مقالات مختارة

«الفانتازيا» العراقية

محمد عارف
1300x600
1300x600
«إذا بَنَيتَ قِلاعاً في الهواء فلن يذهب عملك عبثاً، فمن هنا ينبغي البدء. الآن ضَعْ أسساً تحتها». قال ذلك الكاتب الأميركي «هنري ثورو»، وهذا ما تفعله المعمارية العراقية زهاء حديد. في عام 1982 فازت على أساطين العمارة العالمية بناية «الذروة» التي صممتها، وبدت كأنها تطير على سفوح التلال المحيطة بمدينة «هونغ كونغ». وبنايتها الجديدة «مركز أبحاث الشرق الأوسط»، التي افتتحت الأسبوع الماضي بجامعة أكسفورد، ليست قلعة في الهواء، بل هي الهواء يصبح قلعة بلورية، تتشاطرها الأرض والسماء والأشجار والبنايات المحيطة. وهذه «الفانتازيا»، التي تعني الرؤيا والخيال والحلم بصمة زهاء المعمارية حول العالم.

وكموقع بلدها التاريخي بين إمبراطوريات عربية وفارسية وتركية، كان على زهاء أن تبدع مبناها وسط حيّزٍ مستحيل. بنايات العصر الفكتوري التراثية التي تحيطها غير مسموح التجاوز عليها، ولا على شجرة «السكويا» العملاقة المحاذية، التي تُعتبر أضخم وأطول الأشجار في الطبيعة، ويُعتقدُ أنها أقدم الكائنات الحية. ويقاربُ المبنى الشجرةَ فتبدو من طواره الداخلي مطمئنة، كما في فناء منزل عراقي تقليدي. ويمتد تحت الأسس نظام الصرف الصحي لتأمين الرطوبة والتهوية للشجرة كثيفة الجذور، وتتعرش تحت السراديب شبكة تهوية أرضية تصون صالات المخطوطات، والصور الفوتوغرافية النادرة.

وكأن بناية زهاء في الحيّز الضيق بين المباني، مرْكبة فضائية حطّت للتو، تتحايل واجهاتها الفولاذية الصقيلة على أفق السماء، والأشجار، وهي «خطوط حمراء» محرمٌ انتهاكها داخل جامعة أكسفورد، وتتلاعب بعدسة المهندسة المعمارية العراقية لميس الطالباني، المعنية بتصويرها. وترى المباني الفكتورية الطراز، التي أقيمت بالطابوق صورتها تتغير في مرايا بناية زهاء حسب ساعات الليل والنهار فتعجبها نفسها.

و«البناية جوهرة» حسب كلمة افتتاح ممثل جامعة أكسفورد، وهي في الواقع جوهرة داخلها جواهر ثمينة من كتب، ومخطوطات، وصور فوتوغرافية للمنطقة العربية منذ مطلع القرن التاسع عشر، ويبلغ عددها 100 ألف.

تعود الصور لشخصيات عاشت في المنطقة، ولعبت أدواراً في تاريخها، مثل «المس بيل»، التي صوّرت مؤسس الدولة السعودية عبد العزيز آل سعود في مدينة البصرة عام 1916 مع بيرسي كوكس، الذي رسم خرائط دول المنطقة، ومجموعة صور الرحالة الكاتبة «فريا ستارك»، التي تدبرت لقاءً تاريخياً فريداً مع المرجع الشيعي الأعلى آنذاك الشيخ محمد عهد الحسين الغطاء.

ومن غيرُ عراقيين يستطيع تحقيق «الفانتازيا» وبلدهم في عزِّ مجده أو في ذل هوانه. فعندما كانت أول جامعة إنجليزية في طور التكوين في مدينة «أكسفورد»، ما بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، كانت بغداد عاصمة الدنيا في الفكر والعلم والعمران.

واليوم رغم خراب بغداد يتبرع المصرفي المولود فيها نمير أمين قيردار بما يعادل 15 مليون دولار لإقامة البناية التي صمّمتها زهاء حديد. وقيردار كما يبدو في كتابه «إنقاذ العراق»، من أشد أنصار النظام الملكي السابق في العراق، وأخلص المؤمنين بنظام الولايات المتحدة السياسي والاقتصادي. وزهاء يسارية كأبيها محمد حديد، وزير المالية بعد ثورة 14 تموز، والتي أطاحت بالعائلة المالكة في العراق، وبالنفوذ الغربي.

ومع أن ملكة بريطانيا مَنَحت زهاء لقب نبالة «سيدات الإمبراطورية»، إلاّ أنها اشتهرت برؤياها المستمدة من فنون الثورة البلشفية الروسية!

و«الفانتازيا» طريق قيردار إلى القمة المصرفية العالمية، غادر بلده عام 1969 فارغ الجيوب إلى الولايات المتحدة، حيث نال شهادتين جامعيتين بالاقتصاد، وإدارة الأعمال، وتَمّرس بالعمل في مصرف «تشيس مانهاتن» قبل أن يُنشئ عام 1982 المؤسسة المصرفية «إنفستكورب» التي تزيد قيمتها السوقية حالياً عن ملياري دولار، واستثماراتها 40 مليار دولار، وموجوداتها 18 مليار دولار، ومعظمها لخليجيين يملكون أغلبية أسهمها.

ونشأت فكرة مشروع بناية «مركز أبحاث الشرق الأوسط» التي تحمل اسم «إنفستكورب» عندما شَكَتْ سارة، ابنة قيردار، من أن مبنى المركز القديم الذي تعِدُّ فيه أطروحتها للدكتوراه لا يليق بجامعة أكسفورد. و«إذا بَنَيتَ قلاعاً في الهواء فلن يذهب عملك عبثاً، فمن هنا ينبغي البدء. الآن ضعْ أسساً تحتها».

(نقلا عن صحيفة الاتحاد)
التعليقات (0)