جديدة، وأنشاء تحالفات نوعية، وخلق فرص من العدم، ولكنها دخلت في دوامة مربكة أنهكتها وأنهكت المحاصرين معها، ومع ذلك بقيت بوصلة المقاومة واضحة تعرف وجهتها، لم يخبت بريقها، ولم ينتابها الوهن، بل اشتد عودها، وقويت شوكتها، وعظم تأثيرها، وأضحت رقما صعبا في معادلات المنطقة.

جاءت ثورات الربيع العربي برياحها فاستنشقت غزة عبق الحرية، واستبشرت بمستقبل يُنسيها عبء الأيام السوداء وظلمة الليالي القاسية، ثم سرعان ما باغتتها ريح الثورات المضادة لتطفئ شموعا لم تكد تضيء عتمة القطاع المنكوب المكلوم، فانقلبت رياح الرحمة ريح عذاب وأوصدت في وجه أهل غزة كل الأبواب.

حاولت حماس أن تظهر قدرا من البراجماتية السياسية في واقع ومحيط لا يقبل إلا برقبتها وليس بترويضها كما مضى. حاولت أن تخطب ود الرئاسة بجلسات المصالحة وإنهاء الانقسام، وتنازلت عن الحكومة، وأظهرت الرغبة في الاحتكام للشعب مرة أخرى، ولكن وُضعت العصي في الدواليب، ولا يحتاج الأمر إلى عظيم تفكير لتعرف أن أحداث الانقسام 2006 هي عقدة المنشار، فحماس لا تريد العودة إلى ما قبل ذلك التاريخ، بينما فتح ممثلة بالرئيس لا تريد إلا العودة إلى ما كان عليه الحال قبل 2006 وهو ما يستحيل منطقا وواقعا. لم ولن ينتهي الانقسام لأن المشروعين متوازيين لن ينكسر أحدهما للآخر ولن ينهي أحدهما الآخر، ولكن بين هاذين الخطين المتوازيين شعب ذاق ويلات وويلات.

في محاولة للتخفيف عن القطاع المحاصر، تعاطت حماس بإيجابية مع مبادرات القائد الفتحاوي "محمد دحلان" على ما بينها وبينه من سجلات العداوة والخصام، واستقبلت "سلام فياض" في محاولة لتحريك المياه الراكدة، وتحركت دوليا بزيارات للسعودية يبدو أنها لم تسفر عن جديد يذكر ولم تعْد كل تلك المحاولات سوى مجرد كونها محاولات لم تسفر عن جديد يذكر.

رغم حجم الدمار والقتل والمعاناة التي خاضتها غزة في الحرب الأخيرة إلا أن الناس استبشرت بوعود المقاومة أن صبر غزة ومقاومتها وصمودها سيتوج بميناء أو ممر مائي يرفع عنها ظلم ذوي القربى والعوز إلى الجيران، وها قد مرت الأيام والشهور فجاء ممر مائي يغلق أنفاق وشرايين الحياة التي كانت تغذي القطاع، وأعلنها المجتمع الدولي صراحة لا نريد غزة ولا من فيها ولتذهب الإنسانية وحقوق الإنسان إلى الجحيم، وخلوا بين غزة وبين جيرانها وما أدراك ما جيرانها!!

أغلقوا المعبر وخنقوا غزة ومن فيها بأعذار لا يقبلها سوى منطق "العكاشية" المصرية الانقلابية التي ترى في غزة عدوا وفي الكيان صديقا وجارا. استقبلت مصر الرئيس الفلسطيني ليتحدث عبر قنواتها وشاشات تلفزتها تصريحا لا تلميحا عن اقتراحاته الإبداعية في كيفية خنق غزة وإنهاء أزمة الأنفاق!!

في ضوء هذه الحقائق والأحداث ارتفعت أصوات من غزة وغيرها، من أبناء فتح ومن بعض أبناء حماس، بضرورة تسليم المعبر لحرس الرئاسة أو لغيره من المؤسسات الخاصة أو لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين أو للاتحاد الأوروبي أو لأي جهة محايدة. اتُهمت حماس بالأنانية وبتغليب مصالحها الحزبية على مصالح الناس، واتُهمت بعدم مراعاة ظروف الناس القاسية واحتياجاتها الملحة، وبدأت موجة جديدة من تحميلها المسئولية الكاملة عما يحدث وسيحدث للقطاع وأهله.

لا أدري هل نسي الجميع أو تناسى أن هناك معابر أخرى للقطاع مع دولة الكيان، كمعبري "إيرز وكارني" تديرهما حماس يدخل منها معظم الوقود والبضائع والمسافرين. لماذا لا تسلم حماس المعبر وتظهر للناس مدى كذب ونفاق من يزاودون عليها الآن، وكيف أنهم أول من ستُشرع سيوف ألسنتهم انتقادا لخيارات حماس المتسرعة واللامسؤولة؟!

بدأت ردات الفعل تخرج من هناك وهنالك تحاول أن تدفع هذه الموجة من تجريم حماس ومقاومتها. حاول البعض أن يظهر أن "أول الرقص حجلان"، وأن تسليم المعبر والرضوخ لضغوط الوضع الداخلي الاجتماعي والاقتصادي المتأزم سيعقبه مطالبات أخرى بتسليم سلاح المقاومة لتخفيف الحصار والاعتراف بحق الناس في الحياة الكرمية! ولكن من سيقبل بذلك؟ وأين هي تلك الآذان التي قد تصغي لهذه الأطروحات أو الاستشرافات لما يحاك ضد المقاومة وحاضنتها الشعبية في القطاع المأزوم؟

ستلعنك كل الألسنة، وستلفظك كل القلوب، وستكفر بكلماتك كل أم لها طفل مريض ترى الحياة في سفره للعلاج، وسينفر من تنظيرك العقيم كل شاب يرى مستقبله في دراسة يلتحق بها في بلد يرى فيها النور ويشق فيها طريقا لمستقبل أفضل، وسينقم عليك بل ويبصق على شاشة يقرأ بها مقالك أو تغريدتك التي تطالبه بالصبر والمصابرة، بينما يسمع من هذا وذاك أن فلانا أو علانا قد تم التنسيق له واستطاع الخروج عندما فُتح المعبر. لن تلقى التبريرات والشعارات ودعوات الاصطفاف آذانا من أناس يرون مخالفات وتجاوزات ممن يحكمون غزة.

نعم لقد أخطأت حماس، ليس في أنها تريد أن تكون شريكا سياسيا فاعلا في إدارة برنامج التحرر الوطني، وليس في رهانها على صمود الشعب واصطفافه خلف مقاومته ودعمه لعوامل صمودها وقوتها في مواجهة الغطرسة الصهيونية والإقليمية، وإنما أخطأت حينما أضعفت الحراك الشعبي الفاعل (كاللجنة الشعبية لكسر الحصار)، فقد كان لهذا الحراك صدى لا ينكره عاقل، وجلب تعاطفا دوليا وعالميا، كما ونجح في أن يجعل من حصار غزة جريمة حرب ووصمة عار في جبين الإنسانية.

لقد أغفلت حماس هذا الجانب ولم تفسح له المجال كي يكون فاعلا بجهود المؤسسات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني، التي وعلى ما يشوب تحركاتها من مخالفات، إلا أنها كانت تغطي جانبا لا بأس فيه وتعمل على تعزيز صمود الشعب في مجالات إغاثية وإنسانية. لم يكن تعاطي الحركة موفقا فيما يتعلق بهيئات الأمم المتحدة، والتي وإن نقم عليها الشعب من سياساتها العقابية وانتقائيتها الإغاثية وتهديداتها المتكررة بترك القطاع واللاجئين، إلا أن التعاطي معها بإيجابية واجب ملح في ظل أوضاع إقليمية مضطربة وفي ظل واقع سياسة المناكفة الحزبية الداخلية.

استدرجت حماس إلى حروب ثلاثة أنهكت القطاع ودمرت بنيته التحتية، في الوقت الذي لم تستطع أن تحرك الجناح الآخر في الضفة والقدس والأراضي المحتلة عام 48. وهي لا تلام على ذلك وحدها، فسياط ذوي القربى أحرقت ظهر المقاومة في الضفة، وحالت دون تخفيف الضغوط عن غزة. فماذا يراد من حماس الآن؟ هل يكتفي المطالبون إن قامت حماس بتسليم المعابر والتنازل عن المطالبة بالشراكة السياسية في منظمة التحرير وانتهاج الثورة الشعبية كبديل عن المقاومة المسلحة كي لا تشق الصف الوطني الفلسطيني؟!

في عام 1998 تم افتتاح مطار ياسر عرفات الدولي، وبعد ثلاث سنوات فقط دمرت بلدوزرات الجيش الإسرائيلي مدرج وساحة المطار وتوقف تماما عن العمل. هل كانت حماس هي من تحكم غزة عندما دمر الاحتلال ذلك المطار الذي كان يمثل رمزا لاستقلال الدولة؟ هل كانت حماس من تسببت في حصار الرئيس ياسر عرفات في المقاطعة ومن ثم اغتياله وتصفيته؟

لقد كان في غزة يوما مطار لا معبر، ومع ذلك فقد دُمّر المطار في عهد من أنشأه وأغلقت المعابر وقُسّم القطاع إلى قطاعات، لأن الشعب اختار انتفاضة ترفض الاحتلال وممارساته، ولأن الشعب أيقن أن مسار التنازلات لن يؤدي إلى نتيجة، ولأن الشعب أيقن أن مسار المقاومة وإن ارتفعت فيه تكلفة التضحيات إلا أنه السبيل الوحيد لتحقيق التحرر الوطني. يبقى أن يدرك الجميع أن الشعب ينتظر ممن اصطف خلف برنامجهم أن يرتقوا ببدائل وأساليب ترفع عنهم عسر الحال، وتعزز من صمودهم، وتداوي جراحهم، وتعمر بيوتهم، لا بد أن يطرقوا كل الأبواب الموصدة لتعزيز صمود هذا الشعب العظيم.

لا بد أن يعود التحرك الشعبي في غزة ليشكل رافعة ضغط على القوى الدولية، ولا بد أن يعود حراك مؤسسات المجتمع المدني بقوة ليشكل رافدا لمحاولات إيجاد الحلول السياسية. لا بد من تفعيل الدور السعودي –المتردد أحيانا كثيرة- ولكنه يستطيع أن يشكل قوة ضغط على العسكر المصري في تخفيف المعاناة، وإيقاف سياسة العقاب الجماعي بحق المحاصرين من أهل غزة. لا بد من تطوير الدور التركي ليرتقي في مستوى دعم الصمود ببرامج أكثر عملية يشعر بها المواطن الفلسطيني. لا بد وأن يُستفاد من التعاطف الشعبي في العالم العربي والإسلامي بتعزيز مفهوم "وقف فلسطين"، فما المانع أن يتم إنشاء مشاريع إنتاجية خارج الأراضي الفلسطينية يعود ريعها للشعب الفلسطيني. إن محورية القضية الفلسطينية وتصدرها للمشهد الإسلامي والعربي على ما يعانيه من مشاكل إلا أنها بحسن إدارة يمكن أن نخلق فرصا ونعمل على إيجاد البدائل والتغلب على التحديات، فشعبنا بصموده ونضاله جدير بأن يكافأ لا أن يعاقب.
التعليقات (0)