بورتريه

غزة: مدينة تسكنها الخيول والرجال والياسمين (بورتريه)

رسم تعبيري لمعاناة غزة - فيس بوك
رسم تعبيري لمعاناة غزة - فيس بوك

بعض المدن مثل الرجال والخيول، قد لا ينتبه أحد إليها، وقد لا يعيرها أحد اهتماما، لكن في لحظة ما تجدها هناك واقفة أمامك بعنفوان وكبرياء كأنها لم تغب عن نظرك أبدا، كأنها مدينة من الياسمين والزنبق والخيول.

غزة مدينة محاصرة وفقيرة دخلت التاريخ من أوسع أبوابه ونوافذه أيضا، المدينة الوحيدة في الوطن العرب، المسكون بالمؤامرات والدسائس، التي سيشار إليها لاحقا بوصفها المدينة التي أخضعت "الدولة العبرية" لشروطها، المدينة الوحيدة التي انطلقت من أزقتها صواريخ القسام لتعبر الفضاء الإسرائيلي ضاربة البناء النفسي والسيكولوجي والعصبي للشخصية اليهودية.

غزة التي تئن أرواح ساكنيها المتعبة تحت وابل من صواريخ تل أبيب، تماما كما تئن تحت وطأة الصمت والحصار والتمزق العربي ولغة الخطابة والإدانة التي تحمل الضحية/ الشهداء مسؤولية موتهم.

ما يكتب عن غزة هو أقرب إلى النعي لأمة تتحصن في الخندق ذاته مع العدو، وبكائيات تأخرت كثيرا أو «بكرت» قليلا، لأننا في زمن عربي موجع، مهيأ في كل وقت للغضب والعويل على أرض تحتل، أو جنرال يخون أمته، أو اغتيال لقائد عسكري لم يعرف غير شرف الجندية والمقاومة، أو زعيم يمتهن الكذب والشعوذة والاندفاع إلى أقصى حدود الكذب والتبرير والتماهي مع العدو.

لحظات جرفتها الكارثة، محاولة يائسة للإمساك بأردية شهيد، نعي متأخر، رثاء لأولئك الذين لم يتمكن أحد من أن يرثيهم، لأن العالم نسيهم وهو يعد قائمة الشهداء والجرحى، بعد أن تحول الدم العربي إلى لغة إحصائيات وأرقام صماء قابلة للنقاش والزيادة والنقصان، والتصنيفات الإعلامية بين شهيد وبين قتيل. 

يتناثر الدم العربي الفلسطيني في طرقات غزة، ويعمد الشهداء بدمهم أزقة المخيمات، وتتحول طرقات الأحياء المكتظة إلى توابيت تحتضن بخجل أجساد أطفال قتلوا وهم يلعبون الكرة على الشاطئ، وأمهات سقطن برصاص الخذلان العربي والإسلامي قبل أن يسقطن بنيران بنيامين نتنياهو.

ينتمي واقع غزة، المحاصرة والنازفة من الوريد إلى الوريد، إلى الخيال العلمي، فالقطاع عبارة عن جزيرة معزولة عن محيطها الإنساني والكوني، أوصالها مقطعة، وجغرافيتها تئن بفعل الأسلاك الشائكة التي تغلق حدود وأبواب المدينة (..) لا يمكن لأحد أن يخرج آو يدخل بحرية، الكل يتحرك في ذات المساحة، ولا يمكن لأحد أن يزور أكبر سجن على وجه الأرض.

تعد غزة الفقيرة المعزولة عن العالم، غزة المنكوبة التي حاصرها الأشقاء العرب سياسيا وماليا حتى قبل أن تصلها دبابات وآليات بنيامين نتنياهو، أكثر المناطق المكتظة بالسكان في العالم.

 غزة ذلك الشريط الضيق البالغة مساحته 365 كيلومترا مربعا (طوله 45 كلم وعرضه 16 كلم). دفعت غزة ثمن صلابتها وعنفوانها في الانتفاضة الأولى والثانية والهجمات الإسرائيلية المتواصلة، كما عوقبت على انحيازها الديمقراطي في الانتخابات التشريعية عام 2005.

غزة التي دفعت ثمن الخلافات والخرافات العربية، الكل أسقط مشاكله مع جيرانه في فلسطين، وكان الدم الفلسطيني هو صوت وشكل الصراع السياسي العربي/ العربي ضمن حروب البسوس وداحس الغبراء بين حكومات تبحث عن دور حتى لو كان على حساب العربي الآخر، أي دور حتى لو كان دورا استخباراتيا (جاسوس).

غزة التي لم تحلم يوما باستقلالها، والتي بقيت دائما تابعا.

غزة المكتظة بالسكان - نحو 1.5 مليون فلسطيني، منهم نحو 900 ألف نسمة لاجئون ذهبوا إلى غزة بعدما طردوا من منازلهم غداة قيام «الدولة العبرية» في 1948، على أمل أن يعودوا ذات يوم إلى بيوتهم الأصلية.

غزة إحدى أقدم المدن التي عرفها التاريخ، والتي أسسها العرب الكنعانيون في القرن الخامس عشر قبل الميلاد والتي لا يعرف حتى الآن لماذا سميت بهذا الاسم، والروايات حول هذا الموضوع متعددة وغير مؤكدة، لأن هذا الاسم كان قابلاً للتبديل والتحريف بتبدل الأمم التي صارعتها، فهي عند الكنعانيين «هزاتي»، وعند الفراعنة «غزاتو»، أما الآشوريون واليونانيون فكانوا يطلقون عليها «عزاتي» و«فازا»، وعند العبرانيين «عزة»، والصليبيون أسموها «غادرز»، والأتراك لم يغيروا من اسمها العربي «غزة».

وقد اختلف المؤرخون في سبب تسميتها بغزة، فهناك من يقول إنها مشتقة من «المنعة والقوة»، وهناك من يقول إن معناها «الثروة»، وآخرون يرون أنها تعني «المميزة» أو «المختصة» بصفات هامة تميزها عن غيرها من المدن.

وطيلة تاريخها، لم يكن لغزة حكم مستقل، حيث احتلها الكثير من الغزاة كالفراعنة والإغريق والرومان والبيزنطيين وغيرهم. وكانت أول مرة تذكر فيها المدينة في مخطوطة للفرعون تحتمس الثالث (القرن 15 ق.م)، وكذلك ورد اسمها في رسائل تل العمارنة بعد 300 سنة من الاحتلال الفرعوني للمدينة.

وارتبط العرب بغزة ارتباطاً وثيقاً، فقد كان تجارهم يفدون إليها في تجارتهم وأسفارهم باعتبارها مركزاً مهماً لعدد من الطرق التجارية، وكانت تمثل الهدف لإحدى الرحلتين الشهيرتين اللتين وردتا في القرآن الكريم في (سورة قريش) رحلة القرشيين شتاء إلى اليمن، ورحلتهم صيفاً إلى غزة ومشارف الشام، وفي إحدى رحلات الصيف هذه مات هاشم بن عبد مناف جد الرسول المصطفى عليه الصلاة والسلام، ودفن في غزة في الجامع المعروف بجامع السيد هاشم في حي «الدرج».

فيما بعد سيطر الأوروبيون على المدينة في فترة الحملات الصليبية، لكنها رجعت تحت حكم المسلمين بعد أن انتصر صلاح الدين الأيوبي عليهم في معركة حطين عام 1187. وازدهرت المدينة في آخر أيام الحكم العثماني، حيث تأسس فيها أول مجلس بلدي عام 1893.

بعد سقوط وتمزق السلطنة العثمانية سقطت غزة في أيدي القوات البريطانية أثناء الحرب العالمية الأولى، وأصبحت جزءا من الانتداب البريطاني على فلسطين. ونتيجة للحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، تولت مصر إدارة أراضي قطاع غزة وأجريت عدة تحسينات في المدينة.

وفي حرب حزيران ( يونيو) 1967 احتلت «إسرائيل» قطاع غزة، ثم ما لبثت في عام 1993 أن انسحبت منها، حيث وضعت تحت إدارة السلطة الوطنية الفلسطينية.

لكن انتخابات عام 2006، وضعت المدينة أمام خيار الديمقراطية، حيث اختار شعبها حركة حماس، مما أدى إلى اندلاع قتال ما بين حركة فتح وحركة المقاومة الإسلامية حماس، حيث رفضت حركة فتح نقل السلطة في غزة إلى «حماس».

منذ ذلك الحين، وقعت غزة تحت الحصار من قبل «إسرائيل» ومصر (حسني مبارك وعبدالفتاح السيسي).

وأعاد الربيع العربي، شيئا من الوهج لغزة بعد سقوط نظام مبارك في مصر، وتسلم الرئيس محمد مرسي رئاسة جمهورية مصر العربية، خصوصا مع فك الحصار، وزيارة التضامن التي قام بها رئيس وزراء مصر ووزير خارجية تونس للقطاع الذي شهد عام 2012 حرب إبادة شنتها تل أبيب للمرة الثالثة.

ماذا لو لم تكن غزة موجودة يوما ما!

تخيل لو أن غزة المقاومة الضاربة جذورها بالتاريخ والكرامة لم توجد أبدا في التاريخ والحاضر، واختفت من المستقبل، لو أن أمنية بن غوريون واسحق رابين وغولدا مائير تحققت وأفاق اليهود ذات صباح، وإذا بغزة غارقة بالبحر، كأن يدا لا مرئية انتزعتها من سكونها وضجيجها وحروبها وألقت بها في غيابت الجب، تماما كحال يوسف مع أخوته، هل كان تدفق الدماء والحجارة والبنادق والشهداء سينضب ويجف كنبع ضربته الريح العقيم وتحولت إلى رميم.

لنتخيل فلسطين من دون غزة، غزة بعنفوانها وضعفها، بقلقها وطيبة قلبها، أو غزة من دون فلسطين، فلسطين التاريخية أو حتى فلسطين القرار 242، مساحة شاسعة من الدم والشهداء، والأحلام الضائعة، والأمنيات التي لا تتحقق أبدا مثل بريد ضل عنوانه وطريقه فلا يصل أبدا، غزة تختصر فلسطين: جرح العرب النازف، حلمهم الضائع والمقتول برصاص العدو وبعض الأخوة الأعداء.

غزة مدينة لا تموت بمدافع ومجازر نتنياهو، ما يقتل غزة حقا تواطؤ وصمت أخوة الدم، العرب.
التعليقات (0)