مقالات مختارة

زعيم «العمال الكردستاني» على خطى الإسلام السياسي

محمد جول
1300x600
1300x600
كتب محمد جول: قبل قرن من الزمان تشتت الأمة الإسلامية وتناثرت إلى دول قومية عنصرية، وتعرض العالم الإسلامي إلى مجموعة من الحملات القومية العنصرية قادتها أحزاب راديكالية شوفينية، طغى عليها الفكر الشيوعي الماركسي، والتوجه اليساري الاشتراكي، وبالرغم من كونها كانت تحمل فكرا شيوعياً أممياً، إلا أنها في نظرتها إلى الفكر الديني العام والإسلامي بشكل خاص كانت تضعه في قائمة أسباب التخلف، بل وصل الأمر ببعض الأحزاب اليسارية والعلمانية المتشددة كحزب الشعب الجمهوري التركي إلى وصف القرآن الكريم بأنه كتاب متآكل لا قيمة علمية له على لسان أحد قياداته، ناهيك عن الاستهزاء بالشعائر الإسلامية وبرسول الإسلام في أغلب المناسبات.

هذا التصور الأيديولوجي المنغلق والمعادي للدين ولوحدة الأمة الإسلامية بقي مهيمناً على الساحة الفكرية في البلاد التركية والعربية والفارسية لعدة عقود من القرن العشرين الماضي، ولكن مع العقد السابع من القرن العشرين الماضي وقبيل انهيار الاتحاد السوفيتي ظهرت الصحوة الإسلامية العربية والتركية والكردية والأردية وغيرها.

وهذه الصحوة الإسلامية لم تكن ضد الدول القومية العنصرية فقط، ولا ضد الأيديولوجيات الشيوعية واليسارية، وإنما ضد الدول الدينية التي أرادت أن تسلب الإسلام والمسلمين القيم النبيلة من حرية وعدالة وديمقراطية وحكومات رشيدة، وضد الأحزاب السياسية التي أغلقت فكرها على المذاهب التاريخية والفرق الإسلامية المتناحرة، والتي تكفّر بعضها بعضاً، لذلك لم تكن مهمة الصحوة الإسلامية الحديثة سهلة، وتعثرت في الكثير من محطات عملها، ولكنها واصلت مسارها واستفادت من خبراتها، وصححت بعض أفكارها، فنشأت أحزاب جديدة مع بداية القرن الحادي والعشرين، كان في مقدمتها حزب العدالة والتنمية، الذي تأسس على أفكار إسلامية جديدة تنظر إلى الدولة التركية القومية على أنها عنصر قوة في الأمة الإسلامية، وإلى العلمانية على أنها منظمة لإدارة الدولة في تقسيم الحقوق والواجبات بالتساوي بين جميع أبناء الوطن الوحد، وتنظر إلى الديمقراطية على أنها حرية فردية وحرية اجتماعية وحرية سياسية، تجمع أبناء الوطن الواحد بعدالة.

هكذا كان حزب العدالة والتنمية كوليد لهذه الصحوة الإسلامية حزب الشعب التركي كله، بكل قومياته وتياراته السياسية ومذاهبه الدينية وإثنياته العرقية، وانعكس ذلك في كل الانتخابات التركية خلال العقد الماضي، فشاركت كل القوميات التركية الأناضولية والكردية والعربية وغيرها في انتخاب مرشحي حزب العدالة والتنمية في البلديات والبرلمان والرئاسة، لأن حزب العدالة والتنمية وضع نفسه على مسار الأمة الإسلامية التي تؤدي دورها التاريخي في خدمة الأمة والوحدة معها دون أن تفرض عليها الذوبان فيها، ولا التخلي عن لغتها وثقافتها الخاصة، عملاً بقوله تعالى:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (صدق الله العظيم).

هذا النجاح لحزب العدالة والتنمية التركي فتح باب التصحيح والتصويب لعمل الأحزاب القومية الأخرى والتي سعت إلى تغيير نظرتها إلى الإسلام، من دين كان يوصف بأنه أفيون الشعوب على الطريقة الماركسية، إلى قوة حيوية محركة لنهضة الشعوب نحو الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وكان طبيعياً أن تكون الأحزاب العربية من أوائل الأحزاب التي تطلعت للاستفادة من التجربة النهضوية التي قام بها حزب العدالة والتنمية في تركيا، وبالرغم من محاولات القوى المعارضة للتغيير الإيجابي في الوطن العربي، وبالرغم من انقلاب بعض العسكر على الديمقراطية الإسلامية التي نشأت في مصر، إلا أن الأحزاب المصرية والتونسية والليبية واليمنية وغيرها سائرة في طريقها إلى الديمقراطية والتغيير السلمي، لأنها تعلم أن الانقلابات العسكرية التي عرفتها تركيا والتي أعاقت طويلا المسار الديمقراطي قد خسرت في النهاية معركتها أمام الإرادة الشعبية.

إن تغير الخارطة السياسية في العالم الإسلامي انعكس أيضا على الأحزاب القومية الكردية التي بدأت ترسم خطاها الواثقة في فهم الإسلام فهماً إيجابياً يحقق وحدتها مع الأمة الإسلامية العميقة، ويحافظ على الأمة الكردية في أبعادها الإيجابية دون عنصرية ولا شوفينية، تجسد ذلك في المؤتمر الذي قادته أحزاب كردية قومية لبعث أمة كردية موحدة هي جزء من الأمة الإسلامية العميقة، وقد تجسد ذلك بانطلاق مؤتمر إسلامي ديمقراطي دولي، في مدينة ديار بكر التركية، تحت عنوان «المؤتمر الديمقراطي الإسلامي»، وجاء المؤتمر بدعوة وتنظيم من حزب المجتمع الديمقراطي الكردي الذراع السياسي لحزب العمال الكردستاني، وعقد في يومي العاشر والحادي عشر من شهر أيار/ مايو 2014. 

وقد أشار المنظمون إلى أن فكرة المؤتمر هي مناقشة بعض الشعارات التي رفعها الإسلام ودعا إليها مثل العدالة والحرية، لكن الهدف الأول للمؤتمر هو طرح استراتيجية جديدة لحزبي السلام والديمقراطية وحزب المجتمع الديمقراطي اللذين توحدا مؤخرًا في محاولة لكسب الناخب الكردي، الذي كان قد أدلى بصوته بكثافة لحزب «العدالة والتنمية» في مناطق جنوب شرق تركيا.

وتمخض عن هذا المؤتمر بيان ختامي متميز في رقي أفكاره، يحول توجهات الأحزاب الكردية التي كانت تتناثرها الأفكار اليسارية والشيوعية والعلمانية والليبرالية السلبية، وقد جاء فيه أن الأحزاب المشاركة في المؤتمر سوف تتصدى لكل التجاوزات التي تحدث باسم الإسلام، واستنكر أكثر من 350 عالم ومفكر كردي وتركي شاركوا في المؤتمر الإعدامات التي ينفذها النظام الإيراني والمصري، وبقدر ما جاء المؤتمر ملفتاً للنظر بسبب تطور الفكر الإسلامي المعاصر بين أبناء القومية الكردية، إلا أن المفاجأة الكبرى كانت رسالة التأييد التي تلقاها المؤتمر من زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله اوجلان من سجنه في جزيرة ايمرالي، وهو الذي دعا في تشرين الأول المنصرم إلى تنظيم حوار من هذا النوع بعد الانفتاح والمحادثات مع حكومة العدالة والتنمية، وأراد أوجلان لهذا اللقاء أن يكون على نسق «شورى المدينة» الذي عقد في عهد الرسول الكريم ويكون ملائمًا لدعوات القيادات الروحية الكردية وفي مقدمتها الشيخ سعيد الشخصية الكردية التاريخية.

جاء في كلمته: «هناك تغييرات كبيرة تجري في المراكز الأساسية للإسلام، حيث يتم التمرد على الإسلام وخيانته في هذه المرحلة، وإذا كان استخدام مفاهيم من قبيل “كردستان” و”الديمقراطية” يعتبر من الأخطاء والنواقص، وسيفتح الطرق أمام أخطاء أخرى، فإنني ولكي أسد الطريق أمام ارتكاب المزيد من الأخطاء الكبرى، وأفتح الطريق أمام الحقائق الجوهرية لم ولن أتردد في استخدام هذين المصطلحين، إن عقلية السلطة التي مارستها السلفية وإيران الشيعية واللتين تمثلان المركزين الأساسيين للإسلام من خلال ذهنية الدولة القومية، قد ألحقت ضرراً كبيراً بالإسلام، وفي مواجهة ذلك فإنني أعتبر أن تصعيد النضال عبر مفاهيم الديمقراطية والشعب، واجب يعبر عن ارتباطي بالجوهر الحقيقي للدين، كما أنني أعتبر أن التصدي لمراكز سلطة الدولة القومية من خلال الإسلام الديمقراطي، الأخلاقي، هو المهمة الرئيسية لهذا المؤتمر، وعلى هذا الأساس أحيي مؤتمركم.

إن مركزي السلطة الذي نتحدث عنهما قد تطورا بتطور ذهنية الدولة القومية الإمبريالية والرأسمالية، حيث تم استخدام هذين المركزين مع انهيار سلطة الإمبراطورية العثمانية، وبشكل خاص من قبل إمبراطورية إنكلترا التي ظهرت كقوة استعمارية جديدة في العالم، وما زالت هذه المراكز تستخدم هذه المفاهيم، حيث تم استغلال جراثيم العنصرية الموجودة في المركزين ضد جوهر الدين الإسلامي.

وفي مرحلة بناء الدولة القومية استخدمت مفاهيم الرأسمالية والإمبريالية، وفرضت على شعوبها كل أساليب الظلم والاضطهاد، لذلك فإن ذهنية الأمة الإسلامية تنسجم مع جوهر الدولة القومية، كما أن الإمبراطورية البريطانية عملت على تطوير الدولة القومية بهدف تشتيت الأمة الإسلامية، وعملت على تشجيع الإيدلوجية القومية، واستطاعت أن تنشر هذا المفهوم ليتغلغل في عقل ورحم الأمة الإسلامية. وفي الـ 200 سنة الأخيرة قاموا بتخريب وتحطيم كل قيم الشعوب المسلمة في موطن المسلمين ومهد الإسلام».

وأضاف: «إن الإسلام يمثل الآن آخر الأديان الكونية في العالم، وقد اكتسب صفة عالمية، سواء من حيث اللغة أو من حيث الفلسفة. وهذه حقيقة واضحة. أما الجانب الفلسفي الأهم برأيي فهو وحدانية الإسلام، وكونية الإسلام تستمد قوتها من وحدانية الله. ومن وجهة نظر علمية أقول إنه يجب العمل على تحقيق الحرية والعدالة من خلال تطبيق المبادئ العامة في الممارسة العملية. وكذلك يجب أن نحقق ذلك بشكل فعلي في جميع مجالات الحياة وفي المجتمعات البشرية، بشكل عادل وبما يتوافق مع كونية وعالمية الإسلام».

وأضاف أوجلان: «إن حركة حرية كردستان لن تنجر أبداً إلى أخطاء القوميين العنصريين، العلمانيين، المتسلطين، ولا حتى الذين يسمون أنفسهم بالإسلام الراديكالي، كما أنها ستتصدى لهم. وأنا على ثقة بأن حركة الحرية التي تمثلونها سوف تتصدى للعنصرية القومية، الجنسية والسلطة الذكورية الرأسمالية التي تظهر باسم العولمة، وإن هذه الحركة سوف تمثل الديمقراطية الحقيقة الحرة. إني أعتبر أن الدعوة إلى «اتحاد الأمم» مهمة جدا، لكن هذا لا يعني أبداً مفهوم الدولة الواحدة، والشعب الواحد والعلم الواحد، بل على العكس من ذلك فما أعنيه هو ما جاء تماماً في الآية الكريمة “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” إن هذه الآية تعبر عن المساواة والحرية والديمقراطية، وتعبر كذلك عن اتحاد جميع الشعوب. ما أتمناه هو أن يعمل مؤتمركم على تقوية وحدة الشعوب وإيجاد حلول ناجعة لقضايا التحزب والمذهبية والفردية.

إن حركتنا لا تعمل على خنق العلمانية المدنية في الإيديولوجية الغربية. وباعتقادي أنه من الخطأ أن يربط الإسلام نفسه بالعلمانية، إن مثل هذا العمل سوف يؤدي إلى تشويه جميع جوانب الحياة في الإسلام. كما أن تمثيل الإسلام عبر ارتداء نمط معين من اللباس لا يعبر سوى عن وجهة نظر سلبية وخاطئة. وإذا كان لا بد من تعريف شكل يومي للإسلام فإنه يجب أن يكون من خلال ثقافة الإسلام.

يجب أن لا ننسى أن شروط وأشكال العبادة التي تتم الآن بعيدة كلياً عن مبادئ الإسلام الأساسية، فالكلمة الأولى في القرآن الكريم كانت «إقْرَأْ» وهذا يعني المعرفة والفهم، وهذا هو الأساس ويمكن إسقاطه بشكل سلس على واقعنا الراهن.

يجب تعريف الحقيقة الاجتماعية والتاريخية للإسلام، ومبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والشورى التي تعني النقد والنقد الذاتي. وبمعنى آخر تعريف الإسلام الحقيقي بأنه النضال الروحي الداخلي ضد قوى الشر الخارجية، وفق هذه التوضيحات العامة التي ذكرتها، من المهم أن يحقق مؤتمركم نتائج إيجابية، ومن المهم جداً الاستمرار عبر بناء المؤسسات. هذه مهمة كبيرة ملقاة على عاتقنا، وكما في كل دول العالم فإننا بحاجة إلى مؤسسة إسلامية دائمة. من أجل تجاوز الجماعات السلطوية، الشيعية والسلفية التي لم تستطع إنقاذ نفسها من الرأسمالية العالمية، فإننا بحاجة إلى مؤسسة إسلامية جديدة، وهذا الأمر ضروري.

إن النجاح الأكبر هو الوصول إلى منبع الإيمان وتحقيق نموذج جديد لشخصية لصلاح الدين الأيوبي العصرية، وشخصية الحسين رضي الله عنه العصرية. ومن هنا أتوجه إليكم جميعاً للنضال والمشاركة. باسم الله العادل الذي يدعو إلى الوحدة، أدعوكم لمزيد من الثقة من أجل تحقيق الوحدة. ومرة أخرى أحيي مؤتمركم».

إن قراءة متأنية للأفكار التي تناولها «مؤتمر الإسلام الديمقراطي»، والأفكار التي جاءت في رسالة زعيم حزب العمال الكردستاني، تظهر التطور الحاصل في الفكر الإسلامي العام، وتشير أن الأمة العميقة تبعث من جديد، وأنها سوف تصل إلى تحقيق كل هذه الأهداف التي تناولها المؤتمر لأنها منبثقة عن وعي فكري قومي إيجابي، وعن تصور وقناعة عقلية، وإرادة حرة للشعوب والقوميات الإسلامية.

(القدس العربي)
التعليقات (0)