قضايا وآراء

المناهج الوطنية الفلسطينية.. نكبة بعد النكبة

أسماء الشرباتي
1300x600
1300x600
"يقاس تقدم الأمم بما تقدم لأبنائها من رعاية واهتمام، ومن تربية وتعليم، وبما تكرسه في نفوسهم من تنمية المواطنة الصالحة، ليكونوا أعضاء فاعلين ومنتجين للمجتمع الذي ينتمون إليه..." هذه هي المقدمة التي ابتدأت بها وزارة التربية والتعليم كتاب التربية الوطنية للصف الخامس، الذي يهدف هو وبقية كتب التربية الوطنية في المناهج الفلسطينية -كما يقول كاتبوه- إلى غرس الانتماء والولاء للقضية، ورفع منسوب الوطنية لدى الطالب، وتزويده بالحد المعرفي الأدنى حول أرضه وهويته.. والسؤال الآن: هل حقا عملت المناهج الفلسطينية على تعزيز المواطنة والولاء والانتماء؟ وهل صممت منذ البداية لتحقق هذه الأهداف؟

إن المتصفح للكتب الدراسية يلحظ غياب الهوية الفلسطينية، بل وضياعها وبعض المحاولات الصارخة لتشويه التاريخ وأحيانا الجغرافيا! فعلى سبيل المثال اعتبر كتاب التربية الوطنية للصف الثاني فلسطين تشرف على بحرين اثنين هما البحر المتوسط والميت، وأسقط البحر الأحمر ومنطقة أم الرشراش التاريخية من حساباته، وفي الكتاب ذاته يجد الطالب صفحات طوال تتحدث باسترسال عن الكنعانيين وصناعاتهم وبناء المدن في عصرهم.
 
وتختزل في الدرس التالي الفتوحات الإسلامية كاملة منذ عمر بن الخطاب إلى صلاح الدين بسطرين اثنين لا رابط بينهما، وتقرأ مع كتاب الصف الثالث وانتهاء بآخر صفحة من الصف الرابع كل ما يلزمك عن المحافظات والوزارات والمؤسسات الناجحة في فلسطين، وتكاد تشعر أثناء قراءتك أنها دولة مستقلة فعلا، وتمتد في تمجيد امتيازاتها الزراعية والصناعية والسياحية، دون التطرق بأي شكل إلى وجود الاحتلال أو أراضي الداخل الفلسطيني.

ويبدو كتاب الصف الخامس مثيرا للتفاؤل عندما تقرأ في الفهرس كلمة النكبة والنكسة والانتفاضة الأولى والثانية، وتعتقد أن الكتاب عاد إلى رشده، وسرعان ما يزول تفاؤلك وتستعيد همك عندما تدرك أن الدرس لا يشمل إلا العنوان، وأن النكبة والنكسة والانتفاضتين والمقاومة الفلسطينية بكل رجالها وأحزابها وقادتها وشهدائها ونضالها اختزلت في فقرة واحدة لم تتسع لكل هذه المصطلحات الضخمة، فقاموا بحذف الانتفاضة الثانية منها إنصافا لشكل النص وديكور الفقرات. 

ويظهر التحيز الماكر للغرب عندما تقرأ في الفصل الذي يليه صفحات طوال تصف للطالب أهمية هيئة الأمم المتحدة ومؤسساتها ونواياها البيضاء وأيديها المتوضئة في خدمة القضية الفلسطينية، بفقرات وشروحات فاقت بأضعاف ما تم التحدث عنه حول القضية ذاتها.

إن غياب الهدف الوطني وأزمة التحريف ليس كل الإشكالية، بل وغياب الطرح العلمي والمنطق أيضا، كأن يذكر كتاب وطنيتنا الضائعة في الصف الثاني فوائد "الأنهار" في "ربوع بلادي" متمثلا في نهر الأردن بأنه يسهل حركة مرور السفن التي تنقل البضائع والمسافرين، ولا أدري عندما كتب الكاتبون ما كتبوا ودقق المدققون ما دققوا متى شوهدت آخر سفينة تنقل البضائع والمسافرين في نهر الأردن؟
 
وكما أوصى الكتاب ذاته ضمن حديثه عن طرق المحافظة على "غابات" بلادي، ألا نقطف بعض النباتات مثل الميرمية والزعتر وغيرها التي يستخدمها الإنسان في غذائه"!. عدا عن اعتماد المنهج على التلقين والحفظ المجرد، والافتقار إلى الجانب التحليلي أو تشجيع الطالب على التفكير، وعدم مناسبة مستوى النصوص مع سن الطالب وقدرته الذهنية، وهي مسألة تحتاج إلى مقال خاص.   

لم كل هذا التسطيح؟ ولم يتم التلاعب في التاريخ والقضية وتشويهها في عيون الجيل القادم؟ ولم تختزل محطات مهمة من ذاكرتنا بهذا الشكل؟ إن هذا المنهج لم يكن ليخرج إلى النور إلا بعد مروره بعملية تحليل مكثفة من قبل العديد من معاهد الأبحاث الدولية، ولم يسبق أن كانت المناهج المدرسية لأي دولة عرضة للتدخل والتدقيق الشديد مثلما حدث مع المناهج الفلسطينية، كما أوضحت الباحثة آيات حمدان في بحثها حول المساعدات الخارجية وتشكيل الفضاء الفلسطيني.

ووفق متابعتها، فإن عملية مراجعة نصوص المنهاج الفلسطيني اشترك فيها معهد هاري ترومان لأبحاث تعزيز السلام، ومركز "فلسطين إسرائيل" للبحث والمعلومات (IPCRI)، وتحالف (أوسلو) لحرية الدين والاعتقاد، ومعهد (جورج ايكوت)، وعقدت عدة جلسات استماع ومراجعات، أبرزها لجنة فرعية حول التعليم الفلسطيني تابعة لمجلس النواب الأمريكي، وأخرى تابعة للبرلمان الأوروبي انتهت بإصدار بيان أكدت فيه أن الكتب المدرسية الجديدة خالية من أي محتوى تحريضي ضد "إسرائيل"، وأنه سلمي، ولا يحرض على الكراهية أو العنف ضد أي كيان ولا حتى ضد القيم والتقاليد الغربية.

أي أن السلطة الفلسطينية التي أسلمت رقبتها للمانح الغربي، والعاجزة عن دفع رواتب موظفيها دون موافقة أوروبية ورضى أمريكي عاجزة أيضا عن إصدار منهاج فلسطيني مستقل، يحمل الهم الوطني، ويجسد آلام البلاد وأمالها وتطلعاتها، بل واستخدمته أيضا ليمهد الطريق أمام قناعاتها حول حل الدولتين، وإنهاء الاحتلال على طريقتها برسم حدود واضحة على غلاف معظم الكتب الدراسية توضح فيها خطة الطريق وحدود الضفة وغزة وترسل لطلابنا يوميا رسائل ضمنية مكانهم وسقف تطلعاتهم.

وختاما نقول إنه منذ سنوات طوال لم نحظ نحن الفلسطينيين بتعليم مستقل، ودائما كنا نتلقى علومنا من خلال الآخر، تلقينا التعليم سابقا تحت إشراف الانتداب البريطاني، وبعد الاحتلال ارتبط بمناهج أردنية أو مصرية، تحت إشراف المحتل، وعندما أخذ الفلسطينيون قرارا بكتابة مناهجهم اتضح أن يد المانح الأمريكي الذي يدفع لموظفينا رواتبهم، ويفتح للدولة مؤسساتها، هو من يكتب للشعب الفلسطيني تاريخه، ويرسم له حدود هويته ونطاق انتمائه، ويختزل الوطن ببعض المدن، وبغياب الرؤية التعليمية الفلسطينية، ووضوح رؤية المانح والمحتل، زادت نكباتنا نكبة فوق النكبة، والله المستعان.
التعليقات (3)
اماني الهوارين
الجمعة، 20-05-2016 02:41 م
كلام بقمه الروعه سلمت الانامل ,فنحن حقا نسلم انفسنا لمن يحاول طمس هويتنا والغاء عروبتنا,وزال ما كنا نعيشه من ممقاومه هدفها النيل من قوتنا للاستحواذ على ما تبقى من ارضنا ,فنحن نعتمد بكل شيئ على الغرب ونتحجج بانهم المورد الاساسي لكل شيئ في ظل عدم قدرتنا على ذلك الصنع,مع اننا ننسى التدقيق بما نستلم وننسى باننا نحن من لا يريد الصنع-------مجددا بوركت اناملك بما خطت من واقع اليم
سمر
الخميس، 14-05-2015 10:42 ص
احسنت
ام عببده
الإثنين، 11-05-2015 05:41 م
رائعة