قضايا وآراء

قناص أمريكي: عدسة الكاميرة وعدسة القناص

سعيد أبو زينة
1300x600
1300x600
متعبا بعد رحلته الطويلة في العراق للكشف عن حقيقة ما قيل إنها عملية نوعية أنجزتها ببطولة فرقة Bravo two zero  في حرب الخليج الأولى، يجلس "مايكل آشور" مستاء على صخرة قبالة نهر الفرات، في رحلته في برنامج وثائقي تحقيقي مشى مايكل متتبعا خطوات هذه الفرقة الأسطورية التي قيل إن جنودها الثمانية جابهوا بأسلحتهم في العراء رتلا عسكريا عراقيا ودمروه تماما وقتلوا معظم جنوده، اتضح فيما بعد وبصورة مضحكة أنه لم تكن هناك معركة ولا قتل فيها عراقي واحد، بل إن من قتل من أبطال هذه الفرقة مات متجمدا من البرد أو مضطربا من الهلع. يتساءل مايكل ما إذا كان من المشروع في صناعة الرموز والأبطال أن يكذب على الحقيقة وتختلق الوقائع، هل هذا فعل أخلاقي أو نزيه ؟

سرعان ما كانت هذه القصة المختلقة عملا دراميا عرض على الشاشات سنة 1999 مظهرا بذلك كيف يصنع الإعلام أبطالا من لا شيء، وكيف يروج لبطولات كانت في الحقيقة حماقات وسقطات ذريعة.
 
ولا شك أن ما جسده فيلم Birdman  كهاجس لحالة الإقبال الهائلة على أفلام الرموز والأبطال الخارقين المختلقة، و النزوح في الذوق نحو العنف والدموية بدلا من الأعمال التي تهتم بالمعاني الإنسانية. لا شك أنه مظهر من مظاهر سيطرة الأسطورة على السينما.

ويبدو أن الآلة الإعلامية لم ولن تكف عن نزعتها هذه في اختلاق الأبطال وفي تحويل أفعال بربرية همجية إلى بطولات تتجسد في أفلام عالية الإنتاج كفيلم "كلينت إيستوود" الأخير American Sniper، الفيلم الذي يحكي قصة القناص الذي عرف باسم "شيطان الرمادي" والذي قيل إنه قتل ببارودته أكثر من 255 شخصا منهم نساء وأطفال، نفاجأ بأن الفيلم يتقدم خطوة جريئة في تقديمه للبطل والرمز، فإنه يفتتح بمشهد يصوب فيه القناص سلاحه على طفل وأمه يحملان عبوة ناسفة، من هنا تنسحب الكاميرا لتنسج قصة ملحمية حول شخصية هذا القناص مؤداها والمؤمل منها التمهيد الأخلاقي والعاطفي والشرعنة القصوى للرصاصتين اللتين يقتل بهما الطفل وأمه باحتراف وجرأة.

وبحسب مقال في صحيفة الغارديان نشر في السادس من يناير تطرح "ليندي ويست" سؤالها عن السبب الذي يحدونا إلى اعتبار جندي مليء بالكراهية والدموية والعجرفة بطلا، فقد كان "كريس كايل" بحسب مذكراته مستمتعا بقتل "الأوغاد"، تكفيه في حياته حقيقة واحدة هي أنه يقتل من يقتله -بغض النظر عن جنسه وعمره- دفاعا عن الجندي الأبيض في أرض القتلة وسفاكي الدماء، فهو حامي الحمى من وحشية وبربرية المقاتلين المسلمين، في الفيلم نقف أمام مشهدين يقتل فيها طفلان أحدهما على يد صاحبنا البطل والآخر على يد زعيم "الأوغاد" حين يخرم رأس الطفل بوحشية مفرطة. المطلوب من المشاهد فهو أن يتعامل بازدواجية مع المشهدين، هذا ما نستخلصه من جواب "كريس" حين سئل عمن قتلهم في الحرب، ما دام أنه قتلهم دفاعا عن رفاقه وحماية لوطنه، وإذن فهو مستعد أن يقف بين يدي الله والعدالة بقوة وشجاعة ليقرر ذلك بقوة ونزاهة.

عدسة الكاميرا أم عدسة القناص؟



لعل في المشهد الذي يعرض لمهمة البطل في ملاحقة أبي مصعب الزرقاوي وتلك المحاضرة المختصرة عنه في التعريف به وبخطره، لعل فيه ردا مقنعا وواضحا على محاولة "برادلي كوبر" نفي أي نزعة سياسية لفيلمه هذا، ومحاولته شخصنة الحالة وتحويلها سيرة ذاتية مليئة بالدراما والمعاني الإنسانية، بل نجد في الفيلم منطقا ظاهرا يمثل انعكاسا وجوابا للصدى الذي أحدثه من قبله فيلم Lone Survivor، ففي هذ الفيلم نقف أمام السؤال الأخلاقي نفسه حول مشروعية قتل الأطفال والنساء، حيث يجابه "ماركوس" ورفاقه قرار قتل الرعاة الأطفال بعد أن كشفوا موقعهم، يضعنا الفيلم أمام عواقب العفو عن الأطفال خشية مصادمة ما يعتبر مسلمات أخلاقية.. النهاية مؤلمة وحزينة تنتهي بمقتلة عظيمة لرفاق ماركوس.

وخطورة مثل هذ التوجه كامنة في طبيعة القصص وكيفية سردها، لا يتحدث هذا الفيلم ولا غيره عن سبب الحرب ومعناها ومشروعيتها بالأساس، بل ينتقل مباشرة إلى وسط المعمعة ومن منظار القناص ينظر المشاهد إلى حوادث آنية صراعية ثنائية البعد، لم يأت المخرج بصورة قريبة للطفل وأمه المقتولين برصاص البطل، هي صورة واحدة من الخلف وأخرى بعيدة من عدسة البارودة، تختار كاميرا المخرج أن تتحد في هذه الحالة مع عدسة القناص، في الحين الذي تنقل فيه صورة الطفل المقتول على يد "الأوغاد" جالسا بجانب أبيه صورة قريبة حميمية. 

هذا هو المنطق نفسه الذي أظهر قادة الأمة الأمريكية الذين أبادوا شعوب العالم الجديد ودفنوهم في مقابر جماعية أبطالا فاتحين تتألق بصورهم دولارات العم سام ومتاحفه بل ويسفر عنها وجه قمة "راشمور" كعربون شرف وفخار. في حين غاب ضحاياهم من الذاكرة والتاريخ.

 الهندي الأحمر وصورته المصنوعة بعدسة هوليوود يستنسخ الآن نسخا مضطردة في العراق وسوريا، وأعمال الحفر والنحت لا تكل عن نحت الأبطال المزعومين بشيطنة أعدائهم إن لم يستطيعوا محو وجودهم من الأرض ومن الذاكرة.

هكذا نفهم إعجاب محررة الأخبار المحترفة "نينا"  بالمصور الهاوي والمضطرب نفسيا "لويس" في فيلم Nightcrawler، ما يهم هو مشاهد القتل والأهم قتل "الأوغاد" لـ "الأشراف"، الحقائق لا تهم، هكذا تعلم مساعدها في غرفة التحرير أن "لويس" يحاول أن يرتقي بالإعلام مستويات أعلى، لا تهم المعلومات والحقائق بقدر ما تهم المشاعر التي تخلقها هذه المعلومات.

هي معضلة مشرعة تملأ الأفق وتستدعي جلسة كالتي جلسها متعبا "مايكل آشور" متأملين فيما يحدث كيف حدث وكيف نقل ومن أي الجهات ينظر إليه، نشهد كيف تخرج الكذبة من رحم الحقيقة، وكيف يصنع الخبر وتنبثق القصة من سطح منزل متداع في الفلوجة إلى شارع في وسط باريس. 
التعليقات (0)