قضايا وآراء

مصر بين الفن الأصيل وفن التطبيل

تمارة الزبن
1300x600
1300x600
الشيخ إمام يصدح بـ"شيد قصورك على المزارع" في وجه السجّان عندما تم نقله من زنزانته فيغني معه باقي المساجين بأعلى ما أوتيت حناجرهم، ويبدأ صباحنا معه وهو يدندن "طلع الصباح كل الجمال في طلعته"، ونختتم سهرتنا المسائية على صوته وهو يغني "يا ولدي"، ونكتب رسائلنا الغرامية على إيقاع "أهيم شوقا".

أم كلثوم تغني للجنود المصريين في الجبهة وترفع روح الفدائيين المعنوية فتغني لهم "أصبح عندي الآن بندقية إلى فلسطين خدوني معكم"، وتهتف معها الجماهير بـ"أنا الشعب لا شيء قد أعجزه".

أمثلة أوردتها كي يستحضر القارئ ما كنا نسمعه على الإذاعات المصرية عندما كانت مصر والمنطقة العربية بشكل عام تمر بظروف سياسية حالكة، وهذا لا يعني أن الغناء المصري كان مقتصرا على المصريين، ففيروز غنت رائعة سيد درويش "أهو دا إلي صار وادي إلي كان"، ولم يكن الغناء مقتصرا على الحرب والقتال بل جميعنا نعرف أن الحب قد غُنّي في مصر، هو والفراق والشوق والبعد، وكلنا نحفظ عن ظهر قلب تراتيل عبد الوهاب وأم كلثوم وأسمهان وعبد الحليم، كان ذلك الفن يتحدث عن وجه مصر الحقيقي وعن مختلجات شعبها ومعاناتهم اليومية، كان الغناء يحكي قصة حناجر المصريين التي أنهكها العطش في التظاهر والسعي وراء لقمة العيش، كان الغناء يحقق معناه بأن يكون صوت الإنسان المصري وشجنه يصل إلى العالم على حقيقته.

أما الآن، وبينما كان الآلاف من أبناء مصر يشتعلون -حرفيا- في ميدان رابعة العدوية، فقد كانت أغنية "بشرة خير" يتم تحضيرها وتصويرها بعيدا عن الميدان طبعا، حيث يظهر الكليب وجه مصر البلهاء الراقصة على جثث أبنائها، بابتسامات ساذجة ورقص وطبل يخيل لك منه أن مصر في أوج قوتها وسعادتها، وبدلا من فيروز احتفلت نانسي عجرم بذكرى مجزرة رابعة الثانية بأغنية جديدة بعنوان "عالبركة" حيث تتدلى فيها قدما مصر كفتاة بلهاء تفتح فمها للهواء وتلهو بيديها، ويستمر ماراثون الفن المنافق بمنافسة بين المطربين المصريين الذين حرصوا على إظهار وجه مصر الغلبانة بس سعيدة -بطريقة ساذجة- بشقائها وإنهاكها، ربما نستطيع التنبؤ أن السيسي سعيد جدا بهذه الأغاني، فهو بابتسامته السينمائية وتعابيره الشكسبيرية في خطاباته يشعرك أنه تولى سلطته بديمقراطية الصناديق وأن شعبه راض تماما عنه وعن إنجازاته في محمد محمود والنصب التذكاري وقناة السويس الجديدة التي يحاول العالم للآن فهم الفائدة منها.

في مرحلتين من تاريخ مصر تمكن فيها العسكر من تغيير نظام الحكم، الأولى في ثورة الضباط الأحرار 23 تموز/ يوليو 1952 بقيادة اللواء محمد نجيب، ومرة في الانقلاب العسكري الذي قاده الفريق عبد الفتاح السيسي ضد الرئيس المُنتخب محمد مرسي في 3 تموز/ يوليو2013، وبلمحة خاطفة للأغاني التي غُنيّت إبان ثورة الضباط نجد أن الموسيقار عبد الوهاب أنتج تحفة فنيّة لحنّها وغنّاها هو وكانت من كلمات الأخوين الرحباني، تقول الأغنية في مطلعها: 

"طول ما أملي معايا معايا.. وفي إيديا سلاح
هافضل أجاهد وأمشي وأمشي من كفاح لكفاح
وطول ما إيديا فى إيدك أقوم وأهتف وأقول
حي حي على الفلاح". 

وفي رائعة أخرى للموسيقار ذاته يقول: 
"دقت ساعة العمل الثوري لكفاح الأحرار
تعلن زحف الوطن العربي بطريقه الجبار
والثوار هم الشعب والأحرار هم الشعب
عارفين المشوار
هي إرادة شعب اتحرر يوم تلاتة وعشرين
طلع الفجر عليه كان عارف هو طريقه منين".

أما عن السّت فقدمت لنا في عام 1952 أي إبّان الثورة نفسها أغنية "مصر التي في خاطري"، تقول فيها: 

"مصر التي في خاطري وفي فمي
أحبها من كل روحي ودمي
يا ليت كل مؤمن بعزها يحبها
حبي لها
بني الحمي والوطن
من منكم يحبها مثلي أنا
نحبها من روحنا
ونفتديها بالعزيز الأكرم
من عمرنا وجهدنا
عيشوا كراما تحت ظل العلم
تحيا لنا عزيزة في الأمم". 

نستطيع أن نرى طبيعة الفن الذي ينتجه الشعب في الثورة الشرعية، يتغنى فيه بالشعب وإرادته وقدسية الأرض والتفاف أبناء مصر حول رايتها الحرّة، ولعقد مقارنة صلبة، نورد بعض الأغاني التي تلت "الثورة" الغير شرعية بقيادة عبد الفتاح السيسي في عام 2013 لنرى الفرق.

أوبريت تسلم الأيادي الذي غنته "نخبة" من المطربين المصريين "الشعبيين" المعروفين بالغناء الهابط، والمعروفين كذلك بالتغنّي سابقا بنظام المخلوع مبارك، فكأنها موجة من الرقّاصين والطبّالين تنتظر النتيجة مهما كانت للتغنّي بها، ففي "تسلم الأيادي" يظهر المغنوّن في الفيديو كليب وهم يتراقصون ويصفقون كأنهم في حفلة مولد، وتم إهداء هذا الأوبريت للفريق عبد الفتاح السيسي بكلمات من المغنى الشعبي مصطفى كامل، ينسب فيها الدماء التي بُذلت من أجل مصر لقيادة الانقلاب وجيشه، الكلمات: 

"تسلم الأيادي
سلام يا جيش بلادي
آسالو الرمل إلا في سيناء
إنت مروى بدم مين
دم حنا ولا مينا
ولا دم المسلمين
ابن عمي وابن خالي
وصحبي من عشرة سنين
تسلم الأيادي
سلام يا جيش بلادي
تسلم الأيادي".

وبعدها أتحفنا المطرب الإماراتي حسين الجسمي بوصلة رقص بعنوان "بشرة خير" يُظهر فيها وجه مصر المثالي الأبله، بعيدا عن الفقر والقتل والدماء التي سفكها السيسي داعيا الشعب المصري للتصويت لسفّاحه، وسرعان ما يبدأ الصعيدي و"ابن أخوه البورسعيدي "والشباب" الإسكندراني بالرقص والتطبيل لنشعر كم هي مصر سعيدة وخالية من كل المشاكل، ولننسى مجزرة محمد محمود والنصب التذكاري ورابعة العدوية، وننسى العشوائيات والفقر المدقع والأمية الضاربة جذورها في أبناء الشعب، فنرقص مهللين وفرحين أن مصر أخيرا حظيت بقائد جاء عبر الصناديق "الشرعية" وبابتسامة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين تلهينا عن التعاون الخارجي المريب مع الانقلاب، وترسخ في أذهان المشاهد العربي فكرة مصر الجوزة والكيف والرقص وشارع الهرم.
التعليقات (6)
هدى عباس
الأحد، 11-10-2015 02:59 م
أقصد شوقتيني لقراءة المقال
هدى عباس
الأحد، 11-10-2015 01:44 م
مبدعة يا تمارا. اهنئك على هذا التحليل الرائع واللغة السلسة. شوقتيني لقراءة الكتاب
احمد سامي
الأحد، 30-08-2015 02:32 ص
كلهم افاقين و كذبة لا فارق في ذلك بين ام كلثوم و عبد الحليم و عبد الوهاب و بين الحاليين ..فعندما كان عبد الناصر يعمل آلة بطشه و ينصب المشانق في محاكم الشعب كان عبد الوهاب يغني له تسلم يا غالي..اغنية لا تختلف في معناها او مبناها عن تسلم الايادي ..غاية ما هنالك ان اننا ننسى
أبوعبدالله الضيفى
الأحد، 30-08-2015 01:57 ص
صباح الورد
امو
السبت، 29-08-2015 01:38 م
من نكد الدنيا علي المسلمين أن يقرؤوا ويشاهدو ماتعشيه مصر من تقول السفلة ًالتافهين علي مصر الكمان خابت الصهيونية وعملا ئها