قضايا وآراء

صوت الضمير.. في الغرب

شعبان عبد الرحمن
1300x600
1300x600
حدث مهم لم تأبه به الساحة السياسية كثيرا ،  ذلك هو التغير الملحوظ بقوة في موقف العالم الخارجي خلال الحرب علي غزة نحو تأييد الحق الفلسطيني وإدانة الجرائم الصهيونية.. فقيام ست دول من أمريكا الجنوبية إضافة إلى أستراليا والسويد وإسبانيا وظهور مندوبة إسبانيا في البرلمان الأوروبي مرتدية الكوفية الفلسطينية وإعلان سعيدة وارسي أول وزيرة بريطانية مسلمة استقالتها رفضا لسياسة الحكومة حيال العدوان الصهيوني علي ?‏غزة?.تمثل كلها موقفاً قوياً ولافتاً لأول مرة. 

كما أن تلك المظاهرات الحاشدة التي ملأت شوارع العديد من العواصم الغربية تمثل إشارة أخرى ، فقد شهدت باريس أضخم مظاهرة خرجت بالرغم من تهديد السلطات لمنظميها بعدم الخروج، كما شهدت لندن ومعظم العواصم الأوروبية مظاهرات مماثلة صاحبتها حملة شعبية غير مسبوقة لمقاطعة البضائع والشركات «الإسرائيلية».
 
 كل تلك مواقف لافتة بقوة – كما سلف ذكره - كان ينبغي التوقف عندها طويلاً، وتحليل أبعادها، وكيفية الاستفادة من تطويرها في صالح القضايا العربية.

إنها تمثل صوت الضمير الغربي الحي الذي بدا قوياً وجسوراً هذه المرة؛ انتصاراً للحق العربي، لكن - للأسف الشديد - فقد كان ذلك الموقف الخارجي فاقعاً أمام الموقف المعتم للنظام العربي..موقف الشلل والعجز حيناً، وموقف التواطؤ والتحريض والدعم للعدوان الصهيوني أحياناً أخرى من قِبَل أطراف باتت معروفة وتعرَّت مواقفها. 

والدور المرتقب في هذا الصدد منوط بمؤسسات المجتمع المدني الفكرية والثقافية والحضارية الحرة، خاصة صاحبة الجهود المعروف في الحوار بين الحضارات، كما يُنتظر من شخصيات صاحبة باع طويل في هذا الاتجاه . 

لقد أخذت الدول والمؤسسات والشخصيات الغربية مواقفها المشرفة تلك مما جري  في غزة بمبادرة ذاتية  ، فماذا لو تحرك تيار فكري عربي شعبي لـ" تجسير» علاقات قوية وواسعة مع هؤلاء؟ كيف سيكون الموقف من القضية الفلسطينية وقضايا الحريات في العالم العربي؟ المسألة ليست لغزاً أبداً، فمن يقف أمام مواقف الغرب المؤيدة للصهاينة على طول الخط رغم بشاعة جرائمهم؛ يجد أن تلك المواقف وليدة حملات تواصل مستمرة ومصحوبة بحملات إعلامية تقلب الحق العربي باطلاً والجرم الصهيوني دفاعاً عن النفس !

لم يكن ذلك الموقف الغربي المؤيد للحق الفلسطيني في غزة جديدا ً؛ حتى لا يلتفت إليه أحد ويمر عليه مرور الكرام هكذا.. كانت هناك على امتداد العقود الماضية مواقف مؤيدة للحق العربي، وكانت صادمة للكيان الصهيوني من شخصيات هي ملء السمع والبصر وذات تأثير كبير في الغرب، ولكنها في لحظة صدق مع النفس نطقت بكلمة الحق، ودفعت ثمناً باهظاً، ولكن لم يتواصل معها أحد من الشرق العربي - على الأقل - لتثمين مواقفها، وعلى سبيل المثال أتوقف أمام الحالات التالية:

 ذلك الموقف الذي أعلنته العميدة السابقة لصحفيي «البيت الأبيض»، الأمريكية المخضرمة «هيلين توماس»، تلك الصحفية (توفيت عام 2013م) التي غطت أخبار البيت الأبيض لنحو خمسة عقود، وتابعت أخبار نحو عشرة رؤساء أمريكيين،وكانت تلقب بـ»أيقونة الصحافة الأمريكية»، لكنها خسرت كل مواقعها ومناصبها وكل هالات التكريم داخل الدوائر الأمريكية عندما استيقظ ضميرها في لحظة صدق مع النفس قائلة عام 2010م: «إن على الإسرائيليين أن يخرجوا من فلسطين ويعودوا إلى ديارهم، هؤلاء الناس محتلون، وعليهم أن يرجعوا إلى ألمانيا أو بولندا، أخبِرْهم أن يخرجوا من فلسطين». 

موقف آخر لا يقل جسارة صدر من كبير القضاة في بريطانيا اللورد «فيليبس» منصفاً الشريعة الإسلامية عندما أعلن «عدم وجود ما يمنع من اللجوء لقواعد الشريعة الإسلامية في حل النزاعات؛ فالشريعة الإسلامية عانت من سوء فهم واسع النطاق». 

ولعل «كبير القضاة» وهو يجازف بهذه الشهادة بحق الشريعة الإسلامية لم يغب عن ذهنه الحملة الكبيرة التي تم تجريدها ضد كبير أساقفة كانتربري « د. روان ويليامز» عقب تصريحات مماثلة أنصفت الشريعة الإسلامية، عندما قال في فبراير 2008م: «إن استخدام بعض جوانب الشريعة يبدو لا مفر منه»، واقترح أن تؤدي الشريعة دوراً في بعض جوانب قوانين الزواج، وتنظيم المعاملات المالية، وطرق الوساطة، وحل النزاعات.

وفي الأول من مارس 2006م كان عمدة لندن «كين ليفنجستون» على موعد مع دفع ضريبة مواقفه النزيهة وأفكاره الشريفة حيال الإسلام المسلمين والقضايا العربية في فلسطين والعراق، فقد كان الرجل ضحية قرار الهيئة التأديبية (المخصصة للنظر في أداء المسئولين المحليين) والصادر يوم الجمعة 24 فبراير 2006م بالتوقيف عن العمل لمدة أربعة أسابيع؛ بسبب تشبيهه في فبراير 2005م صحفياً بريطانياً يهودياً بصحيفة «إيفننج ستاندرد» اللندنية بـ»حارس معسكر اعتقال نازي خلال الحرب العالمية الثانية»، وعللت الهيئة قرارها بأن تصريحات العمدة «تفتقر إلى الحساسية وتتضمن إهانة غير مبررة» للصحفي. 

وهناك العشرات من مشاهير الفن والسياسة والاقتصاد في الغرب الذين اعتنقوا الإسلام وتحولوا إلي دعاة للإسلام ويشارك بعضهم في حوار الحضارات وهم علي استعداد للتواصل مع العرب والمسلمين . ومن هؤلاء علي سبيل المثال لا الحصر «كريستيان باكر» التي كانت أشهر مذيعات  قناة (Mtv) الموسيقية الألمانية، والتي أصدرت كتابها «من Mtv إلى مكة» وركزت خطابها فيه على القارئ الأوروبي شارحة مفهومها للإسلام، وقد حرصت على معالجة العديد من القضايا التي يجهلها الغربيون عن الإسلام، أو التي وصلتهم بمفهوم خاطئ، وقد اجتذبت بكتابها الجديد جمهوراً غفيراً لا يقل عن جمهورها في حفلات السينما والحفلات الموسيقية. لم تكتف «باكر» بإصدار كتابها، وإنما أصبحت ناشطة في منتديات حوار الأديان، مركزة على تصحيح المغالطات السائدة تجاه الإسلام والمسلمين قدر جهدها. لم يخل الميدان الأكاديمي بمنظومته التعليمية الواسعة من صوت الضمير الحي وأشير في هذا الصدد إلي اثنين من كبار الأكاديميين هما :

جون ميرشامير «أستاذ العلوم السياسة ومساعد مدير برنامج سياسة الأمن الدولي بجامعة شيكاغو الأمريكية»، وستيفن والت «أستاذ العلاقات الدولية بكليّة جون كندي بجامعة هارفرد» اللذان يمثلان ــ بحق ــ صوت الضمير الأكاديمي الحي.. فقد قام الرجلان بما يشبه العملية الاستشهادية ولكن في ميدان البحث العلمي النزيه والشفاف. ففي منتصف شهر مارس (آذار) 2006 م أصدر الرجلان ما يمكن تسميته بأجرأ دراسة أكاديمية في الولايات المتّحدة «اللوبي الإسرائيلي وسياسة أمريكا الخارجية» قاما خلالها وبطريقة علمية نزيهة بتشريح اللوبي الصهيوني وتعرية مخاطره على الولايات المتحدة حاضراً ومستقبلاً، وهو ما لم يجرؤ أكاديمي على فعله قبلهما.  المهم أن تلك الدراسة جاءت موثقة بشكل بالغ الدقّة، وهو ما وضع كل من يحاول النيل منها أو تكذيب ما جاء فيها في مأزق كبير. فالدراسة حافلة بالمصادر الموضوعية الموثقة ومدعمة بشهادات خبراء واختصاصيين وصحفيين، ومنظمات دولية معنية بحقوق الإنسان، بل وبشهادات من اللوبي الصهيوني!

وهو ما صعب على كل من حاولوا النيل من مصداقيتها، النجاح في محاولته، ولم يجد اللوبي الصهيوني حلاًّ معها سوى الضغط على جامعة هارفارد التي حملت الدراسة شعارها لسحب الشعار والتخلي عن الدراسة!  

واللافت للانتباه هنا أن جون ميرشامير وستيفن والت لم يقفا وحدهما أمام موجة الضغوط والابتزاز المتواصلة من اللوبي الصهيوني، وإنما انضم إليهما جمع كبير من الأكاديميين، فقد أجرى معهد «أبحاث الشرق الأوسط» في واشنطن استطلاعاً على2300 أكاديمي أمريكي لمعرفة رأيهم في تلك الدراسة الجريئة فأعرب 91% منهم عن اعتقادهم بأن : «ما جاء في الدراسة دقيق تماماً وأن تكتيكات اللوبي الإسرائيلي تعرض الولايات المتحدة إلى ظهور شعور معاد لها في الشرق الأوسط».   لا نبالغ إذا قلنا إن تياراً جسوراً برز على الساحة الأمريكية من داخل المؤسسة العلمية والأكاديمية، وبدأ يتحدث بصوت مسموع ليس عن طريق المظاهرات ولكن عن طريق مخاطبة العقل والوجدان عبر الدراسات العلمية الموثقة. 

 هذا التيار الأكاديمي  ينضم إلي المئات من الجنرالات والمفكرين والساسة والكتاب الذين استيقظ ضميرهم المهني ــ كل في مجاله ــ منددين بالسياسة الأمريكية في العراق وفلسطين وغيرها من بلاد العالم.

أعتقد أن هؤلاء جميعاً يمثلون «مؤسسة الضمير الحي» في الغرب  ويحيط بهم -بلا شك- مئات الآلاف من الشعوب الغربية. 

إن هؤلاء جميعا يمثلون تيارا معتبرا يخدم قضايانا  بقوة وحيوية لا تقل عن دور  الجيوش، ولو انفق إعلامنا وساستنا ومؤسساتنا الفكرية سنوات من الجهود لما أثمرت ما تثمره جهود هذا التيار الذي يمثل  «مؤسسة الضمير الحي» في الغرب.  والسؤال: لماذا لم تفكر مؤسسات المجتمع المدني في بلادنا ومؤسساتنا العلمية ومفكرونا وكل المهتمين بقضية الحرية والاستقلال بمد جسور التعاون مع تلك المؤسسة الغربية المهمة وإقامة تعاون واسع معها وتوحيد الجهود ضد ذلك العبث الذي تمارسه السياسات الاستعمارية؟  

إن التحالف بين «مؤسسات الضمير الحي» على امتداد العالم كفيل برد أو ــ  على الأقل ــ تعطيل ذلك التحالف الاستعماري المندفع لسحق شعوب بعينها وإزالة دول من الخارطة ظلماً وبغياً، ذلك بعد أن فشلت السياسات وانبطحت الحكومات أرضاً. 
التعليقات (1)
أبو حسن
الجمعة، 20-02-2015 12:29 ص
آه ياصديقي،لقد حركت فينا مواجع كثيرة.حيث أشرت إلى مواقف مشرفة حقا لمفكرين و سياسيين غربيين معروفين،وحبذا لو تطرقت إلى مأساة الفيلسوف الفرنسي المسلم،الذي غادرنا العام الفارط بعد أن ذاق الويلات على أيدي اللوبي الصهيوني و اليمين المتصهين في بلده فرنسا، و لم يمت مغمورا منبوذا فحسب ، بل إنه لم يجد قبرا يواريه فاضطر من كانوا معه بعد موته إلى حرق جثمانه و الإكتفاء بدفن رماده في مكان مهجور، كل ذلك لأنه فضح الصهيونية العالمية المجرمة في كتابه الشهير :الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل،وقدكان لتأليفه و نشره وقع أشبه بزلزال رهيب، أفزع الصهاينة في فلسطين المغتصبة بل و في سائر البلدان التي يتواجدون فيها،فحاربوه بشراسة منقطعة النظير مثلما منعوا كتبه من الطباعة و النشر و التوزيع،وضيقوا عليه سبل العيش الكريم و أرهقوه بدعوى معاداة السيامية و التحريفية و إنكار الهولوكوست وفقا لنصوص قانون عنصري جائر ظهر في فرنسا قبل سنين و يعرف بقانون ( غيسو )،أما المؤسسات الدينية الرسمية في وطننا العربي فقد ناصبته العداء، خصوصا المؤسسة الوهابية في أرض الحرمين لأنها كانت ترى فيه منافسا غربيا غريبا يجمع بين أفضل ما وصل إليه الفكر الغربي و التراث العقلاني الإسلامي.ومن أقواله المشهورة :لا تقرأوا القرآن بعيون الموتى.غير أن قوى الجمود و الهمود و التقليد المعادية ـ دوما لكل اجتهاد و تجديد ـ سعت لتهميشه و تسفيه أقواله ومحاربة أفكاره و الحط من شأنه بدعاوى واهية لا تصمد أمام ذي بصيرة سوية و عقل سليم،و كان على هذه الدوائر الحاكمة و المتنفذة أن تقربه لا أن تبعده،و أن تكرمه لا أن تحرمه،و حبذا لوعاملته معاملة المؤلفة قلوبهم ـ قديما ـ فأغدقت عليه نزرا يسيرا من بعض ما تغدقه على الكتبة الكذبة،وعلماء السلطان و ( المفكرين ) المتزلفين المتهافتين على فتات موائد بعض الحكام الجهلة المتكبرين المتجبرين .رحم الله رجاء ( روجي ) غارودي و عوضه في عالم البقاء خيرا مما فقده و حرم منه في دار الفناء،و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.