مقالات مختارة

لبنان.. لحظة الحقيقة!

جيمس زغبي
1300x600
1300x600
كتب جيمس زغبي: لقد كانت مفاجأة عبقرية أن أطلق الشباب المحتجون في لبنان اسم "طلعت ريحتكم" على حركتهم. 

وفي كلمتين اثنتين فقط، أصابوا كبد حقيقة الأزمة المباشرة في دولتهم، المتعلقة بالقمامة المتراكمة، ومشكلاتها الهيكلية المتفشية منذ أمد طويل.

ومنذ أشهر تتراكم القمامة في مدن لبنان، بينما يُساوم السياسيون في البلاد على منح عقود جمعها والتخلص منها. 

وبينما نحن في فصل الصيف، تنتشر رائحة المخلفات المتعفنة في كل مكان. ولكن كما يشير المتظاهرون، وهم محقون، أن هذه الفوضى ليست سوى دلالة على العفن المتجذر والمتمثل في الفساد داخل لبنان، والنظام السياسي الطائفي المشلول في الوقت الراهن.

فالبرلمان لا يعقد جلساته، ولا يمكن أن يحشد الأصوات اللازمة لانتخاب رئيس جديد (ومن ثم لا يزال المنصب شاغرا منذ عامين تقريبا)، كما أنه لم يقر موازنة منذ نحو عقد، ومدد تفويضه مرتين، لأنه لا يمكنه الاتفاق على كيفية إجراء الانتخابات المقبلة.

وربما يقول المرء إن لبنان يمثل حلم المحافظين الأمريكيين، ويجسد شعارهم: "الحكومة التي تحكم أقل، تحكم أفضل"، وقد يتفق المرء مع ذلك الشعار إلى أن يشم رائحة القمامة!

وفي غياب المؤسسات الحكومية الفاعلة، تكمن السلطة والامتيازات في أيدي العشائر والطوائف ورؤساء الإقطاعيات، الذين يديرونها. 

وفي دلالة على التشوش، تبدو حالة الوهن هذه ونظام محاصصة السلطة والوصاية المتفق عليه، لبعض الوقت، مصدرا للمرونة في لبنان، إذ إن هذا النظام قدم لأعضاء كل طائفة درجة من النفوذ والوصاية، وامتص غضبهم. 

وعلى الرغم من أنه أصبح باليا، إلا أنه يظل هو النظام الوحيد القائم في البلاد. وقد أحدث التدخل من قبل الإسرائيليين والسوريين والفلسطينيين، في حقب زمنية مختلفة من تاريخ لبنان، ضغوطا هائلة اختبرت بقسوة هذا النظام الهش عن طريق الإخلال بالتوزيع الديمغرافي والعلاقات المجتمعية وميزان القوى، وقدرة لبنان على توفير الخدمات الأساسية لمواطنيه.

بيد أن لبنان يمر الآن بمرحلة دقيقة، لاسيما أن الحرب الدامية في الجوار تلهب نيران الطائفية، وقد انخرط فيها بصورة مباشرة بعض اللبنانيين (خصوصا "حزب الله")، وهجّرت نحو مليون ونصف المليون سوري إلى لبنان، واضعة ضغوطا شديدة على مصادر البلاد ونظامها السياسي المتحلل. 

ويتفاجأ المراقبون من أنه حتى في ظل تلك الضغوط، لا يزال لبنان هادئا بصورة ملحوظة. وحتى الآن تعدّ "طلعت ريحتكم" هي حركة الاحتجاج الأولى التي تعبر عن الغضب الجماهيري.

وعلى الرغم من ذلك، تعدّ مشكلة لبنان أشد عمقا، إلى درجة أنها لن تُحلّ بالاحتجاجات الجماعية، وخصوصا أن النظام الطائفي منتشر، وعلى الرغم من الثقافة السياسية النشطة والحريات النسبية في لبنان، إلا أن هناك غيابا ملحوظا للمؤسسات السياسية الوطنية غير الطائفية، التي يمكن أن تكون وسائل للتغيير المنشود.

غير أن هناك شيئا يمكن البناء عليه، فمن خلال تحليل استطلاعات الرأي التي أجريناها في لبنان خلال العقد ونصف العقد الماضيين، لاحظت تقاربا ملحوظا في الرؤى عبر الطوائف المختلفة، يمكن أن يشكل أساسا لحركة شعبية واسعة النطاق، من أجل إحداث تغيير جذري. 

وبالطبع هناك قضايا تُقسّم اللبنانيين، ولكن لبنان هو الدولة العربية الوحيدة التي تصرح فيها الجماعات الديمغرافية كافة بأن هويتها الأساسية هي بلدها، وليست عروبتها، أو انتماؤها الديني. 

وعلاوة على ذلك، يحدد جميع اللبنانيين من الطوائف كافة الأولويات السياسية ذاتها، المتمثلة في توفير فرص العمل، والقضاء على الفساد والمحسوبية، والإصلاح السياسي، وتحسين نظامي التعليم والرعاية الصحية في البلاد. 

ومن الملاحظ بصورة كبيرة، أنه عندما سئل اللبنانيون عما إذا كانوا يؤيدون الانتخابات التي تعتمد على نظام المحاصصة الطائفي الحالي، أو نموذج صوت واحد لكل شخص، أكد غالبية اللبنانيين من الطوائف كافة أنهم يفضلون الطريقة الأخيرة.

وبالطبع، ستجد الكيانات القائمة في نهاية المطاف طريقة لجمع قمامتها، ولكنها لن تتخلى طوعا عن امتيازاتها. 

وما يحتاجه لبنان هو حركة سياسية قادرة على قبول أجندة إصلاح وطني غير سياسية، يمكنها حشد اللبنانيين حول القضايا التي توحدهم، حركة يمكنها أن تقدم مرشحين يخوضون الانتخابات البرلمانية المقبلة، ويبدأون عملية الدفع بجيل جديد من القادة إلى مقدمة الساحة السياسية.

ولبنان ليس مثل مصر أو تونس، وإنما هو دولة ضعيفة، تحتاج إلى مؤسسات وطنية قادرة على إجراء تحول سياسي مستقر، لا يمكن أن يأتي إلا من خلال حركة وطنية منضبطة برؤية استراتيجية. 

ولن يكون ذلك سهلا، ولن يحدث التغيير سريعا، ولكن لا بديل عن ذلك في النهاية.

(عن صحيفة الاتحاد الإماراتية 30 آب/ أغسطس 2015)
التعليقات (0)