مقالات مختارة

أزمة «حمس» الداخلية في الجزائر

بشير عمري
1300x600
1300x600
يبدو أن تجاذبات مجموعات الضغط والمصالح الداخلية لحركة مجتمع السلم «حمس» التي تعد كبرى الفصائل الاخوانية السياسية بالجزائر، قد بلغت ذروتها وصارت تقربها شيئا فشيئا من مستنقع الأزمات الداخلية التي تفجرها فيها عادة السلطة بالجزائر داخل التشكيلات السياسية العصية على الترويض، وهذا بعد أن قبل رئيسها الدكتور عبد الرزاق مقري مقابلة رئيس ديوان الرئاسة أمحمد أو يحيى في خطوة أجمع الكل، لا سيما أعضاء «تنسيقية الانتقال الديمقراطي» التي تجمع القوى المناهضة ليلطة بوتفليقة، على اعتبارها خطأ بل وخطيئة حسب البعض تنم عن ضعف القدرة على المناورة السياسية لهذا الفصيل، ما يؤكد ضعف الخيال السياسي للاخوانية العربية وسهولة سقوطها في مطبات السلط والنظم العنقودية أي ذات الدعائم الثلاثية، العسكر، والاستخبارات، والمال.

وغضا للطرف عن مخلفات هذا اللقاء، وما جرى فيه، فإن المسترعي للاهتمام حسب العديد من المختصين، هو ما عكسه من حالة التخبط السياسي الذي تعرفه حركة مجتمع السلم مذ اختطت لنفسها خيار المشاركة في عهد الراحل محفوظ نحناح كنهج نقيض لغلو وتطرف الفصيل الإسلامي المقابل، أي التيار المغالب بشقيه السياسي والمسلح، إذ غدا هذا الخيار شكلا من أشكال القلق الذي يحول دون أن تتحول الحركة، أو تحيد عنه قيد أنملة وفق ما تقتضيه وتفرضه متغيرات الداخل والخارج معا، بمعنى أن خيار المشاركة تحول إلى ثابت في وقت أسس كموقف طارئ لظرف وطني طارئ كما قيل، ومعلوم أن الطارئ يظل طارئا في خصوصيته الوظيفية وأس مسعى لاستدامته من شأنه أن يتعفن ويعفن واقع أصحابه ومنتهجيه.

وهكذا إذن، تم تأصيل خيار المشاركة في السلطة بشكل عفوي في أدبيات الحركة مع توالي السنوات وتبدل نخب السلطة الواحدة، في ظل الهيمنة الأبوية الهرمية وغياب القدرة على رفض الانصياع لدى القواعد النضالية التي تعرف بها الإخوانية، وجُعل عنوانا لهويتها السياسية منذ زمن الكاريزما النحناحية، في وقت كانت للحركة اهتمامات أوسع من نطاق المشاركة في السلطة، وذلك قبل أن يُعصف بجهة الانقاذ الإسلامية من ساحتي الدعوة السياسة بالجزائر، حينها كانت الإخوانية وعلى رأسها «حمس» لا تزال مستريبة من السلطة ومستمسكة بالإطار الدعوي الخيري الإخواني، من خلال سعيها عبر جناحها الاجتماعي «جمعية الإرشاد والإصلاح» لتهيئة، مثلما كانت تردده في خطابها الدعوي، سبل التغيير وفق السنن التي آمنت بها ورسمتها كإطار مرجعي، الإخوانية في مواثيقها التأسيسية الأولى، وكان رائد هذا الجناح الراحل أبو سليماني الذي اغتيل في فترة المأساة الوطنية في ظروف جد غامضة، ومعه قُتل مشروع الإرشاد والعمل الاجتماعي الخيري ونسي هدف الإصلاح إلى الأبد، ومن حينها استنكفت الحركة عن الاشتغال داخل الإطار الاجتماعي بالكم والكيف السابقين وانبرت كلية للعمل السياسي المباشر، بإرادة منها أو من غيرها.

لكن الراصد لمسار إسهامات «حمس» السياسية لإنقاذ الوطن من الفتن والفساد وإرادة قوة الاستحواذ الذي كانت تتصارع دوما بشأنه رؤى السلطة والمعارضة، سرعان ما يكتشف ميل «حمس» لجناح السلطة على حساب كل المبادرات التي كانت تقدمها المعارضة، ففي لقاء سانتجيديو الشهير الذي ضم لأول مرة فصائل من المعارضة متضادة إيديولوجيا وسياسيا وتاريخيا من أجل وضع تصور لإنهاء المأساة الجزائرية، حضر جلستها الأولى الراحل محفوظ نحناح ولكنه تراجع وعاد إلى أرض الوطن بعد أن طلب منه ذلك من قبل السلطة، وهو ما فتح الباب واسعا حينها لإصدار الأحكام، وكيل التهم ونسج التأويلات بخصوص علاقة نحناح بالمخابرات والسلطة عموما بالجزائر.

في هذه الفترة تحديدا كانت السلطة تشتغل على نطاقين في سعيها لترويض وإضعاف التيار الإسلامي، قطب الرحى في الصراع التعددي المنبثق عن انتفاضة أكتوبر 1988، بشقيه المشارك والمغالب وكسر قواعده الشعبية وتحطيم مصداقيته لديها، إذ واصلت عملية سحق قادة المغالبين بكل أدوات الجزر والردع كالإعدامات القضائية والسجون.

لكن «حمس» التي اختارت نهج المشاركة إنقاذا للوطن من السقوط في مستنقع الحرب الأهلية الشاملة، ظهرت أدنى من تستطيع إنقاذ نفسها من السقوط في مستنقع الفساد الذي استشرى فيها بفعل دخول رجالاتها مؤسسات الدولة، حيث ولائم بيع النفط السياسي، فتشكلت لوبيات داخل هذا الفصيل السياسي كان منظما ومنضبطا، لا على أسس تصورات سياسية ودعوية مبنية على قواعد دعوية وفكرية واستراتيجية، إنما على مصالح ريعية وهو ما أضعفها داخل مجتمعي السياسة والدعوة، وأفقدها مصداقيتها الشعبية، ولا أدل على ذالك من انحسار وعائها الانتخابي! 

من هنا يتضح أن ذلك الانضباط الذي عُرفت به الحركة بوصفه ترياق وجودها وصمودها أمام هزات المخاض السياسي التعددي مذ تفجرت المأساة الوطنية العقد الآخر من القرن المنصرم، لمحاولات الأداة الأمنية لتفجيرها من الداخل كما كان الحال مع جل الأحزاب المشاكسة للسلطة الأحادية، لم يكن وليد وعي حركي ولا تطور على مستوى الالتزام المؤسسي المسؤول في العمل التنظيمي، إنما كان انصياعا وانقيادا لصوت الكاريزما وصورتها المهابة والمهيبة التي مثلها شخص الراحل نحناح، فمن عيوب الكاريزما السياسية أنها لا تؤسس لمستقبل للحركة مستقل عن صداها بسبب التماهي الكلي فيها من جانب الأتباع، لذا سرعان ما يزول إرثها بزوال مهابتها تلك ويدخل الورثة في صراع طاحن حول التركة، ولو بشعار استكمال مشروع الزعيم الكاريزما الراحل!

في الحقيقة يظل حال «حمس» المتسم بالتخبط على المستوى الهرمي، ومصادر صنع القرار فيها، يعكس تماما حال السياسة والطبقة السياسية بالجزائر وطبيعة حركية أفلاكه قبل أن يقدم بوتفليقة لرئاسة البلاد، وتفاقمت بعد قدومه، أين تغول المال السياسي، وسوق شراء وبيع الذمم، وهو ما سيعني بالضرورة أن مشروع الإرشاد «البو سليماني» وحلم الإصلاح «النحناحي» الذي أعلنته الإخوانية السياسية في الجزائر، كنهج لتغيير وتجديد المجتمع، في مواجهة التوجه العنيف والمتهور لتيار المغالبة، صارت أولى به هي من هذا المجتمع، ويظل السؤال يطرح نفسه هل سيبقى ما تبقى من حركيين ملتزمين، صامتين إزاء هذا النمو المضطرد على إيقاع متسارع «للأوليغارشية الإسلاموية» على تربة سياسية فاسدة؟ أم سيقع تمرد جيلي داخلي في ربيع حركي جزئي.

(صحيفة القدس العربي اللندنية)
التعليقات (0)