مقالات مختارة

الاستراتيجي والتكتيكي

عبد المنعم سعيد
1300x600
1300x600
كتب عبد المنعم سعيد: في الحروب عادة هناك ما يسمى "ضباب الحرب أو Fog of War" أو غيوم المعركة، ولا يعود ذلك إلى تلك الأتربة الكثيرة التي تثيرها حركة المدرعات والعربات الكثيرة، أو حتى الاستخدام الكثيف لقنابل الدخان لإخفاء التحركات، وإنما لأن الأمور والمعلومات تختلط لدى القادة، فينتج عنها حالة من عدم الوضوح العقلي لحقائق موجودة في الواقع. من ذلك، أو ربما أكثرها خطورة، اختلاط ما هو استراتيجي بما هو تكتيكي، أو ما بين الكلي والجزئي، بين ما هو آن وحال، وما هو قابل للتأجيل. من ذلك ما جرى خلال الأسبوع الماضي عندما قامت تركيا بإسقاط طائرة روسية تقوم بعمليات عسكرية في إطار الحرب ضد الإرهاب، ترتب عليها حالة من الصدام السياسي بين موسكو وأنقرة حول مسؤولية سقوط الطائرة، وكذلك عما إذا كان كل طرف مخلص للحرب ضد الإرهاب، أم أنه يستخدمها لخدمة أغراض أخرى، وبالطبع عما إذا كان سيترتب على ما جرى انهيار للتحالف الدولي ضد "داعش" أو أنه سوف يستمر في كل الأحوال.

في لحظة ما بدا أن العالم لن يكون بعد يوم 24 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي كما كان قبلها، فحتى ذلك التاريخ بدا كما لو أن القوى الدولية والإقليمية في طريقها إلى تكوين تحالف دولي وإقليمي لتحقيق هدفين: حل الأزمة أو الحرب الأهلية السورية، وهزيمة تنظيم داعش الإرهابي. كانت البداية في هبوط روسيا على مسرح عمليات الشرق الأوسط على الجبهة السورية، ثم أعقبها دعوة روسيا إلى عقد مؤتمر فيينا انتهى إلى برنامج روسي من ثماني نقاط بدا رغم الملاحظات والتحفظات معقولا، بل وربما مقبولا لأنه لم يعد الخلاص من الوجود الروسي ممكنا ما لم يهزم "داعش" وتنتهي الأزمة السورية.

العمليات الإرهابية في باريس لم تكن مثل كل العمليات الإرهابية في العالم، فقد جرت في عاصمة النور، وفي دولة نووية عضو في حلف الأطلنطي. وبشكل ما جاءت العملية كذروة العمليات التي جرت في بيروت، وسيناء، وأعقبتها عمليات أخرى في باماكو وتونس. كل ذلك جعل الائتلاف الذي تكوّن في فيينا ليس فقط مطلوبا بل أيضا ضروريا. أو هكذا بدا الأمر عندما انعقدت قمة العشرين في أنطاليا/ تركيا حتى رغم تصريح الرئيس الروسي بوتين بأن هناك دولا حاضرة للقمة تغذي "داعش" بالسلاح. ورغم قسوة الاتهام، فإن عدم تحديد أسماء الدول جعل الجميع ينظرون إلى الناحية الأخرى؛ ربما إلى حين. أكثر من ذلك أن الرئيس الفرنسي المكلوم فرنسوا هولاند شمر عن ساعديه وقام بجولة دبلوماسية واسعة تدعو إلى تكوين حلف يوفر قوات برية للقضاء على "داعش".  
 
يوم 24 نوفمبر خلق خطا فاصلا، فقد تصدت مقاتلات 16 F التركية للقاذفة السوخوي 24 الروسية وأسقطتها. الرواية التي قدمتها روسيا، وتلك التي قالت بها تركيا، اختلفتا تماما حول عما إذا كانت الطائرة الروسية كانت في الأجواء التركية أو السورية، وعما إذا كانت تلقت تحذيرات كافية، والكيفية التي تم بها التعامل مع الطيارين بعد قفزهما من الطائرة. وأهم من ذلك كله عما إذا كانت الطائرة التي سقطت تقوم بعملية في الحرب ضد "داعش" أم أنها تقوم بها ضد جماعة "التركمان" المعادية لنظام بشار الأسد ضمن المعارضة السورية؟ التفاصيل باتت كلها معروفة، ومع ذلك، فإن كلا الطرفين أصرا على أن يقوم الطرف الآخر بالاعتذار. المدهش أن الولايات المتحدة القريبة من مسرح العمليات، ولديها من وسائل المراقبة الكثير من خلال الأقمار الصناعية، لم تدلِ بدلوها في الحادث.

ما جرى أخذ أسبوعا بدا فيه أن خطة التحالف لمواجهة "داعش" وحل الأزمة السورية، تترنح وتفقد نقطة ارتكازها، لأن روسيا ضالعة في مواجهة الطائرات. ومن الواضح أن بوتين الذي يحاول منذ فترة أن يبني مصداقية روسيا باعتبارها دولة عظمى مرة أخرى تعرض لأمر كهذا، لأن الأتراك وضعوا خطا على الحدود لا يمكن تجاوزه. وفي روايته، فإن تركيا بدأت وكأنها خرجت من حدودها لكي توجه هذه الصفعة. على الجانب الآخر، فإن الرئيس التركي أردوغان كان مصمما على إبراز أن قيام التحالف ضد "داعش" لا ينبغي له أن يستخدم من قبل روسيا للدوس على أطرفها الحدودية، ولم يخلُ الأمر من عجرفة بين بوتين وأردوغان كما يحدث عادة في مثل هذه المواقف، كما أن أحدا منهما لم يكن على استعداد للقبول بأنه في منطقة مزدحمة بالطائرات العسكرية فائقة السرعة، فإن أحداثا مثل هذه يمكن وقوعها. وفي كل الأحوال، انتشر الضباب بشدة بينما تنشر روسيا صورا تؤكد على أن طائرتها سقطت خارج الحدود التركية، وأخرى تؤكد على أن القوات التركية قتلت عمدا واحدا من طياريها، بينما قامت تركيا بنشر تسجيلات تحذر قائد الطائرة الروسية من الدخول إلى المجال الجوي التركي.

حينما سألني دبلوماسي روسي عما أظن بالنسبة للموقف الذي ألح فجأة، كانت إجابتي أننا إزاء موقفين: أولهما استراتيجي يتعلق بالحرب ضد "داعش" وربما ضد الإرهاب في عمومه، وهذا يمس كل الدول التي شاركت في مؤتمر فيينا. وثانيهما تكتيكي يتعلق بالعلاقات التركية - الروسية، وفيه أبعاد تاريخية، وجيوسياسية، وبعض من الاستهلاك المحلي. الأول هو بحكم تطور الأمور في العالم والشرق الأوسط هو الاتجاه الرئيسي، والثاني هو الاتجاه الثانوي، ويبقى عما إذا كان بوتين سوف يحافظ على التوجه الاستراتيجي، أما ما هو تكتيكي سوف يأخذ به في اتجاهات أخرى. الأول هو الجدير بالسعي، ويأخذ به رجال الدولة، والثاني كثيرا ما يذهب إليه الساسة، الحمقى في أغلب الأحوال. وحتى كتابة هذه السطور، فإن تركيا وروسيا سارا معا في اتجاهات تصعيدية، سواء باتهامات أنقرة لموسكو بأنها لا تمارس الحرب ضد الإرهاب، ولكنها تمارس الحرب ضد المعارضة السورية التركمانية تمهيدا لتركيعها أمام بشار الأسد، أو بقيام موسكو بالإعلان عن عقوبات اقتصادية تجاه أنقره.

ومع ذلك، فإن تغليب ما هو تكتيكي على ما هو استراتيجي ربما لن يكون هو المسار الذي تسير فيه الأحداث ليس فقط لأن تحركات دبلوماسية كثيرة تجري بكثافة غير عادية لعودة المسار الرئيسي لما كان عليه، وإنما أيضا لأن "داعش" وحلفاءه لا يتركون وقتا لا يستخدمونه في عمليات إرهابية جديدة تجعل لا بديل هناك لاستمرار الحرب ضدها، ليس فقط بالقصف الجوي، وإنما بعمليات عسكرية برية تدخل إلى قلب "دولة الخلافة" وتدمر فيها العناصر الإرهابية. ففي الوقت الذي كانت فيه روسيا وتركيا، ومعهما بقية العالم، مشغولتين بالأزمة بينهما، كان "داعش" يبحث في مستقبله. ورغم أننا لا نعلم الكثير عما يدور في أروقة القرار في التنظيم الإرهابي، فإن دلالات العمليات الإرهابية تشير إلى تفتيت القوى الإرهابية ونشرها على دول العالم لتحقيق أكبر قدر ممكن من الاضطراب والفوضى والتراجع في الاقتصاد العالمي. تحليل ذلك، وما ينجم عنه من نتائج، ورد الفعل العالمي عليه، سوف يحتاج لمقال آخر! 

(عن صحيفة الشرق الأوسط ـ 2 كانون الأول/ ديسمبر 2015)
1
التعليقات (1)
شاكـــر على
الأربعاء، 02-12-2015 12:15 م
صباح الخير على فيلسوف الحزب الوطنى

خبر عاجل