مقالات مختارة

شعوبية الأمس واليوم ضدا على عصر التنوير دائما

مطاع صفدي
1300x600
1300x600
هل وصل تفجير الإقليم العربي إلى مرحلته الثالثة ما بعد مرحلتيه السابقتين، وكانت الأولى قد اعتمدت على ثورة الجمهرات العفوية، ثم جاءت بعدها مرحلة الميليشيات المعسكرة. وها هي المرحلة الراهنة وفيها النزول المباشر إلى خطوط الصراع الأولى لأصحاب الرؤوس الحامية من كبار دول المنطقة. فاليوم تتصدى السعودية كدولة وليس كأجهزة. كقوة عسكرية نظامية، وليس كميليشيات.

غير أن غريمتها إيران لا تزال تعتمد مبدأ استنابة الوكالات في الصراع ضد خصومها؛ مع أن هذا الوضع تعرف هي أنه بلغ حد إشباعه؛ إذ إن الضربة السعودية/العربية على معاقل الوكالة الحوثية وحلفائها المحليين كان لها مفعولها الفوري، كأنها أوقعت المسؤولين في طهران في حرج كبير، وخاصة حول ضرورة الرد وطبيعته. لن تكون هناك حرب مباشرة، بل هو إعلان خصومة صريحة وعلى المكشوف ما بين الدولتين؛ ولسوف تتولى السياسة اليومية والإعلام كل معارك المواجهات الممكنة، لتملأ الصفحات البيضاء الجديدة تحت ذلك العنوان الهرم والعتيق : الصراع العربي/الفارسي. 

يقول تاريخنا إن ذلك العنوان البائس كان هو اسم المرض العضال والأدهى الذي فتك بكيان الحضارة العربية الإسلامية، وقوّض دولتها العظمى عبر ذلك الصراع (العربي) و (الشعوبي) على مقاليد الخلافة العباسية. ذلك أن شعوبيات الثقافة في ذلك العهد قد أعاقت انطلاق ثورة عصر التنوير المنتظرة كأعلى ثمرة لمدنية تلك الحضارة.. إذ خسر العرب وحضارتهم الإسلامية معهم، خسروا جميعاً سباقهم التصاعدي نحو عصرهم التنويري الموعودين به كجوهر للرسالة المحمدية. معلنةً السلطة المطلقة لأحقية «حقوق الإنسان» كتجسيد لخصائص الألوهة في عالم النشوء والتغير. 

ما كانت تعنيه الشعوبية إبان تداولها في العصر العباسي، هل يكون قريباً مما يُفهم اليوم من مصطلح العنصرية. فهي النزعة التي تعطي للخصائص العرقية والقوموية أولوية التقويم والتأثير في تكوين المجتمع، وتحديد مختلف فعالياته في السياسة والثقافة والاقتصاد، وذلك في مضمار الترقي أو حضيض التخلف. فالفتوحات الإسلامية أدخلت شعوب ما كان يسمى بالعالم القديم المتحضر تحت سلطة الحكم العربي، خاصة في العهدين الأولين للخلفاء الراشدين، وبعدهم للأمويين؛ غير أن العهد الثالث كان كذلك حكماً عربياً للسلالة العباسية، مطعّماً منذ بدايته بدعم فارسي. هكذا تكوّن لحضارة الدين الجديد هَرم هائل الحجم، يضم في قاعدته الواسعة عشرات الأمم المتلاقية بعضها مع بعض عبر ثقافاتها المتنوعة، إلا أن هذه التعددية في جسم الهرم لم يكن يقابلها في قمته غير سلطة رأسية وحيدة المنبت، كلية الهيمنة والديمومة. وبذلك بات مرض الشعوبية كما لو أنه تعبير حتمي عن تيارات لمعارضة تخوض معارك المقارنات ما بين أفضليات الشعوب. وقد كان لدى الفرس خاصة من تراثهم الثقافي والمدني ما كان يشجع فروعاً من سلالات أعوان كسراوية قديمة، وفئات علومية وثقافية صاعدة، يشجع هؤلاء على تفنيد عوامل التفوق العربي.

كانت حضارة ذلك العصر العباسي قد تحولت إلى مشروع مدنية عالمية. لكنها باتت مدنية عاجزة عن إبداع نظريتها السياسية الأنطولوجية المكافئة حقاً لنظام أنظمتها المعرفية الجديدة، المتقدمة بالنسبة لمستويات التاريخ من حولها؛ فلقد عطلّت الشعوبيات السياسية والقوموية تحقيقَ الثمرة العظمى المنتظرة من بلوغ الحضارة آنذاك، لحظةَ مدنيةٍ عالمية مستحقة لقيم العدالة والمساواة لجميع الأمم. إنها صراعات العنصريات التسلطية التي تجهض النضوج الحضاري من منتوجه الأخلاقي الإنساني في الوقت الذي كان فيه التاريخ موشكاً على إطلاق مقومات عصر التنوير وجعل مولده شرقياً، استجابةً لكل مقدماته الثقافية المتوفرة لدى تراثاته الحية. 
لن نقول إن التاريخ يعيد نفسه، وإن شعوبيات العباسيين ما قبل ألف عام عائدة إلى عالمنا في القرن الواحد والعشرين. فالشعوبيات لم تختفِ لتعود اليوم. كانت مصاحبة لنا، لأجيالنا طيلة قرون. كانت هي القرين المظلم مقابل كل شعاع نير ينبثق في ليلنا الطويل الحالك. كانت تفقّسُ كلَّ أشكال الفتن والتفرقات والفئويات. كانت المولجة بابتكار جراثيم الانحطاط في كل منتوج ربيعي نضير. حتى وصل الأمر بها إلى جعل حكام شعوبنا يتخلون دفعة واحدة عن العروبة، عن هويتهم. حذفوا اسمها من بياناتهم. طردوها من محافلهم. بينما كان عدوهم الإسرائيلي، بعد أن اغتصب وطناً عربياً، وأقام فيه مجتمعاً وسورّه بدولةٍ فاشية، راح يصطاد كل يهودي من أبعد زاوية في هذه الأرض. ثم أخيراً حدث للشعوبية المعاصرة أنها اتخذت من الصهيونية نموذجها الأعلى. عملت على نشره وتوزيعه في أنحاء «الإقليم»، ما عدا كل ما هو عربي فيه. صارت شعوبية الصهيونية مثالاً يُحتذى به من كل من له ثأر تاريخي من حضارة العرب ودينهم. 

ولكن نسأل أنفسنا: لماذا حدث كل هذا؟ ما الذي يوقف سرطان الشعوبية الجديدة، وهل افتقر العرب إلى هذا المستوى من فقدان الوعي؟ هل لم يعد لهذا الليل الدامس من صباح، أم إن الطبيعة قد غيرت حتى قانون الليل والنهار؛ إذ ربما لن يتبقى في بلاد الشمس من النور إلا لهيبه المحرق؟ هذا الذي أباد كل خضرة من جذورها. جفَّف كل واحة من ينبوعها كل هذا قد يقا،. يبقى أن نصدق أو لا نصدق! أو هناك من يخبرنا أنه ذات صباح استيقظ أعرابي، خرج من خيمته، رفع رأسه نحو الأفق أمامه باحثاً عن الشمس، رآها في عينيه وحدهما. هل هذا ممكن حقاً. هل إذا لم تعد تشرق الشمس من أفقها، قد يجعلها الأعرابي تشرق في عينيه حقاً؟



(نقلاً عن صحيفة القدس العربي)
التعليقات (0)