مقالات مختارة

مصر: حرية الصحافة وراء القضبان

رانيا المالكي
1300x600
1300x600
كتبت رانيا المالكي: سوف يجلب قانون الإرهاب الجديد من الضرر أكثر مما يجلب من المنفعة لصورة العسكر في مصر ولصورة السيسي، وسوف يفتح بابا من الشر.

في خطاب غاضب موجه إلى جمع من كبار القضاة في جنازة النائب العام هشام بركات، الذي قضى نحبه إثر عملية اغتيال، انتقد الرئيس عبد الفتاح السيسي البطء في تنفيذ العدالة، متهما بشكل مباشر زعماء الإخوان المسلمين القابعين في السجون منذ ما يقرب من عامين بالمسؤولية عن الحادث.

وقال معلقا على مقتل بركات: "ما يريدون فعله هو كتم صوت الشعب.. لا أحد يقدر على كتم صوت الشعب المصري". نعم، لا أحد فيما عداه هو.

إذا ما أخذنا بالاعتبار مسالك الديكتاتوريات العسكرية، فإن النظام المصري الحالي صاحب السبق في هذا المجال. فخلال يومين فقط أقرت الحكومة مسودة قانونا لمكافحة الإرهاب مثيرا للخلاف، كان قد صدق عليه السيسي في وقت مبكر من هذا العام، كما أقرته السلطة القضائية العليا في مصر المتمثلة بمجلس القضاء الأعلى، وهو الآن ينتظر الإقرار من كيان قضائي استشاري آخر هو مجلس الدولة، الذي يتوقع أن يبصم عليه قبل أن يحال إلى السيسي ليصدق عليه بشكل نهائي.

في غياب برلمان منتخب يملك السيسي حاليا سلطات تشريعية كاملة، ورغم أن الدستور يشترط وجوب أن ينظر كلا هذين الكيانين القضائيين في أي قوانين جديدة، إلا أن ما يصدر عنهما من رأي له قيمة استشارية فقط وغير ملزم، ما يعني فعليا أن السيسي فوق القانون وفوق الدستور.

ينتهك القانون الجديد بشكل سافر الحقوق والحريات المدنية، ويستهدف وسائل الإعلام بشكل خاص بإجراءات كاتمة لها ومقيدة لحرياتها، وذلك بحجة الردع السريع والعادل للنشاطات الإرهابية، وبهدف التعجيل بالمحاكمات ضمانا لإصدار إدانات سريعة، وعلى الأغلب تنفيذ أحكام الإعدام بحق المتهمين بالإرهاب.

من المفارقات أن التعريف المنصوص عليه في القانون لما يمكن أن يعدّ عملا إرهابيا ينطبق بالقدر ذاته على إرهاب الدولة، الذي تمارسه بحق المواطنين أجهزة الشرطة وقوات الجيش. فأنت تكون قد ارتكبت جريمة إرهابية إذا استخدمت "القوة والعنف والتهديد والتخويف، بهدف الإخلال بالنظام العام أو تعريض مصالح المجتمع للخطر، أو عرضت للخطر حياة وحرية وحقوق الأفراد العامة والخاصة، التي يضمن القانون والدستور حمايتها".

بينما يعتبر القانون مجرد الشك في "وجود نية" لإلحاق "الأذى بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي والأمن القومي" وكذلك "إعاقة" السلطات العامة عملا إرهابيا، إلا أن المادة السادسة منه تحصن أولئك المكلفين بتنفيذ القانون ضد التحقيق الجنائي بسبب "استخدام القوة" أو "الدفاع عن النفس"، بما يعني فعليا منحهم تصريحا مفتوحا بارتكاب أبشع الانتهاكات لحقوق الإنسان.

صحيح أن خطر الإرهاب في شمال سيناء بات ملموسا وداهما، فخلال الأسبوع الماضي قتل ما لا يقل عن 21 جنديا ومئة مسلح ممن كانوا يستخدمون الأسلحة الثقيلة، ولا يمكن لأحد التقليل من حجم التمرد الذي تواجهه مصر الآن، إلا أنه لا ينبغي أن يستخدم ذلك مبررا على إطلاقه للقتل العشوائي في عمليات اغتيال تجري خارج إطار القانون، وللتلاعب بالقوانين، وكتم وسائل الإعلام وتقييد حرية التعبير.

تنص المادة 26 على الحكم بالسجن لمدة لا تقل عن خمسة أعوام على أي شخص "يروج أو يخطط للقيام بجريمة إرهابية، بشكل مباشر أو غير مباشر، عبر الخطابة أو من خلال الكتابة أو من خلال أي وسيلة أخرى".

ما بقي من البند يستخدم مصطلحات مطاطية لوصف الترويج غير المباشر لجرائم الإرهاب، مثل نشر "الأفكار أو المتعتقدات التي تشجع على استخدام العنف".

يمكن أن يعني هذا في مصر اليوم أي شيء بدءا من إدانة سياسة ما من سياسات الحكومة، أو إجراء ما من الإجراءات الرسمية إلى مجرد التنفيس أو الفضفضة برأي عبر "فيسبوك"، خاصة في مثل هذه الأوقات العصيبة التي تمر فيها البلاد بأوضاع اقتصادية بالغة الصعوبة.

بل هناك مادة أشد سخافة من ذلك، هي المادة 29، التي تحكم بالسجن، مددا تتراوح ما بين عام وخمسة أعوام على كل من يتهم بمجرد "جمع المعلومات" عن الأشخاص المكلفين بتنفيذ قانون مكافحة الإرهاب -أي الشرطة ورجال النيابة-، وذلك "بنية" تخويفهم أو إلحاق الضرر بهم.

لا مفر في مصر اليوم من أن يصبح عرضة للانتقاد كل من ينصب نفسه حكما على نوايا الآخرين، حيث يكون هو الشرطي، وهو القاضي، وهو الجلاد.

إلا أن أكثر المواد إثارة للخلاف هي المادة رقم 33، التي تقرر عقوبة بالسجن لمدة لا تقل عن عامين لكل من ينشر أخبارا أو إحصائيات تخص أي عمليات إرهابية، إذا لم تتطابق هذه الأخبار أو الإحصائيات مع التصريحات والبيانات الصادرة عن الجهات الرسمية المعنية.

وتكتمل الطامة بالمادة رقم 37 التي تفرض حظرا تاما على نشر أو إذاعة مجريات المحاكمات في قضايا الإرهاب، وتعاقب من يخالف ذلك بغرامة قدرها عشرة آلاف جنيه مصري (أي ما يعادل 1265 دولارا أمريكيا).

في سياق الغياب التام، منذ انقلاب الثالث من يوليو، لأدنى درجات الالتزام بأبسط مبادئ النزاهة، وتحري الدقة في العمل الصحفي داخل وسائل الإعلام من صحف وقنوات تلفزيونية، كل همها التهليل للعسكر والتعبير عن التأييد المطلق لهم -وهي الوسائل التي بات التحريض على ممارسة العنف فيها هو السمة الغالبة-، فإن البند الخاص بما يسمى "الدقة" ما هو إلا تصعيد لعملية تضييق الخناق على ما تبقى من وسائل إعلام مستقلة، وتخويف للصحفيين الذين يرفضون الالتزام باستراتيجية الجيش التي تعتمد الرواية الأحادية، ولا تسمح بنشر ما يناقضها.

منذ أن استلم السيسي السلطة لم يتوقف هو أو نظامه عن كتم أنفاس الإعلاميين، وبشكل ممنهج. وما يحدث اليوم، ما هو إلا إضفاء وضع قانوني على هذه السياسة، التي لا تسمح بأدنى مستويات الاختلاف، ناهيك عن الشقاق.

لقد اعتقل أربعة صحفيين في مصر خلال الأسبوع الماضي، لينضموا إلى ثمانية عشر صحفيا يقبعون في السجون منذ مدة، وذلك بحسب تحقيق أجرته لجنة الدفاع عن الصحفيين، وقد وجهت للصحفيين الذين ألقي القبض عليهم تهما بالانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، التي صنفت على أنها منظمة إرهابية.

تقول لجنة حماية الصحفيين في تقريرها، إن مثل هذه الاعتقالات تكون "في العادة عنيفة ويتخللها تعرض من يجري اعتقالهم للضرب والامتهان، بينما تتعرض بيوتهم للمداهمة وممتلكاتهم للمصادرة".

نتيجة للتهديد والتخويف الذي يتعرض له الصحفيون، باتت منطقة مثل سيناء التي تعدّ مركز النشاطات الإرهابية وكذلك محطة انتهاكات العسكر الجسيمة للمدنيين، خارج نطاق التغطية الإعلامية، وذلك يعني أن الرواية الوحيدة التي تجد طريقها نحو الرأي العام، وبشكل خاص من خلال وسائل الإعلام الأوسع انتشارا والأكثر جماهيرية، هي رواية الجيش.

ولا يستبعد أن ينال التجريم حتى من ينشر مثل هذه الرواية، حالما يدخل القانون الجديد حيز التنفيذ.

ولكن مصر في عام 2015 ليست مصر الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.

فالعالم بأسره قد تغير بفضل الثورة التكنولوجية. ولئن كان ما يزال واردا أن تضلل بعض الناس لبعض الوقت، فإن من المحال أن تتمكن من تضليل الناس كل الوقت.

وحتى في ظل نظام عبد الناصر الاستبدادي الذي لم يكن يسمح سوى بحزب واحد، وصوت واحد، وإعلام واحد، الذي كان أولياء الأمور في عهده يستدرجون للإخبار عن أبنائهم، وحينما كان أدنى مظهر من مظاهر التمرد والشقاق -تماما كما هو عليه الحال اليوم-، يسحق سحقا تاما من شرطة سرية على نمط ما كانت تقوم به المباحث السرية في ألمانيا الشرقية، بما يتضمنه ذلك من "زوار الفجر" سيئي الصيت، الذين يداهمون البيوت ويخطفون "المشتبه بهم"، إلا أن جميع الناس كانوا يعرفون حقيقة ما يجري من حولهم.

وحتى في حرب عام 1967 مع إسرائيل، حينما سُحق الجيش المصري في ستة أيام، بينما كانت وسائل الإعلام المحلية ترسم صورة مضللة من البسالة والنصر المبين، ولم يكن حينها من بديل إعلامي سوى إذاعة "بي بي سي" من لندن، ما لبثت حقيقة الهزيمة المخزية أن انكشفت سريعا أمام الجميع.

أما اليوم، فالأجواء مفتوحة، وتكثر فيها القنوات الفضائية التي تقدم لمشاهديها كل ألوان الطيف السياسي، ناهيك عن الإنترنت الذي يتيح مجالا رحبا مجانيا وسهلا في الوقت ذاته لنشر الأخبار وتبادل المعلومات. وحينما يعاق بث قناة من القنوات أو يغلق موقع من المواقع، فإن العشرات تنشأ سريعا لتحل محله.

يفرض الجيش المصري حصارا إعلاميا صارما على سيناء، حيث تغلق لأيام متعاقبة وسائل الاتصال كافة بما في ذلك الهواتف الخلوية والهواتف الأرضية، وحيث تحول نقاط التفتيش دون وصول الصحفيين إلى المنطقة، ومع ذلك لم يحل ذلك دون وصول تقارير تفصيلية حول عمليات الإخلاء القسري للناس والنشاطات الإرهابية الإجرامية، التي تمارس من عناصر الدولة الإسلامية وقوات الجيش على حد سواء.

(عن صحيفة ميدل إيست آي، ترجمة "عربي21" 10 تموز/ يوليو 2015)
التعليقات (0)