مقالات مختارة

جاءتنا الحرب إلى عقر دارنا

جون كين
1300x600
1300x600
"حرب في قلب باريس"، عنوان خرجت به لو فيغارو على قرائها مولولة، مشاهد من ملحمة، جنود تعج بهم الشوارع، سياسيون يخطبون، صفارات إنذار تدوي من بعيد، وأناس مرعوبون دموعهم في مآقيهم. 

ما إن أعلن عن حالة الطوارئ حتى اندفعت الأفكار الغريبة تعصف بعقلي السياسي، ولكني أقاومها وأسعى جاهداً إلى منعها.

 في مثل هذه اللحظات الاستثنائية، أذكر نفسي، تغدو الفضائل العتيقة في غاية الأهمية. المسافة العاطفية، والتفكير بذهن صاف، والأحكام الرشيدة، تصبح مما لا غنى عنه. 

ولذا أتساءل: لو وضعنا جانبا كل الثرثرة الإعلامية واللغو، ماذا تعنيه أحداث باريس المحلية للعالم الأرحب؟ هل ستكون لها آثار غير مقصودة؟ هل يمكن أن تفصح الهجمات الوحشية عن مغزى تاريخي أوسع؟.

لا نملك بعد إجابات يقينية على هذه الأسئلة، بل ولا ندري يقينا ما إذا كانت تلك هي الأسئلة الصحيحة. 

ومع ذلك، لا مفر من توضيح بعض الأمور. كان المهاجمون يعلمون جيدا ما الذي يقومون به. لم يكن عنفهم "طائشا" ولم يكن "لا عقلانياً"ولم يكن "من العصور الوسطى"، ولم يكن بأي شكل من الأشكال مستندا إلى القرآن أو مسترشداً بتعاليمه. لقد كان عنف باريس بالتمام والكمال، من حيث الشكل ومن حيث الجوهر، وليد القرن الحادي والعشرين. 

لقد استخدم المهاجمون، الذين كانوا يعملون من خلال شبكات لا مركزية وغامضة، ما يشبه "منطق الفعل الضام"، من حيث ما كان بينهم من تنسيق فضفاض ومن حيث ما كان لديهم من تجهيزات، والفضل في ذلك يعود لما تمارسه التجارة العالمية للسلاح من غدر بالبشرية بعيدا عن الرقابة والمساءلة. لقد أصبحت تكلفة بندقية الكلاشنيكوف هذه الأيام بسعر التراب، حيث لم يعد يتجاوز ثمن البندقية في المتوسط على مستوى العالم مبلغ الخمسمائة دولار إلا قليلا، وكثيرا ما يكون أدنى من ذلك. 

انطلقوا، بنادقهم في أياديهم وقنابلهم مشدودة على خواصرهم وشخوصهم موزعة على مسرح الحدث، لم يخطئ حدسهم بأهمية التوقيت السياسي لعمليتهم. لقد أتقنوا فنون الاستعراض وتنظيم ما يجذب اهتمام الإعلام العالمي. في أقل من ساعتين على الجريمة البشعة كان سبعة رجال موزعين على ثلاث فرق قد تمكنوا من الاستحواذ على كل عنوان في كل ما قد يخطر بالبال من منصات ومنتديات الإعلام حول العالم، في كل مكان على وجه المعمورة.

لا شك أن الدعاية الآنية بهذا الحجم وعلى ذاك المستوى إنجاز باهر، ولا يقل أهمية عن ذلك التذكير الصادر عن المهاجمين للأوروبيين ولبقية العالم بعدد من الحقائق السياسية المبسطة. 

ها قد عادت السياسة الدينية لتتربع من جديد في كل بلد ديمقراطي على قيد الحياة. 

والنمط الفرنسي من العلمانية ( الذي ينص على أن فرنسا جمهورية موحدة لائكية ديمقراطية واجتماعية) لا يمثل صيغة عملية ولا شرعية للسلام. لقد باتت العلمانية الفرنسية هي المشكلة وليس الحل. 
وكما كنت قد كتبت في وقت مبكر من هذا العام، ذهب العلمانيون المتعصبون، باسم تخليص السياسة من التعصب، يصرون على أن الرجال والنساء العقلاء لابد أن يتخلوا عن الله ليس من أجل آلهة أخرى، وإنما من أجل عالم لا إله فيه، الأمر الذي رسخ الشعور بالمهانة لدى كثير من المسلمين وأثار الكثير من المتاعب والمشاكل السياسية والدينية.

وثمة مدلول مهم آخر لهجمات باريس، فهي بمثابة تذكير مزعج بالحرب الأهلية المتفاقمة بين المسلمين حول العالم. كما تثبت مذبحة باريس بما لا مجال للشك معه أن ما يسمى "الحرب على الإرهاب" إنما هي حرب بلا جدوى. وقد عبر عن ذلك بفصاحة ألان غريش، محرر مجلة لوموند ديبلوماتيك، حين قال: "ما فتئنا نخوض هذه الحرب ضد الإرهاب منذ سنوات وسنوات، ومع ذلك لم نجن منها سوي المزيد من الإرهاب".
إضافة إلى كل ذلك، يعلمنا عنف باريس أن الإستراتيجية الأمريكية التي استبدلت بساطير المشاة على الأرض بأشكال جديدة من الحرب تقوم على القوة الجوية وعلى التجهيزات التي يتم التحكم بها عن بعد، لا توفر حصانة ضد النعوش. 

من خلال مناشدتهم المسلمين في كل مكان أن هبوا لقتال "الكفار" مستخدمين كافة الأسلحة و"السموم"، يكون المهاجمون قد جلبوا الحرب إلى ديارنا، إلى شوارع باريس المتحضرة. ولا يستبعد أن تستهدف مدن أخرى في القريب: مومباي، بيروت، مدريد، بوسطن، غروزني، لندن، موسكو، دمشق، سيدني، باريس …. على أي مدينة سيكون الدور؟.

بالطبع، هناك من يقولون بصوت مرتفع، وبلغة مغرقة في ادعاء التقوى والتحلي بمكارم الأخلاق – وهي لغة لا تستهويني بحال من الأحوال، أن العنف المنظم ضد المدنيين الفرنسيين إنما هو هجوم على البشر في كل مكان. 

ولباراك أوباما موقف بهذا الشأن إذ يقول: “إن العنف الذي تعرضت له باريس لهو بالفعل عدوان على البشرية بأسرها وعلى القيم الإنسانية العالمية التي نشترك فيها معا".

ولكن، وكما لاحظ الباحث الإيراني حميد دباشي، الشيء الغريب والدال على النفاق هو أن الهجمات المشابهة التي شنت على المدنيين في مدن عديدة داخل لبنان وأفغانستان وكردستان والعراق والصومال وفلسطين وفي غيرها من الأماكن لم تقابل بالشعور الغاضب نفسه ولا بالموقف العلني المستنكر والمندد نفسه. لماذا هذا الأمر؟ أوليست تلك أيضا هجامات على "جميع البشر وعلى القيم الإنسانية العالمية التي نشترك فيها معا؟" لماذا تمارس المنظومات الديمقراطية الازدواجية في المعايير؟ لماذا نستمر في قصف وإهانة ومضايقة الناس الذين لا تفتر عزيمتهم عن طلب القصاص والانتقام منا؟ بالتأكيد لن يحل السلام إلى أن نجد سبلاً أخرى من التنازل والتصالح؟.

أعلن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أن هجمات باريس ليست سوى "عملا من أعمال الحرب". 

وفي سعي منه للعب دور شارل ديغول في سياق حالة طوارئ تعيشها البلاد بأسرها، وفي سبيل النجاة بنفسه سياسيا، سوف يتوجه قريبا لإلقاء خطاب أمام البرلمان في جلسة طارئة سيعقدها. 

وسوف تدخل البلاد في حالة من الحداد الرسمي لثلاثة أيام. ولكن علينا ألا نغفل أن الانتخابات المحلية من المقرر أن تجري الشهر القادم، ولا ينبغي أن نستغرب إذا ما اكتسحت الفرنسية اليمينية المتطرفة ماري لو بان النتائج وحققت فوزا كبيرا.

في هذه الأثناء سوف يزدهر حديث الجهلاء عن "الإرهاب" وعن "المتطرفين المسلمين" وعن "الأمن القومي". وسيستمر التصيد الكاره للمسلمين من قبل المواطنين الفرنسيين المتحضرين ليؤدي وظيفة مناهضة السامية في حلة جديدة تناسب عصرنا. 

وأما المسلمون، فستصبح الحياة بالنسبة لهم لا يطاق، ليس في فرنسا وحدها، وإنما في كل مكان. وأما أولئك الذين يلوذون بحياتهم طلبا للنجاة فلن ينعموا بالأمان. 

فإثر التغطية الإعلامية المسمومة وانتشار الشائعات بأن واحدا أو اثنين من المهاجمين قد يكونا من ضمن من وصلوا مؤخرا من سوريا عبر اليونان، ستهيء أوروبا نفسها لاستقبال عشرات الآلاف من المسلمين الفارين من جحيم القتل والدمار في ديارهم بجدران شاهقة من التعصب والعنف الموجه والكراهية وعداء الدولة. وستستمر الديمقراطيات الغربية في التحول إلى ثكنات عسكرية تحيط بها الأسلاك الشائكة من كل صوب ويخضع من يعيش فيها للرقابة التامة على مدار الساعة.

وستستمر الحرب، ليس فقط في ديار المسلمين داخل العالم الإسلامي، وليس فقط في أوروبا، بل وفي كل أصقاع الدنيا.


جون كين:

أستاذ العلوم السياسية في جامعة سيدني، وشغل لسنوات طويلة قبل ذلك منصب مدير مركز دراسات الديمقراطية في جامعة ويستمنستر ببريطانيا.

له عدد كبير من المؤلفات في الديمقراطية والإعلام والعنف السياسي والمجتمع المدني


جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "عربى21"
التعليقات (1)
أبوذر الحموي النعيمي
الأربعاء، 18-11-2015 07:42 ص
إن ماطُرِحَ من أفكار لهي جديرة بالقراءة من قبلنا نحن الذين يريد منا الغرب المنافق الذي يدعي الديمقراطيه ويغتالها إذا مارسها المسلمون. هذا الغرب منا أن نكون نائحه لأحزانه في حين هويعمل على خلق أحزاننا