قضايا وآراء

الأمن القومي العربي وقضية فلسطين: التأثير المتبادل

محمد عودة الأغا
1300x600
1300x600
لا شك أن مفهوم الأمن القومي يعد من المفاهيم الضبابية التي ما زالت تحمل الكثير من الغموض، خصوصاً وإن ربطناه بواقعنا العربي وبدأنا نسعى لتعريف أمننا القومي المشترك.

فالأمن القومي يمكن تعريفه بأنه: عبارة عن الإجراءات التي تتخذها الدولة في حدود طاقاتها، للحفاظ على كيانها ومصالحها في الحاضر والمستقبل، مع مراعاة المتغيرات الإقليمية والدولية، ويعرفه الدكتور إبراهيم حبيب بأنه: "مجموعة الإجراءات التي تتخذها الدولة وفق خطة تنموية شاملة لحماية مصالحها الداخلية والخارجية من أي تهديد، وبما يضمن تحقيق أهدافها وغاياتها القومية".

يظهر من هذين التعريفين أن الأمن القومي يتعدى في اهتمامه وإجراءاته حدود الوطن ليصل إلى مجال التأثير والتأثر، ما يجعله من أهم المصطلحات التي يجب على أي كيان سياسي الاهتمام به، خصوصاً في واقعنا العربي الذي تعرض وما زال لأخطر عملية ممنهجة لتمزيق وتخريب أمنه القومي، من خلال المشروع الصهيوني، الذي اختار فلسطين ونسج الأساطير حول علاقة اليهود بها، ليزرع إسرائيل فيها ككيان احتلالي يضمن استمرار تمزيق العالم العربي؛ بِنِية مصادرة ثرواته.

عمل هذا الكيان الاحتلالي بأساليب عدة على ضمان تدمير أي فكرة لإنشاء تعريف واضح للأمن القومي العربي الموحد، برغم وضوح احتياجنا له لمواجهة الأخطار المستمرة، وكان ذلك من خلال تغييب الرغبة في العمل الجماعي المشترك وغَمس الشعوب وقياداتها السياسية في الاهتمام بالمتطلبات الحياتية الضيقة، كما عمل كيان الاحتلال على تقليص قدرة الكيانات السياسية العربية على العمل الجماعي في إطار الأمن القومي كمفهوم مشترك.

أدى هذا التراجع والتغييب للرغبة والقدرة العربية على العمل الجماعي تحت مظلة واحدة إلى تراجع الاهتمام بقضية فلسطين، القضية المركزية للعرب والمسلمين كافة، وانكفائهم تجاه أمنهم الوطني على حساب الأمن القومي، مما أدخل المنطقة في صراعات وتحديات كثيرة، وحرف بوصلة الشعوب تجاه قضايا جزئية.

ويمكن استيضاح ذلك سريعاً من خلال تحليل جزئية بسيطة من قياس الرأي العام الذي نفذه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، حول عدة قضايا تهم المواطن العربي، بإجراء مقابلات مع عينة ممثلة لمجتمعات 12 بلداً عربياً، وقد أظهرت نتائج المشروع في عام 2011 أن 51% من المستطلع آراؤهم يرون أن إسرائيل هي أكثر الدول تهديداً لأمن الوطن العربي، حيث مثلت هذه النسبة المرتبة الأولى، بينما جاءت أمريكا في المرتبة الثانية بنسبة 22%، تلتها إيران بنسبة 5%.

وفي عام 2014 أجرى المركز نفس القياس في 14 دولة عربية، وأظهرت النتائج أن 42% من المستطلع آراؤهم يرون أن إسرائيل هي أكثر الدول تهديداً لأمن الوطن العربي، حيث مثلت هذه النسبة المرتبة الأولى، بينما جاءت أمريكا في المرتبة الثانية بنسبة 24%، تلتها إيران بنسبة 9%.

من خلال استقراء سريع لهذه المعطيات الرقمية يتضح لنا وجود وعي عربي للخطر الواقع من وجود إسرائيل لكنه دون المستوى المطلوب، ويمكننا تفسير هذه النسبة الضئيلة (51%) في عام 2011 وزيادة تضاؤلها حتى وصولها لـ 42% في عام 2014 إلى انهماك الشعوب العربية في مشاكلها الخاصة مع تصاعد انعكاسات الحراك الشعبي العربي والثورات المضادة له على الحياة العامة، وهذا يمثل تطبيقاً واقعياً لنظرية مناحم بيجن –سادس رئيس وزراء إسرائيلي- التي يقول فيها: "إدفع عدوك لأسفل السلم ليفكر كيف يصعد الدرجات من جديد".

والجدير بالتنويه أن الاستطلاع في عام 2014 تم تنفيذه قبل وقوع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي استمر 51 يوماً.

ويمكننا ملاحظة زيادة نسبة المستطلع آراؤهم الذين يرون أن إيران من أكثر الدول تهديداً لأمن الوطن العربي من 5% عام 2011 إلى 9% عام 2014، ويعود ذلك لبروز أثر الدور الإيراني في الصراع السوري الداخلي، والتدخل في الشأن اليمني بدعم الحوثيين، وإبراز تلك التدخلات بصورة كبيرة في الإعلام العربي على حساب القضية الفلسطينية التي خبا بريقها.

وبالنظر إلى الأحداث التي تسارعت في المنطقة العربية مع بداية عام 2015 خصوصاً عمليات عاصفة الحزم، وما لحق بها من هالة إعلامية سلطت الضوء بصورة مركزة على إيران، فإنه من المتوقع أن تتغير آراء الشارع العربي تصاعداً بصورة كبيرة تجاه إيران وتهديدها للأمن العربي، على حساب تراجع رأي الشارع العربي ونظرته تجاه إسرائيل كمهدد رئيس لأمننا، وذلك ما لم تقم إسرائيل بعدوان جديد خلال صيف هذا العام على قطاع غزة.

إن تغيير أولويات التهديد تجاه أمننا القومي يشكل كارثة حقيقية، ستستنفذ مقدرات الشعوب، بعيداً عن الخطر الحقيقي، المتمثل في وجود إسرائيل على أراضينا العربية، وقد يرى البعض أن الخطر الإيراني هو تهديد مهم وعاجل يجب التعامل معه بصورة آنية، إلا أنهم يتناسون أن ما دفع إيران للتمدد في إقليمنا هي حالة التشرذم البغيضة، والفرقة فيما بيننا، وغياب القدرة على العمل المشترك، وعليه فإن مواجهة الخطر الإيراني لن يكون إلا بالاتفاق حول مصادر التهديد المشترك، المتمثلة في وجود كيان الاحتلال وسعيه المتواصل لإشغالنا عن قضايانا المصيرية
0
التعليقات (0)