مقالات مختارة

مشاكل لبنان المؤجلة قد تصبح قريبا بلا حل

أحمد شهاب الدين
1300x600
1300x600
لبنان بلد غير معقول، يترنح على حافة اختلال وظيفي تام، فالبلد بلا رئيس منذ أكثر من 460 يوما. لقد استوعب حتى الآن ما يقرب من مليوني لاجئ سوري، ويعاني منذ عقود من انقطاعات واسعة في التيار الكهربائي. وفي العام الماضي اتخذ أعضاء البرلمان المكلفين بحل هذه المشاكل قرارا بتمديد فترة وجودهم في البرلمان حتى عام 2017، متجاهلين الدعوات المطالبة بإجراء انتخابات وإيجاد تمثيل حقيقي للشعب.

وفي سبتمبر، عندما انتهت مدة خدمة القائد العام للقوات المسلحة اتخذ وزير الدفاع قرارا من طرف واحد بالتمديد له عاما آخر، وبدلا من تعيين قائد عام جديد -كما جرت عليه العادة في لبنان- وضعت على الجرح لزقة أخرى وتقرر ترحيل المشكلة بدلا من حلها.

إلا أن لبنان، مثله في ذلك مثل المتظاهرين في الشوارع نهاية هذا الأسبوع، مازال ينزف. عندما انطلق الآلاف إلى الشوارع نهاية هذا الأسبوع للتظاهر ضد المعاملة المهينة التي يتعرضون لها وللتعبير عما يجول في خاطرهم من شعور بالظلم، بالغت الحكومة في رد فعلها بالرغم مما عرف عنها من قعود عن عمل أي شيء.

لجأت عناصر الشرطة والجيش التي أمر بنشرها القائد العام إلى استخدام الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي والهراوات لردع المتظاهرين مما أدى إلى إصابة العشرات منهم بجراح. ولقد كان من دواعي السخرية أنه بالرغم مما يعانيه لبنان من شح في المياه، لجأت الشرطة إلى استخدام خراطيم المياه لتفريق المتظاهرين.

ومع ذلك، ثمة ما يدفع على الأمل.

لقد حق للناس أن يصيبهم الضجر ويسأموا من دورة الشلل الحكومي والمماحكة السياسية والصراع الفصائلي، بل وأن ينتهي بهم المطاف أيضا إلى نقطة الانفجار. يبدو أن الروائح الكريهة المنبعثة من أكوام القمامة المتراكمة بعضها فوق بعض في صيف بلغت درجات الحرارة فيه مستويات غير مسبوقة قد نبه حتى أقل المواطنين اكتراثا إلى حقيقة أن مشاكل لبنان المتفاقمة لا تشكل فقط مأساة لا تطاق بل وربما مأساة سيصبح محالا عما قريب حلها والتغلب عليها.

لقد بلغت الأمور حدا أصبحت معه المشاكل اليومية تهدد ذلك السلوك الذي يعتمد الاستمتاع المرح بمباهج الحياة، والذي تعود البيروتيون عليه بل وكثيرا ما يتفاخرون به ويلجأون إليه نأيا بأنفسهم عما يعتبرونه مصاعب غير ضرورية في الحياة اليومية، وذلك أن هذه المشاكل لم تعد بعيدة عن النظر ولا بعيدة عن الذهن. 

وبدلا من ذلك، كما حصل في حالة القمامة المتراكمة في شوارع بيروت، لم يعد الأمر يقتصر على كونها باتت مرئية للعيان، بل بات تجاهلها مستحيلا. والمحزن في الأمر أن الحلول لا تتجاوز كونها إجراءات مؤقتة كما جرت عليه العادة منذ وقت طويل. لقد لجأ بعض سكان المدينة إلى حرق النفايات، بينما تقوم البلديات بإخفائها في هذه الزاوية أو تلك من شوارع المدينة أو تعمد إلى دفنها في الساحات غير المأهولة، بينما يرجو عدد متزايد من الناس بأن تجد المشكلة طريقها إلى الحل يوما ما في المستقبل آملين ألا يكون ذلك بعيدا جدا.

وبينما يستمر الناس في التجمهر في الشوارع مطالبين الحكومة بالاستقالة، يلجأ آخرون إلى الفيسبوك وإلى تويتر متسائلين عما إذا كان رد فعل الحكومة القاسي على المتظاهرين سوف ينجم عنه لا محالة مصير مشابه لذلك الذي وصلت إليه كل من سوريا وليبيا والعراق واليمن – أي الدولة الفاشلة. إلا أن السؤال الأهم والأكثر صلة بالموضوع بتعلق بما إذا كانت هناك دولة في لبنان حتى يخشى عليها من الفشل.

في نفس الوقت يتساءل آخرون عن أي الأحزاب لديها ما يسمى بـ "حق الاحتجاج" بينما السؤال الحقيقي الذي ينبغي أن يطرح هو لماذا يحرم الناس، كأفراد مواطنين في لبنان، من حق الاحتجاج.

هذه واحدة من المشاكل الأساسية في البلاد. فالناس هنا يحبون الجدل، وهم مغرمون بالشكوى (وحتى الأجانب منهم – وفي بعض الحالات الأجانب منهم بشكل خاص). ولكن كثيرا ما يحصل أن تكون الأسس التي تنطلق منها هذه النقاشات قائمة على أرضية من الانتماءات السياسية أو الطائفية التي يتخندق حولها الناس (والانطباعات التي ترافقها) بدلا من الوقائع على الأرض والتي تديم مثل هذه النظرات المتوارثة أبا عن جد في معظمها.

أعترف بأنني لا أعيش في لبنان، وأدرك أنه قد يسهل علي أن أقول ذلك، ولكن يبقى الأمر حقا وصدقا، ومفاده أن كل هذه الطاقة وكل هذا الوقت إنما يقصد منه الإرباك.

ثمة حقيقة واقعة لم يعد من الممكن إنكارها، ألا وهي أن النخبة السياسية، رغم أنها تبدو في الظاهر متحكمة بمقاليد الأمور، أثبتت أنها في غاية العجز وانعدام الكفاءة، ليس مرة واحدة ولا مرتين وإنما بشكل مستمر.

ومع ذلك سيبقى هناك من يجادل ويستمر في القول بأن لبنان، وبالرغم من كل التحديات الداخلية والخارجية التي يواجهها، بقي محصنا نسبيا، وذلك بالضبط بفضل النخبة الحاكمة ونظام المشاركة في السلطة الفريد من نوعه والمختل وظيفيا بسبب طبيعته الطائفية. وسيكون هناك من يقول إن المناخ الإقليمي والظروف التي تسود في الجوار يجعل الاعتراض على الأمر الواقع مسألة محفوفة بالمخاطر، ويقول إيضا: صحيح أن السياسيين فاسدون، ومن المؤكد أنهم لا يحلون أي مشكلة، ولكن انظروا إلى ما جرى ويجري في مصر حيث يتقدم الأمن على الحرية ويتقدم الأمن على الكرامة ويتقدم الأمن على الإنسانية. ولكن، مثل هذا المنطق لا يقل فسادا عن الزعماء أنفسهم.

لقد باتت السخرية بسخافة السياسيين في لبنان والشكوى من استشراء الفساد مجال تسلية قومي. ولكن إذا ما أردنا أن نتعلم درسا من ثورة مصر، يتوجب علينا أن نطرح السؤال التالي: ما الذي سيحدث لو أن الجيل الجديد تمكن من تنظيم نفسه ليفرز من داخل صفوفه سياسيين جدد بينما يستمر في نفس الوقت، ومن خلال الشارع، في تحدي القدامى منهم؟

من المحال معرفة ما الذي سينجم عن هذه اللحظة من تاريخ لبنان، ومن المحال معرفة ما إذا كانت هذه بداية ثورة أو مجرد ومضة أخرى ضمن الأيلولة المستمرة في لبنان ما بعد الحرب الأهلية. وذلك أنه كلما ذكر لبنان في الأخبار وقع التركيز دوما على دوره في النجاة بنفسه – وهذا بلا شك صحيح. فلقد "نجا" من رياح الانتفاضة العربية، ونجا من الحرب في سوريا ومن وقع اللاجئين على اقتصاده الذي يئن تحت وطأتهم. وها هو ينجو من الدولة الإسلامية ومن الخطر الذي يتهدد أمنه بسببها. نعم، ما من شك في أن لبنان قد نجا بالرغم من كل ما يواجهه من مصاعب. ولكن ماذا لو تمكن لبنان بدلا من النجاة بنفسه فحسب من أن يزدهر وينتعش تارة أخرى؟

أعترف أنني لست لبنانيا، ولكني، ككثيرين غيري ممن يقضون كثيرا من وقتهم في البلد، وبغض النظر عن كثرة ما يصدر عني من شكاوى حول بعض الأمور حينما أكون هناك، وقعت في حب لبنان. كما أنني إنسان حالم، وأعرف ما يكفي من الشباب اللبنانيين الحالمين، لدرجة تجعلني متمسكا بالاعتقاد أنه يمكن لهذه اللحظة أن تصبح نقطة محورية في التحول، ولكن دون السقوط في حالة من السذاجة إزاء هذه القناعات. فقد تعلمت مما لدي مع لبنان من خبرة محدودة، وإن كانت وثيقة، أن من مفارقات الحياة هنا أنها يمكن أن تكون كل شيء ولا شيء في نفس الوقت: محبطة بقدر ما هي فاتنة، ومرنة لينة بقدر ما هي مذعنة مستسلمة.

في يوم الأحد قطع رئيس وزراء لبنان على نفسه عهدا بأن يحاسب عناصر قوات الأمن على العنف الذي يمارسونه ضد المتظاهرين. ولكن، بينما يقبع المتظاهرون وراء القضبان في الزنازين لم يتخذ إجراء واحد بحق قوات الأمن التي هاجمتهم.

بالطبع، تماما كخيبة الأمل التي نشعر بها جميعا حينما يحنث الحبيب بوعوده لحبيبه، تركنا قادة لبنان لنشعر جميعا بحالة من القنوط والإحباط ليس مرة واحدة بل مرات عديدة. باختصار، الحكومة هنا لا تملك سوى الكلام. لديها قليل من العزم ولكن بلا فعل على الإطلاق.

صحيح أنك لا تملك اختيار من تحب، ولكن بإمكانك أن تختار الأسلوب الذي ترد به على ما تصاب به من خيبات أمل. بإمكانك أن تستمر في مطالبتهم بأن يتغيروا، وإلا فعليك أن تغير من نفسك، ومن خلال ذلك تغير الظروف التي من حولك.

وهنا أنقل ما ذكرنا به السفير فليتشر في الكلمات التي ودعنا بها:

أعتقد أن بإمكانكم أن تتحدوا التاريخ والجغرافيا وحتى السياسة. بإمكانكم أن تبنوا البلد الذي تستحقونه، وقد يكون بإمكانكم حتى الانتقال من استيراد المشاكل إلى تصدير الحلول. مازال الانتقال من جيل الحرب الأهلية بعيدا، وسيكون صعبا بالتأكيد. لا ينبغي أن تكتفوا بالاحتفال وبالصلاة فوق التصدعات. بإمكانكم أن تفلحوا لو تشكلت لديكم فكرة عن لبنان التي تؤمنون به. أنتم بحاجة لأن تكونوا أقوى من القوى التي تريد أن تمزقكم وتشتتكم. ناضلوا من أجل الفكرة التي هي لبنان ولا تقتتلوا حولها.

وأنا أوافقه مئة بالمئة فيما ذهب إليه. #طلعت_ريحتكم.

(صحيفة هافينجتون بوست)
التعليقات (0)