مقالات مختارة

جنوب السودان: الانفصال لم يصنع وفاقاً وطنياً

عبد الوهاب بدرخان
1300x600
1300x600
انفجر الصراع على السلطة في دولة جنوب السودان، هذا منطقي وطبيعي ومتوقع، في نظر البعض، بل هذا يعني أن حرب الجنوب - الشمال ولّدت حرباً بين الجنوبيين، في نظر فريق آخر. فالدولة جديدة، لم تبلور هويتها بعد، ولا تزال تبحث عن صيغة حكم تضمن وجود جميع المكوّنات ومشاركتها ومكاسبها. 

لم يوضح الدستور هذه المعالم، ربما لأنه نص عام ومستقبلي يفترض انصهار الجميع في واقع وطني واحد، غير أن الواقع الراهن ينطوي على معطيات لا تزال متأثرة بالتكوين الاجتماعي الموروث من جهة، وبتداعيات الانفصال عن الشمال وما بعده من جهة أخرى.

مع الانفصال بقيت حلقتان مفقودتين يمكن وصفهما بأنهما نفيان لم يصنعا بعد حالاً إيجابية، أو إيجابيتين تحوّلتا إلى نفيَين بسبب عدم الاعتراف بهما وعدم التعامل معهما. ولذلك فهما تتحكّمان الآن بتأسيس الدولة وستتحكّمان بنشأتها لزمن طويل مقبل. 

الأولى تتعلق بالروابط بين الشمال والجنوب، سواء أكانت اجتماعية إنسانية أو مصالح اقتصادية ونزاعات جدودية، إذ كان ينبغي حلّها بالتراضي طالما أن الانفصال نفسه تمّ وفقاً لاتفاقات موقّعة بعد التفاوض عليها، وقد برهنت الوقائع خلال العامين الأخيرين وقبلهما فشل الطرفين في جعل الانفصال نهايةً فعلية للحرب ومشروعاً للتعاون على أساس احترام السيادة وعدم التدخّل في شؤون الآخر، بدليل تجدّد القتال بينهما رغم علمهما أنه لن يحلّ المشاكل العالقة.

أما الحلقة الأخرى فترتبط ببناء الدولة والحكم في الجنوب على حقائق المجتمع وعلى أسس موثّقة، لا على تفاهمات بين أشخاص لا بدّ أن تنهار عند أول خلاف بينهم،

 فالصيغة الديمقراطية المعروفة لدى الدول المتقدّمة لم يدركها أصحابها بين يوم وليلة، وهي خضعت في تخلّقها لمراحل من الصراعات قبل أن تبلغ الاستقرار. 

ولعل الوصفة الصائبة لجنوب السودان هي التوافق القبلي الذي بدا أنه روعي في تركيب الحكم الأول بعد الاستقلال، عبر تقديم أقطاب القبيلتين الكبريين الدينكا والنوير وإشراك الثالثة الشلك، ثم إن الغلاف الحزبي لهذه الصيغة تحت راية «الحركة الشعبية لتحرير السودان» كان يمكن أن يساعد في تذويب التناقضات وتغليب المعادلات السياسية التي تؤطر النخب وفقاً للكفاءة والخبرة على المعادلات القبلية التي تؤثِر التحاصص والتقاسم ضماناً للعدل والإنصاف. 

غير أن أداء المسارين السياسي - الحزبي والقبلي لم يصل إلى حال انسجام، إمّا سبب طبيعة الأشخاص وتنافسهم وصداقاتهم أو عداواتهم الموروثة من حقبة «حرب التحرير» أو لأن الحكم تلكأ في الاهتمام بالوضع الداخلي متفرغاً لاستكمال الحرب التي أصبحت مع عدو خارجي ولم تعد بين حكومة ومتمرّدين.

في أي حال، لا سلفاكير ميارديت الدينكوي ولا رياك مشار النويري ولا باقان أموم معروفون بكونهم من رموز الديمقراطية أو حتى من المؤمنين بالصراع السياسي المحض. 

فهم مع رفاقهم جاؤوا من تجربة عسكرية، ولا يزالون فيها، بمن فيهم مَن لم يكونوا عسكريين محترفين. وعندما اندلعت الاشتباكات الأسبوع الماضي في صفوف الحرس الجمهوري أولاً، قبل انتقالها، إلى المناطق المدنية، تذكر الجميع أحداث 1991 التي سقط فيها مئات القتلى بين مقاتلي التمرّد وأدّت إلى انشقاق مشار ولجوئه مع مقاتليه إلى الخرطوم. 

فقد ظهّرت تلك الواقعة المبكرة أن حتى «معركة المصير الواحد» لم تقلّص التناقض القبلي، بل أشعرت جماعة النوير بأن الدينكا يريدون الاستئثار بالسلاح والمال والعلاقة مع الغرب ليستأثروا بعدئذ بحكم البلاد متى انفصلت. 

مع ذلك كانت الفرصة سانحة أمام سلفاكير ليثبت نفسه حاكماً للجميع وليس ممثلاً لقبيلته، لكن ربما كان هذا الدور يتطلّب زعامة كالتي جسّدها جون قرنق في حين أن زعامة سلفاكير لا تزال متأثرة بكونها جاءت بالصدفة، بعد مقتل قرنق.

لا شك أن الطابع الشخصي الانفرادي لسلطة سلفاكير، فضلاً عن اعتماده على القبيلة، جعلاه يفكّر بمصلحة حكمه وبمستقبله في الحكم، خصوصاً أن ثمة انتخابات في السنة 2015. لذلك تجاوز مشاعر النفور التي تميّز بها إزاء الخرطوم ومال إلى تسويات معها بغية حل النزاعات المستجدّة وإتاحة الفرصة لإنهاض الاقتصاد الجنوبي. لذلك، أيضاً، قرر في يوليو الماضي التخلص من مجموعة اعتنقت التشدد ضد الخرطوم وقدمت دعماً لمناوئي حكم عمر البشير، فكانت إقالة مشار من منصب نائب الرئيس وكذلك عزل أموم من الأمانة العامة لـ «الحركة»، الحزب الحاكم وإبعاد آخرين. 

غير أن قراراً كهذا كان يستدعي بديهياً البحث عن توازن آخر داخل تركيبة السلطة، طالما أن تجاوز التوافق القبلي غير متاح، وهو ما لم يهتمّ سلفاكير به، فكان أن ارتسمت خريطة الانقسام الشعبي مجدداً وليس بين الدينكا والنوير فحسب، إذ أن قبائل عدة صغيرة شعرت بأنها مهمّشة ومستبعدة فاستخدمت سلاحها لإثبات وجودها.

في غضون ساعات، وبعدها راح الجنود في أحياء جوبا يستهدفون الناس على الهوية الأتنية، وكذلك فعل جنود النوير في بور، ارتسمت أيضاً خريطة حرب أهلية وبدأ سعي حثيث ومحموم إلى الإسقاط العسكري للمناطق، ما جعل القبائل الأخرى تحت ضغوط الاستقطاب بين القبيلتين الكبريين. 

ومن شأن ذلك أن يعقّد مهمة الوساطة الإفريقية التي طلبتها الأمم المتحدة، ذاك أن الوفاق الذي ينشده الوسطاء لا بدّ أن يكون أولاً بين سلفاكير ومشار، كممثلين لقبيلتيهما، لكن الرجلين وضعا نفسيهما في مسار يلغي أحدهما الآخر لكن الأول لا يزال ممثلاً للدولة الناشئة والرئيس المعترف به دولياً، أما الآخر فلا يتمتع حالياً بأكثر من «شرعيته» القبلية. ثمة حاجة إلى مؤتمر وطني يؤسس لوفاق قبلي يمهّد بدوره لوفاق سياسي.

(الحياة)
0
التعليقات (0)