مقالات مختارة

حينما يجامل الثائر فيغض الطرف عن الحقيقة

عزام التـميمي
1300x600
1300x600
كتب الدكتور عزام التميمي.. يرد على جيري آدمز رئيس حزب الشين فين الجمهوري الإيرلندي:

ما فتئت حركات التحرر في الماضي والحاضر تمثل مصدر إلهام للشعوب التي ماتزال تناضل من أجل الحرية والاستقلال. ورغم أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لم يحل بعد، إلا أن عدداً غير قليل من حركات التحرر استلهمت نضال الفلسطينيين على مدى عدة عقود. في نفس الوقت، لم تتوقف نفس هذه الحركات، مثل حركة النضال ضد التمييز العنصري (الأبارتيد) في جنود أفريقيا وحركة النضال الوطني الجمهوري في شمال إيرلندا، عن مد المناضلين الفلسطينيين بالإلهام وكثير من الدروس المهمة.

ومع ذلك، لابد من التمييز بين الإلهام من جهة وفهم جذور الصراع وأهداف النضال من جهة أخرى. يبدو لي أننا معشر الفلسطينيين نفهم الصراعات التي يخوضها غيرنا من الشعوب وأهداف نضالاتهم أكثر بكثير مما يفهمون طبيعة ما نخوضه من صراع وما نرغب في تحقيقه من أهداف. وكم يحيرني أن أسمع بعض من ضحوا بشبابهم وأعوام طويلة من أعمارهم في نضال مستمر لتحرير شعوبهم من الاضطهاد والطغيان والاستعمار يعبرون عما يبدو فهماً سطحياً لطبيعة صراعنا في فلسطيني. ولا مفر من أن يؤدي عدم الفهم إلى الوقوع في التناقضات والكيل بمكيالين.

في مقابلة أجراها معه مؤخراً موقع ميدل إيست مونيتور (ميمو)، سلط جيري آدمز زعيم حزب الشين فين الجمهوري في شمال إيرلندا الضوء على بعض جوانب النضال الجمهوري الإيرلندي، والتي أجدها مفيدة وملهمة في نفس الوقت. إلا أنه حينما يتحدث عن فلسطين يبدو قاصراً عن فهم حقيقة ما يناضل من أجله شعبنا منذ عقود طويلة. يقول السيد آدمز إنه يتمنى قيام دولة فلسطينية في حدود عام 1967 إلى جوار دولة إسرائيل التي ينبغي، كما يقول، أن تتمتع بالأمن والسلام ضمن حدودها هي. أجدني أكثر ميلاً إلى اعتبار هذا الموقف من قبل جيري آدمز مجرد مجاملة سياسية تمليها عليه صفته الحالية وموقعه كسياسي في حكومة شمال إيرلندا. ويصعب علي تقبل فكرة أن شخصاً مثل جيري آدمز تنقصه المعلومات أو الفهم الصحيح للظروف التي أقيمت فيها دولة إسرائيل في المقام الأول.

يقول جيري آدمز في مقابلته مع ميمو بأن من حق اللاجئين الفلسطينيين أن يعودوا إلى قراهم ومدنهم التي أخرجوا منها. ولكن، كيف يمكن لمثل هذه المطالبة أن تنسجم مع حقيقة أن معظم هؤلاء اللاجئين، إن لم يكونوا كلهم، إنما سلبت منهم بيوتهم وأراضيهم وشردوا من وطنهم عندما أقيمت دولة إسرائيل فوق الأراضي وداخل البيوت التي شردوا منها في عام 1948وليس في عام 1967 حينما تمددت إسرائيل واحتلت ما بقي من فلسطين (أي الضفة الغربية وقطاع غزة)، وهي الأراضي التي يريد جيري آدمز أن يرى الدولة الفلسطينية تقام فيها.

بالرغم من أن المقارنات تجرى في العادة بين ما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين وما كان يمارسه نظام الأبارتيد البائد – أي نظام الأقلية البيضاء – في جنوب أفريقيا ضد السود الذين كانوا يشكلون الأٌغلبية العظمي من السكان، إلا أن ثمة فشل ذريع في إدراك أن الاضطهاد الممارس في الحالتين هو وليد أيديولوجية عنصرية لا يمكن التعايش معها هي التي حفزت النظامين في جنوب أفريقيا وفي إسرائيل على انتهاج ذلك السلوك المشين، والذي كان يعبر عنه في جنوب أفريقيا بلفظة "الأبارتيد" بينما يعبر عنه في إسرائيل بلفظة "الصهيونية". وذلك أن الأبارتيد والصهيونية كلاهما يدعي حقاً مكتسباً من السماء بممارسة العنصرية ضد السكان الأصليين بل وبسلبهم وتشريدهم من أوطانهم. ولذلك يحيرني جداً موقف نفر من المتعاطفين مع الفلسطينيين إذ يخفقون تماماً - وربما يجبنون لأسباب سياسية – عن التصريح بأن المشكلة في فلسطين هي في الحقيقة مع الصهيونية كفكرة وكعقيدة وكمشروع وليست المشكلة ناجمة عن أن الفلسطينيين لا يملكون دولة مستقلة خاصة بهم. كانت أمي رحمها الله (وهي من مواليد بئر السبع) واحدة من مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين أخرجوا ظلماً وعدواناً من ديارهم في عام 1948 وكان أبي رحمه الله (وهو من مواليد الخليل) واحداً من ملايين الفلسطينيين الذين حرموا من العودة بعد احتلال إسرائيل لما تبقى من فلسطين في عام 1967. وهؤلاء جميعاً لم يكونوا مواطنين في دولة فلسطينية سلبت منهم وإنما كانوا شعباً يعيشون في وطن توارثوه أباً عن جد منذ آلاف السنين وسلب منهم عندما قررت أوروبا أن تحل مشكلتها هي مع اليهود على حساب شعب فلسطين.

من الإنصاف لجيري آدمز ورفاقه الذين يوافقونه فيما ذهب إليه أن نذكر بأن منظمة التحرير الفلسطينية تتحمل جريرة البلبلة أو الاضطراب الذي طرأ على فهم الآخرين لما يريده الفلسطينيون ويناضلون في سبيله وعلى مواقفهم من هذا النضال. لم يعد يخفى على أحد أن ياسر عرفات ورفاقه في منظمة التحرير، الذين تحولوا من مناضلين إلى مفاوضين لهاثاً وراء تسوية تمنحهم دولة في أي مكان داخل فلسطين، هم الذين أضفوا الشرعية على المشروع الصهيوني وعلى سلب الوطن الفلسطيني وتشريد أهله عندما وافقوا على الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود مقابل اعتراف إسرائيل وحلفائها الغربيين بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني.

كنت قد حضرت مؤخراً ندوة نظمها منتدى يوروبال داخل البرلمان الأوروبي في بروكسيل تحت عنوان "سياسات إعادة الإعمار: غزة والاتحاد الأوروبي والحكومة الفلسطينية". وكان أحد المتحدثين الرئيسيين في الندوة رفيقة السيد جيري آدامز في النضال مارتينا آندرسون عضو البرلمان الأوروبي عن حزب الشين فين ورئيس بعثة البرلمان الأوروبي إلى فلسطين. لست أشك للحظة في إخلاص السيدة آندرسون ولا أقلل من أهمية ما تقوم به من دور لتسليط الضوء على معاناة الفلسطينيين ووضع قضيتهم على طاولات الحوار الأوروبية. ولكن لم يعجبني أنها أثناء مداخلتها أصرت مراراً وتكراراً على أن أكبر مشكلة تواجه الفلسطينيين هي الانقسام الداخلي والنزاع الفصائلي، وبشكل خاص بين حركتي فتح وحماس. وانطلاقاً من حرصها على القضية الفلسطينية فقد حثت الفلسطينيين على توحيد صفوفهم ونبذ الفرقة فيما بينهم. ولكن على أي أرضية ينبغي أن يسعى الفلسطينيون إلى الوحدة فيما بينهم؟ هل على أساس الاعتقاد بأن فلسطين، كل فلسطين، مغتصبة وترزح تحت نير احتلال غير قانوني من قبل الصهاينة الذين غزوها وشردوا أهلها منها؟ أم على أساس الاعتقاد بأن كل ما يصبو إليه الشعب الفلسطيني هو الحصول على دولة خاصة بهم على الأرض التي احتلتها إسرائيل في عام 1967 وكأن النكبة لم تحصل أصلاً وكأن ما احتل عام 1948 بات حقاً خالصاً للغزة الصهاينة؟ أعجب أشد العجب كيف يمكن لمناضل في الشين فين أو الآي آر إيه أن يجد مستساغاً أن يقبل الفلسطينيون بتسوية تضفي مشروعية على العدوان، على القتل والسرقة. كيف يمكن لأي إنسان يعتقد بأنه لا يجوز مطالبة شعب إيرلندا بالتخلي عن حلمه في توحيد بلاده واستعادة سيادته الكاملة عليها أن يطالب الفلسطينيين بالتخلي عن حقوقهم في ديارهم وفي وطنهم الذي تجثم عليه اليوم إسرائيل؟

أرجو مخلصاً ألا ينسى رفاقنا في شمال إيرلندا، وكذلك في جنوب أفريقيا وفي كل مكان في العالم – سواء في أمريكا اللاتينية أو في أفريقيا أو في آسيا حيث يناضل الناس ضد الإمبريالية - وألا يتناسوا الأسباب الحقيقية للصراع في فلسطين. فالصراع الذي تدور رحاه في فلسطين ليس ناجماً عن نزاع على قطعة أرض، وليس حتى صراعاً دينياً بين المسلمين واليهود، وإنما هو صراع ناجم عن غزو استعماري عنصري لا يختلف كثيراً عن مشاريع الغزو التي ناضلوا هم أنفسهم ضدها على مدى عقود طويلة. إن مشكلتنا في فلسطين هي مع الصهيونية، ولا ينبغي أن يتوقف النضال حتى تقبر الصهيونية كما قبر من قبل نظام الأبارتيد في جنوب أفريقيا، وحينها، وحينذاك فقط يمكن الحديث عن شكل الكيان السياسي الذي سيقام في فلسطين المحررة وعن علاقات الناس الذين يقبلون بالعيش فيها بلا عدوان.

* (نشر أصل هذا المقال باللغة الإنجليزية في موقع ميدل إيست مونيتر بتاريخ 21 يوليو 2015 وهذا هو رابطه: https://www.middleeastmonitor.com/articles/europe/19949-is-gerry-adams-simply-being-politically-correct-in-wishing-for-a-two-state-solution)
التعليقات (0)