مقالات مختارة

أزمة اللاجئين التي لم تكن

كينيث روث
1300x600
1300x600
كتب كينيث روث: من الممكن أن يختلف الزعماء الأوروبيون حول طريقة التعامل مع تدفق طلاب اللجوء والمهاجرين على ديارهم، إلا أنهم يجمعون أنهم بصدد أزمة في غاية الضخامة، وصفتها أنجيلا ميركيل بأنها "أكبر تحد رأيته في الشؤون الأوروبية طوال فترة عملي كمستشارة".

هذا، بينما حذر وزير الخارجية الإيطالي باولو جينتيلوني من أن أزمة المهاجرين يمكن أن تشكل تهديدا كبيرا لما أطلق عليه "روح" أوروبا. ولكن قبل أن ننساق وراء مثل هذا الخطاب المتوعد بالثبور وعظائم الأمور، علينا أن نعترف بأنه إذا كانت توجد أزمة فهي أزمة ذات طابع سياسي، ولا علاقة لها بقدرة أوروبا على الاستيعاب.
 
لا يوجد شح في القصص المأساوية التي تروي ما جرى مع الآلاف من الناس الذين خاطروا بحياتهم وصحتهم في سبيل الوصول إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، يخوضون عبابه ويصارعون أمواجه في قوارب متداعية، أو يذوقون الأمرين في سفر طويل وشاق عبر البر مخترقين بلاد البلقان وصولاً إلى أوروبا الغربية.

تشير الأرقام المتاحة إلى أن معظم هؤلاء الناس هم لاجئون فروا بأنفسهم وأطفالهم من الصراعات المهلكة في سوريا وأفغانستان والعراق والصومال، بالإضافة إلى الإريتيريين، وهم مجموعة أخرى كبيرة، الذين يفرون من القمع الوحشي الذي تمارسه حكومة إريتيريا بحقهم.

يظل السوريون هم المجموعة الأكبر، وهؤلاء يفرون من وضع في غاية البؤس والشقاء هو محصلة الهجمات العشوائية التي تشنها عليهم حكومتهم، بما في ذلك استخدام البراميل المتفجرة وفرض الحصار الخانق عليهم، إضافة إلى الفظائع التي ترتكبها بحقهم داعش وغيرها من الجماعات المتطرفة. كما تشير هذه الأرقام إلى أن أقلية قليلة جداً من المهاجرين تصل إلى أوروبا مدفوعة بالرغبة في تحسين أوضاعها الاقتصادية فقط لا غير.
 
لا تتجاوز هذه "الموجة من البشر" ما يمكن وصفه بالقطرة إذا ما قورنت بالبركة التي من المفروض أن تحتويها. يبلغ تعداد سكان الاتحاد الأوروبي ما يقرب من 500 مليون نسمة، بينما تقدر أعداد الناس الذين يستخدمون طرقاً غير نظامية للوصول إلى أوروبا عبر المتوسط أو عبر البلقان هذا العام بما يقرب من 340 ألف نسمة. بمعنى آخر لا يتجاوز تدفق المهاجرين هذا العام ما نسبته 0.068 بالمائة من مجموع سكان الاتحاد الأوروبي. وإذا ما أخذنا بالاعتبار ما ينعم به الاتحاد الأوروبي من ثروة ومن تقدم تكنولوجي، فإن من الصعب الادعاء بأن أوروبا لا تتوفر لديها الإمكانيات التي تسمح لها باستقبال القادمين الجدد.
 
ولك أن تقارن ذلك بالوضع في الولايات المتحدة الأمريكية التي يبلغ تعداد سكانها 320 مليون نسمة ويقدر عدد المهاجرين غير الشرعيين فيها بما يقرب من 11 مليون، أي ما نسبته 3.5 بالمائة من إجمالي تعداد السكان. في المقابل يوجد في أوروبا ما بين 1.9 و 3.8 مليون مهاجر غير شرعي بحسب إحصائيات عام 2008 (وهي الأرقام الأحدث المتوفرة لدينا)، أي ما نسبته أقل من واحد بالمائة من تعداد السكان الإجمالي، وذلك بحسب ما تفيد به دراسة أعدت بتكليف من المفوضية الأوروبية ذاتها. إن 13 بالمائة من تعداد السكان الإجمالي في الولايات المتحدة الأمريكية (ما يقرب من 41 مليون إنسان ممن يقيمون فيها) ولدوا في بلد أجنبي، وهو ما يعادل ضعف عدد من يعيشون داخل الاتحاد الأوروبي، ولكن ولدوا خارج أوروبا.
 
طبعا، حكومة الولايات المتحدة أبعد ما تكون عن النموذج الذي ينبغي أن يقتدى به في التعامل مع طالبي اللجوء، وللبلاد حصتها من أمثال دونالد ترامبس الذي يتفنن في اقتراح الأساليب التي يمكن من خلالها طرد 11 مليون شخص من المهاجرين غير الرسميين في أمريكا، وذلك بالرغم من أن استطلاعات الرأي تفيد بأن ثلاثة أرباع الأمريكان يعتقدون بأن المهاجرين غير المسجلين، والذين يقيمون داخل الولايات المتحدة بطريقة غير شرعية، ينبغي أن يمنحوا سبيلا للإقامة بشكل قانوني. وبالفعل، هناك ما يكفي من الأدلة على أن الولايات المتحدة الأمريكية إنما شيدت اقتصادها على هامات وأعناق هؤلاء المهاجرين، الذين امتهنوا حرفا وأعمالا ما كان معظم الأمريكان ليقبلوا بالقيام بها.
 
إذن، فيم هذا الهلع الأوروبي؟ كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، يوفر تدفق الأجانب على البلاد فيضا من المادة التي تصبح سلاحا في أيدي الدهماء، الذين يحاجج بعضهم بأن القادمين الجدد سيستولون على الوظائف أو سيقبلون بأجور أدنى على ما يقومون به من أعمال. نظرا للتلاشي السريع للبطالة في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن حجج هؤلاء تبدو داحضة، إلا أن البطالة الأوروبية في المقابل تبقى معدلاتها مرتفعة ولا توجد مؤشرات على انخفاضها. ولكن في الوقت نفسه تواجه العديد من الأقطار الأوروبية مشاكل ديمغرافية متفاقمة، حيث يتوقع من أعداد قليلة من الشباب، وبشكل متزايد، مساندة الأعداد المتزايدة من المسنين المتقاعدين. إن تدفق أعداد من الناس الذين تحملوا المشاق لينجوا بأنفسهم من الحرب والقمع في أوطانهم وركبوا المخاطر في البحر والبر ليصلوا إلى مواطن الأمان في أوروبا، إنما يوفر حقنة من الطاقة والحماسة ما من شك في أن أوروبا في أمس الحاجة إليها.
 
هناك قلق بشأن الإرهاب. كثير من اللاجئين إنما يهربون من تنظيمات مثل داعش في سوريا والشباب في الصومال، وهناك من يقول إنه لا يمكن استبعاد إمكانية أن يلجأ بعض الإرهابيين إلى الزج بأنفسهم في صفوف البشر المتدفقين. ومع ذلك، أثبتت المجموعات الإرهابية أنها قادرة على إرسال عملائها إلى أوروبا – أو على تجنيدهم داخل أوروبا – عبر وسائل اعتيادية ومألوفة. ما كان اللاجئون ليركبوا أمواج المتوسط ليعبروه في أقسى الظروف أو يخترقوا الحدود البرية وصولا إلى أوروبا عبر البلقان، لو تيسرت لهم سبل أفضل أو أتيحت لهم خيارات أسهل. ولذلك لا يتوقع أن تلجأ الجماعات الإرهابية الممولة جيدا، إلى هذه السبل الصعبة نفسها، ولا يوجد دليل على لجوئها إليها.
 
يبدو أن أكبر مصدر للقلق بين المروجين للأزمة هو الخوف من الثقافة. إن لدى الولايات المتحدة أعدادا أكبر بكثير مما لدى الاتحاد الأوروبي من المهاجرين غير المسجلين، ومازالت أمريكا أمة من المهاجرين. بل تعزى حيوية أمريكا إلى حد بعيد إلى الطاقة والأفكار التي أتت بها أمواج المهاجرين إلى شواطئها. من حين لآخر تتقدم السياسات المناهضة للمهاجرين في الولايات المتحدة، كما حدث من إقصاء الصينيين في ثمانينيات القرن التاسع عشر، واحتجاز الأمريكان من أصول يابانية في أربعينيات القرن العشرين، والحظر الذي فرض على مواطني هاييتي في تسعينيات القرن العشرين، وما يجري حاليا من اعتقال الأمهات وأطفالهن الصغار الهاربين من القهر في أمريكا الوسطى. ومع ذلك، يعترف كثير من الأمريكان بأن حياتهم إنما أثراها التنوع.
 
لا تعتبر معظم البلدان الأوروبية نفسها أمما من المهاجرين، ويخشى كثير من الأوروبيين أن يقوض تدفق الأجانب ثقافاتهم المريحة. ويشير البحث إلى أن هذا القلق يشكل عاملا كبيرا في الدعم الذي تحصل عليه الأحزاب الشعبوية المتطرفة في كثير من دول الاتحاد الأوروبي. ويعزز من الخوف لدى أوروبا - المسيحية في معظم تكوينها – أن معظم القادمين الجدد هم من أتباع الدين الإسلامي، ولم تتوان بعض الحكومات – مثل حكومات بولندا وبلغاريا وسلوفاكيا – عن التصريح بأنها تفضل استقبال المهاجرين المسيحيين.
 
تراكم هذا الشعور بالقلق والارتباك عبر عقود شهدت خلالها أوروبا تغيرا بطيئا في تركيبتها السكانية. وكما هو متوقع فإن أحزابا وسياسيين في مختلف أنحاء أوروبا، يستخدمون تدفق المهاجرين لتعزيز هذه المخاوف، ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر حزب الاستقلال البريطاني، ومارين لو بان في فرنسا، وغيرت وايلدرز في هولندا، وماتيو سالفيني في إيطاليا، وميلوس زيمان في جمهورية التشيك.
 
نحن أمام تحد سياسي يتطلب قيادة سياسية على مستوى التحدي، ولسنا إزاء مشكلة قدرة على استيعاب المهاجرين الحاليين. ما من شك في أن بعض السياسيين كانوا على مستوى الحدث، ومن هؤلاء ميركيل، ووزير خارجية فرنسا لورينت فابيوس، ورئيس المفوضية الأوروبية جان كلود جانكر، وغيرهم، الذين صدعوا ضد الدهماء مؤكدين القيم الأوروبية التي يهددها أمثال هؤلاء. ومع ذلك، فثمة المزيد مما يمكن أن يقال، وثمة الحاجة إلى مزيد من الزعماء السياسيين ليقولوه.
 
على الزعماء الأوروبيين أن يتذكروا كيف استجاب الآخرون بسخاء في أثناء الحرب العالمية الثانية، وذلك حينما كان الأوروبيون هم الذي يتعرضون للاضطهاد بل وأصبح كثير منهم لاجئين. وبعد الحرب، اعتنقت الأمم الأوروبية القانون الدولي الذي يطالبهم بالترحيب بأي طالب لجوء يثبت أنه يفر من الاضطهاد. وتصديقاً لهذا المبدأ والتزاما به أعلنت ألمانيا والسويد أنهما على استعداد لاستقبال اللاجئين السوريين الذين يصلون إلى حدودهما، وأنهما لن تعيدهم إلى أول بلد أوروبي دخلوه كما تنص عليه قواعد "دبلن" للجوء التي توافقت عليها دول الاتحاد. ينبغي على الدول الأوروبية الأخرى أن تسير على خطاهما وتقتدي بفعلهما، كما ينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يعترف بقائمة أكبر من البلدان المنتجة للاجئين، وأن يراجع قواعد دبلن التي يمكن أن تؤدي إلى حشر طالبي اللجوء في أقطار الاتحاد الأوروبي التي لا تتوفر لديها القدرة على استيعابهم وحمايتهم، وقد يفرض ذلك على طالبي اللجوء السياسي دفع المال للمهربين حتى يساعدوهم على الخروج من هذه البلدان.
 
أما فيما يتعلق بأولئك الذين لم يصلوا بعد إلى أوروبا، إن مما يعافه الضمير الإنساني أن يُستغل خطر الموت غرقا في البحر، أو سوء المعاملة على أيدي المهربين وسيلة لردعهم عن القدوم طلبا للجوء. إن عدم توفير طرق آمنة وقانونية هو الذي يقوي المهربين غير الشرعيين الذين يجنون المال، بينما يغرق الأطفال هربا من الحروب. ينبغي توفير وسيلة نقل منظمة لطلاب اللجوء الذين يصلون اليونان – وهي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي – بحيث يتمكنون من الوصول إلى الأجزاء الشمالية من الاتحاد الأوروبي الأقدر على التجاوب مع مطالبهم الإنسانية، بدلاً من أن يفرض عليهم تحمل المخاطر الناجمة عن شبكات التهريب التي تمنيهم بتمكينهم من عبور البلقان.
 
هناك حاجة ماسة لمعالجة الأسباب التي تدفع باللاجئين إلى ترك أوطانهم في المقام الأول. يحتاج القادة الأوروبيون وغير الأوروبيين إلى ممارسة المزيد من الضغط لوقف قصف المدنيين من قبل جيش النظام السوري. فنظرا لأن البراميل المتفجرة تستخدم لاستهداف المدنيين في المناطق كافة الخاضعة للمعارضة، فإنها تبطل فعالية إجراءات النجاة المعتادة التي تشتمل على الانتقال بعيدا عن خطوط المواجهة بحثا عن الأمان، وهذا ما يحفز أعدادا متزايدة من السوريين على الفرار من البلاد بشكل كامل. كما يتوجب على هؤلاء الزعماء أن يقدموا المزيد لجيران سوريا، مثل لبنان الذي بات اللاجئون السوريون يشكلون عشرين بالمائة من إجمالي تعداد سكانه، وهي نسبة تفوق بمراحل نسبة المهاجرين في أي بلد من بلاد الاتحاد الأوروبي.
 
يتوجب على القادة السياسيين ألا يسمحوا للدهماء بأن يغيروا الموضوع من خلال تخويف الناس وتحريضهم على طالبي اللجوء والمهاجرين. هؤلاء الذين يتحركون باتجاه أوروبا، حتى لو كانوا كثيرين، فإن من الممكن استيعابهم وتدبر أمورهم. إن السؤال الحقيقي الذي يواجه القيادة السياسية في أوروبا هو أين هي المبادئ التي تعتز بها أوروبا وتدعيها، وما هي القيم التي توجه أوروبا في عالم لم تعد شعوبه ساكنة أو ثابتة في أماكنها؟ كلما زاد عدد الزعماء الأوروبيين الذين يجيبون على هذا السؤال من خلال إعادة تأكيد القيم الأوروبية – من مثل تلك التي ورد النص عليها في المعاهدات التي تحمي اللاجئين –، كانت الثقافة الأوروبية أكثر أمناً، حتى في هذه الفترة من الهجرة والاضطراب. 

(عن صحيفة العالم بوست، ترجمة "عربي21، 5 أيلول/ سبتمبر 2015)
التعليقات (0)