قضايا وآراء

مغالطة الحياد.. والتشويش على المشهد

محمود الطويل
1300x600
1300x600
تعليقاً على مقال للدكتور تميم البرغوثي: "إن أسوا مكان في الجحيم مخصص لأولئك الذين يقفون على الحياد في المعارك الأخلاقية الكبرى" (مارتن لوثر كينغ).

من الغايات التي تعتبر أساساً لوجود المثقف والمفكر بين الناس، إيضاحُ المشوَّشِ في المشهد وليس التشويش على ما اتّضح، وتصحيح المغالطاتِ في القراءة وليس تكثيرها.

إذا أردتَ أن ينفضّ الآخرون عن التضامن مع الضحية و أن يقفوا على الحياد أمام الجلاد، فساوي بينهما، بإشارةٍ ناعمةٍ إلى ظُلمٍ في موقف الحُسين ومظلوميّةٍ  في موقف يزيد سيرتَبِكُ المشاهدُ بينهما ويخون الحقَّ إنِ اعتبر نفسه مُحايداً.

كتب د. تميم البرغوثي مقالاً في صحيفة "عربي21" بعنوان (الأخلاق أو ما تبقى منها) متحدّثاً عن "حربٍ أهلية تراودُ الناس عن بلادهم ممتدةً كالدُّهْن السائح من جبال الشام والعراق حتى جبال اليمن"، ولعلّ موقفه فيها ما اختلف كثيراً تُجاه الثورة السورية ووصفها بالحرب الأهلية، وهو مفهومٌ سائبٌ غير صلب ولا يوجد تفاهمٌ في المواثيق والقوانين الدولية بشأن مركّباته أو معناه الدقيق، موجداً بذلك العذر للمقاومة -ويعني فيها حزب الله غالباً- في تورّطها ضمن هذه المواجهة مع الناس وإنه في الوقت ذاته حيث اعترف بالمستبد وممارساته وخروج الناس عليه، يصف ما يجري بالحرب الأهلية وأن المقاومة تورطت فيها، مستخدماً عبارة تغتالُ نفسها بقوله: "كل رصاصةٍ في صدر متظاهر هي رصاصةٌ في ظهر مقاوم " فكيف إن أطلق هذه الرصاصة المقاوم ذاته؟ -حسب وصف د. تميم. فقد أطلقها في صدر المتظاهر فأصابت ظهر المقاوم الذي أطلقها في الآن ذاته، وعلى ذلك لابد أن يعترف د. تميم أن هذا المقاوم -حسب وصفه له- قد قتل نفسه. فليس من الواقعية أن يبقى يدّعي المقاومة أو أن نصفه بها، إلا إنْ كانت المقاومة المقصودة هي "حماس" والتي ما انجرّت للوقوف مع حليفها السابق المستبد ضد الناس، وعند حماس فقط تكون كل رصاصة أطلقها مدّعو المقاومة في صدر المتظاهرين هي رصاصة في ظهر المقاومين من حماس، فلابد من بيان ذلك صراحةً فــ"إن المقاومَ تشابه عليه"، ولو أردنا أن نُحرر المصطلحات ونضع المفاهيم على نصابها لوجدنا ثوّار سورية هم المقاوِمون يقاتلون محتلّاً إيرانياً ومستبداً بعثياً فيدفعون الشرّين معاً المستعمر والمستبد، وما بقيَ لمدّعي المقاومة إلّا قتلُ الناس وإمطارهم بالبراميل والأسلحة الكيميائية أو مشاركة حلفائهم بقتل الناس واحتلال ديارهم ورفع شعاراتهم الطائفية الحاقدة على المآذن والجدران.

ولو اتّفقنا على أن النتائج التي وصلنا إليها في الوضع الراهن تشبه إلى حدٍ ما نتائج الحروب الأهلية في: (غياب الدولة وضعفها، وانتشار الميليشيات، وانعدام الأمن وتعطيل مناشط الحياة ووضع المجتمع رهينة لقوى خارجية)، فما هذا إلّا سعيٌ وترويجٌ من النظام حتى يمتنع على الدول التدخل فيما يجري ويتفرّغ نظام الأسد لحل مشكلاته الداخلية كما يرتئيها وذلك حسب نصوص القانون الدولي، ولكن الحكم على الأمر لا ينطلقُ من توافق بعض نتائجه مع مفهومٍ ما فحسب، بل من أسبابه ومجرياته وتركيباته أيضاً، فما كانت غاية الناس الاستيلاء على السلطة أو جزء من البلاد للاستقلال فيه ـ كما في الحروب الأهلية عامةً، إنما غايتهم أن يُردَّ أمرهم إليهم، وأن يُحكَموا كما يرضون فلا طاعةَ لحاكمٍ في مخالفة إرادتهم أو مصادرتها، وما إطلاقُ وترويج هذا المصطلح إلّا محاولةً للمساواة بين الذين "أُذِنَ لهم بأنهم ظُلِمُوا" وبين الذين "يسومونهم سوء العذاب يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم"؛ ويفعلون أكثر، ومحاولةً لطمسِ أحقيّة الناس في المطالبة بحقوقهم.

لعلّنا لا نختلفُ كثيراً في الموقف الأخلاقي من الذين يُلقون البراميل على الناس ليُقتلوا أو يُدفنوا أحياءً تحت ركام منازلهم، ومن الذين يقطعون رؤوس الناس ويتملّكون رقابهم بدعواتٍ لا تُماثل الدين إلّا اسماً، ولكن المغالطة الكبرى التي يضعنا أمامها د. تميم في مقاله هي هذه: بين أن تكون مع أحد القاتِلَين أو أن تعتزلهما، وهو مشهدٌ صادم، فلا يوجد إلا أحد قاتِلَيْن! إما أن تصطف لأحدهما أو أن تبقى أعزلاً بينهما طيباً شريف النفس وكأن من يقاتل نصرةً لأهله ورداً للظلم عنهم خبيثٌ مهما فعل، وقد غفل أو تغافل د. تميم عن الناس الذين خرجوا على النظام في معركةِ حدودٍ ضمن العقد الاجتماعي بين النظام والناس، فحولها النظام إلى معركةِ وجودٍ فكان لابد أن ينتصر الناس لأنفسهم ووجودهم، وقد دأبوا على شرح موقفهم للجميع وطلبوا منهم ثني نظام الأسد وحلفائه عما يقومون به ولكن .. لقد أسمعت لو ناديتَ حيّاً، فالفئة الأخلاقية التي لم يذكرها مقال د. تميم هي التي ذُبِحَتْ بالسكاكين قبل وجود تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وهي التي منعت حرباً طائفيةً تتربّص بالقلوب والنفوس، فلا قتال إلا ضد القاتل مهما كان انتماؤه، وهي التي تمنع البراميل ما استطاعت فلم تجد بداً من قتال أصحاب البراميل وحلفائهم، وهي التي قاتلت قاطعي الرؤوس "داعش" في الكثير من الواقعات وأخرجتهم من الديار، وهي التي ما زالت تتظاهر ضد أي مسلحٍ أو داعمٍ أو محسوب على الثورة نفسها إنْ تجاوز عليها واستباح ما لا تُطيق، ولنا في أهل حلب وريف إدلب وريف دمشق وغيرها خير أدلة، وما كان التشويش صعباً على أي مشهدٍ حين نُعظِّمُ صورةً ما لتطغى ونُقزِّمُ ونجمّلُ صورةً أخرى، فيتساوى قُبحان (لا أدافع عن أحدِهما).

إنّ الثوار الذين قاتلوا ما قاتلوا إلّا قاتلهم وما الكفاح المسلح الذي يتغاضى عنه د. تميم أو يصفه بقطع الرؤوس وخيانة المقاومة والتعاون مع من يدعون مناصرة قضيته وهم استعمار في الأصل، إلّا ضرورة أباحتِ المحظورَ عندما اتسع الفتقُ على الرّاتِق، وحلّت بالناس مصيبةٌ "لا يرقى الحدادُ لها .. لا كربلاءُ رأتْ هذا ولا النجفُ" ، فما كانوا سعداء بالقتال بل هو كرْهٌ لهم ولك في قول الشهيد العقيد أبو الفرات يوسف الجادر مثالاً عن الغضاضة التي اعتصرت الحلق والقلب عندما يقاتلون مكرهين لا راغبين.

فالتشويش على المشهد العام للابتعاد عن اتّهام ذراع ولاية الفقيه في بلادنا بما قاموا به من طغيان وبحصان طروادة الذي استباحوا البلاد بدعواه ما بين قتال إسرائيل لاستعادة الأرض المحتلة التي قتلوا أهلها الفلسطينيين في سورية وبين حماية المقامات التي كانت تعيش فينا ونعيش فيها فقتلوا من استضاف السيدة رقية والسيدة زينب طيلة تلك العقود في شمال البلاد وجنوبها، فما هذا التشويش إلا تضليلٌ للعقول، وإنّ الاختباء خلف المواقف الأخلاقية لاتّهام الجميع بالمسؤولية عمّا جرى للبلاد والعباد وجعل المظلومين متهمين لأنهم دافعوا عن أنفسهم واستغلَّ مستعمرٌ ما حاجتَهم وإيغالَ النظام وحلفائه في ظلمهم، هو طوباويةٌ مفرطة.

إن كانت الأطراف قد تعددت في المشهد الكامل وتداخلت مصالحها واشتبكت أصابعها؛ فما زالت الثورة في الناس ظاهرةً على الحق لا يضرّها من وقف على الحياد متهماً لها أو متعالياً عليها، ومازالت الثورة في الديار عامرةً ينخفض صوتُها حيناً ويظهرُ لونُها حيناً، ومازال الناس في بلادنا يُقتلون لكلمةِ حقٍ عند سلطانٍ جائر لا فرق عندهم في طول لحيته، وما زالوا يقاتلون للكلمة ذاتها .. حريّة.

الثورة لو قَاْدها أهل الحكمة مَ بتِنْجَحشْ
يبدأ علاجَك بإعدام الطبيب الجحشْ
أصل الشهيد لما يرجعلك .. حَ يرجع وحشْ
ولمّا الحُسين يتقتل .. يرجع أبو العباسْ
يا أُمي يحيا الحزام الناسِف العادِلْ
يا أُمي بيسوّي بين القتلىْ والقاتِلْ
يا أمي ويريح الإتنين من الباطِلْ
ويشرّب اللي سقونا المرّ .. نفس الكاسْ .
التعليقات (1)
محمود الطويل
الخميس، 07-05-2015 07:07 م
الأبيات الأخيرة لل د. تميم البرغوثي قالها في عمان 2015