مقالات مختارة

مبادرة خارج الزمان

فداء عيتاني
1300x600
1300x600
لا بد من نظام أرشفة متطور لمتابعة كل ما قيل ويقال حول خطة المبعوث الدولي الى سوريا ستيفان دي مستورا، خاصة لناحية المعارضة السورية المشتتة في الخارج والداخل.

لقد قدم الرجل الى بلاد تعيش حربا اهلية، بكل تعقيدات الحروب الاهلية، التي تنطلق عادة من محاولات جزء من المواطنين تغيير الواقع الراكد لأنظمة الحكم. هذه الحرب التي عمل النظام وحلفاؤه حثيثا على تحويلها الى حرب مذهبية متفرقة، ونجحوا في اضفاء الطابع السني الشيعي عليها، ثم السني المواجه للاقليات لاحقا، قبل ان يحاولوا تسويقها كحرب ضد الارهاب.

الى هذا المشهد المعقد اتى دي مستوار برؤية ساذجة، تجميد القتال في منطقة محددة، ومع اعطائه افضلية حسن النية والسذاجة يمكن القول انه اختار المنطقة الاقرب الى مصلحة النظام السوري، اي حلب، ليضمن سير النظام في خطته التخديرية.

الا ان السذاجة والنوايا الحسنة لا تعذر صاحبها دائما، ولا تفتح له ابواب النعيم، وطبعا لا تسهل اعماله، فلدى ديبلوماسية النظام خريطة مصالح واضحة من ناحية، ولديه اضافة اليها لغة محددة للتعامل السياسي مع ازماته، وبيعها الى العالم كبضائع معاد تصنيعها.

اولا في المصالح فان النظام يريد الكتلة السكانية الاكبر، والحدود الى تركيا وفك الطوق عن عدد من المواقع التي تهمه، واعادة استلام المدينة بشكل كامل، دون ذلك فإن دي مستورا يمكنه زيارة دمشق والاستمتاع بما بقي من مواقعها الاثرية، والجلوس في مطاعمها العالية التي اصبحت تطل على نقاط النزاع والقصف في دوما والغوطة.

ثانيا فان النظام ايضا يريد تأكيدات دولية على دوره في «مكافحة الارهاب» ومنع تدخل دول اخرى في الحرب الدائرة، سواء أكانت تركيا ام الاردن ام غيرهما، ويريد ان يصل الى اعتراف دولي بان لا بديل عن الرئيس السوري بشار الاسد الا الفوضى، ويسعى الى دفع دي مستورا الى ترديد ما قاله الموفد الامريكي ريتشارد مورفي عن لبنان العام 1988 «مخايل الضاهر او الفوضى»، واليوم «بشار أو الفوضى».

المبادرة التي بدأت بصفتها مسعى لتجميد القتال في حلب، ثم في مدينة حلب، ثم اصبحت تجميد الاعمال في بعض انحاء مدينة حلب، ثم تقلصت مجددا الى مجرد وقف القصف المتبادل في احياء محددة من حلب، لم تنل الرضا من اطراف المعارضة ايضا.

كانت اطراف المعارضة الخارجية مربكة الى اللحظة التي بدأت فيها بعض اطراف المعارضة المسلحة في الداخل تسمع بالمبادرة، وحين رددت الفصائل المسلحة رفضها للمبادرة اخيرا، راحت المعارضة الخارجية تقول بانها لا توافق عليها، وتكلف لجانا للتحدث بالامر وبحثه، وطبعا كما يمكن التوقع سلفا فقد اشتبكت اطراف اللجنة المكلفة بالتواصل مع دي مستورا ببعضها بعضا، وتبادلت الاتهامات عبر الاعلام، الى اخر ما هناك من تقليد متبع لدى قوى المعارضة السورية الخارجية.

الا ان مشكلة المبادرة الفعلية انها لا تحمل اي مضمون سياسي للتسوية في سوريا، وان كان جنيف (1) قد اصبح خلف ظهر التحالف الذي يدعم النظام السوري، ويسعى الى ابعد من ذلك، وان كان الحل مع بشار الاسد والوضع السوري برمته قد اصبح في اسفل قائمة الاهتمامات الدولية لما يسمى تجاوزا بالدول الصديقة للشعب السوري، فان السياسة اليوم في اجازة، وتعيش اغلب الجهات السياسية في المعارضة السورية حالة من الرحلات السياحية التي تغطيها بالشعارات السياسية، بينما يدرك الجميع ان الشأن السوري متروك للجنرال قاسم سليماني فعليا، وللسيد دي مستورا شكليا.

والمشكلة الاخرى للمبادرة ان دي مستورا يبدي من الجدية اكثر مما يجب، في طرح مبادرة لا تحمل الا الشق الامني، في حين اننا يمكن ان نصف اليوم ما يحصل في سوريا بالـ «قضية» السورية، التي اصبحت متشعبة وغاية في التعقيد، وتكاد تفجر المنطقة وتشكل عقدة حبال المنطقة في التوترات السياسية.

ويأتي طرح خطة تجميد للقتال في اجزاء من حلب ليكون تمرينا ديبلوماسيا، يقع في اوهامه كل من ينسى ان تجميد القتال يفترض ان يكون اقل من الهدنة، وانه موضعي، وانه لا يحمل اي افق سياسي، او امني على باقي المناطق، وبالتالي فان دي مستورا يسعى الى انهيار مبادرته ما ان تبدأ بالتطبيق الفعلي.

هذه الخطة لم تكن لتطرح لو لم يتم ابعاد السياسة عن الصراع في سوريا الى حين، ولم تكن لتجد من يحملها على محمل الجد لو لم يرد النظام استعراض مهاراته في الالعاب البهلوانية، واظهار ضرورة وجوده مقابل فوضى القوى الاخرى. انها المبادرة التي تأتي من خارج السياق وتقع خارج الزمن.

لن يجمد القتال، ولا القصف في حلب، ولا في غيرها، فالاوان اوان رسم مصالح اخرى للنظام ولحلفه.
ليسترح دي مستورا، لا ضرورة ليكون ملكيا اكثر من الملك.



(نقلا عن صحيفة القدس العربي)
التعليقات (0)