مقالات مختارة

براميلا باتن… عندما يتحول المسؤول الدولي إلى سلعة

عبد الحميد صيام
اعترفت باتن بأنها لم تلق أيا من "الضحايا" المفترضات
اعترفت باتن بأنها لم تلق أيا من "الضحايا" المفترضات
مسؤولان دوليان هرعا لزيارة الكيان الصهيوني، بناء على دعوات تلقياها من الدولة أو المجتمع المدني المرتبط بمدار الدولة: كريم خان المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، وبراميلا باتن الممثلة الخاصة للأمين العام المعنية بالانتهاكات الجنسية في الصراعات. وهي موضوع هذا المقال. الأول قضى ثلاثة أيام وقال في «حماس» ما لم يقله في النازية، وقام بزيارة قصيرة إلى رام الله للقاء بعض المسؤولين (لا أهالي الضحايا). والثانية قضت أسبوعين ونصف الأسبوع في الكيان وزيارتين قصيرتين لرام الله لدرء الذرائع. كلاهما لم يزر غزة ليرى ما يجري على الأرض، وكلاهما لم يتكلم عن المجازر أو استهداف المستشفيات وتدمير الجامعات والمساجد والكنائس ودور الإيواء، إلا عبر كلمات عابرة حول ضرورة حماية المدنيين، ولا نعرف لم يوجه الكلام عند الحديث عن حماية المدنيين واحترام القانون الدولي الإنساني.

إذن لبت باتن دعوة من الحكومة الإسرائيلية، ومعها فريق من الخبراء التقنيين لا نعرف كيف تم اختيارهم، وانحصر اهتمامها بما قامت به حركات المقاومة يوم 7 أكتوبر 2023.. وصلت هي والفريق يوم 29 يناير وغادرت يوم 14 فبراير، والهدف كما قالت نصا في تقريرها: «لجمع وتحليل والتحقق من ادعاءات بوقوع عنف جنسي مرتبط بالصراع، أثناء الهجمات الوحشية التي قادتها حماس في 7 أكتوبر، وما بعدها». ومع أنها ذكرت هنا كلمة التحقق، إلا أنها أصرت مرارا وتكرارا في مؤتمرها الصحافي يوم الإثنين 4 مارس وأمام مجلس الأمن في الجلسة التي خصصت لمناقشة تقريرها يوم 11 مارس، أن مهمة الفريق لم تكن للتحقيق في الادعاءات. فكيف ستتحقق دون تحقيق؟

قام الفريق بزيارة قصيرة مجاملة لرام الله، للتواصل مع السلطة الفلسطينية ولقاء بعض المحتجزين المُفرج عنهم والمجتمع المدني. لكن الإقامة والترتيبات والزيارات والأنشطة واللقاءات جميعها جرت داخل الكيان ومع المسؤولين. لم يطلب الفريق زيارة قطاع غزة الذي تعمل فيه جهات أممية أخرى، بما فيها تلك التي ترصد وتعالج العنف الجنسي والعنف القائم على نوع الجنس. ولكن باتن لم تتردد في التوصل إلى القول «إنني توصلت إلى قناعة بأن العنف الجنسي ما زال يرتكب ضد الرهائن في قطاع غزة». وأكاد أجزم أن هذا القول كتب لها حرفيا أو أضيف إلى التقرير، أليس غريبا على سفير الكيان جلعاد إردان، في الخطاب الذي ألقاه في الجمعية العامة يوم الإثنين 4 مارس أن يتهم الأمم المتحدة بالتعاون مع الإرهاب في قطاع غزة، ويصنف الأونروا بأنها منظمة إرهابية، إلا أنه أطرى على تقرير باتن وطلب من الدول الأعضاء قراءة التقرير والتأكد من قيام عناصر حماس باغتصاب الرهائن». وقالت باتن في مؤتمرها الصحافي لدى معاينتها لأهداف مدنية وعسكرية بأنحاء غلاف غزة، «لقد وجد فريق البعثة أسبابا معقولة للاعتقاد بأن عنفا جنسيا مرتبطا بالصراع وقع في عدة مواقع أثناء هجمات 7 أكتوبر، بما فيه اغتصاب واغتصاب جماعي في 3 مواقع على الأقل هي: موقع مهرجان نوفا الموسيقي والمنطقة المحيطة به، وطريق 232، وكيبوتز رئيم». والمجموع خمس حالات فقط على فرض أنها صحيحة. إذن ليس كما تدعي إسرائيل أن العنف الجنسي ارتكب بشكل واسع شمل الآلاف.

أكدت باتن أنها لم تلتق بأي من الضحايا، كما ورد في بيانها في مجلس الأمن: «رغم تواصلنا وجهودنا الاستباقية، إلا أننا لم نلتق بأي من الناجين من العنف الجنسي المرتكب أثناء هجمات 7 أكتوبر نفسها». والسؤال هل من المنطق ألا تستطيع أن تلتقي ولو بضحية واحدة من ضحايا العنف الجنسي بعد أربعة شهور من الحادث؟ وهل التبرير الذي طرح، العلاج النفسي، مقبول ويشمل جميع الضحايا بلا استثناء؟ وقالت إنها التقت بأطراف حكومية تحدثوا لها عن المئات، إن لم يكن الآلاف، من حالات «العنف الجنسي الوحشي المرتكب ضد الرجال والنساء والأطفال»، لكنها أضافت: «لم أجد شيئا من هذا القبيل»، أي لكثرة مبالغة المصادر الحكومية بتقديم معلومات حول آلاف حالات الاغتصاب لم تجد شيئا من هذا القبيل. ومن بين الذين التقت بهم الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، الذي أطرى على التقرير في بيان صحافي، يوم 4 مارس، قائلا: «إن التقرير الذي أصدرته براميلا باتن، وفريقها ذو أهمية كبيرة. فهو يؤيد بوضوح أخلاقي ونزاهة القمع المنهجي والجرائم الجنسية المتعمدة والمستمرة التي يرتكبها إرهابيو حماس ضد النساء الإسرائيليات». كما التقت بوزير خارجية الكيان يسرائيل كاتس، الذي مدح التقرير وشارك في جلسة مجلس الأمن التي ناقشت التقرير مصحوبا بمن قال إنهم من عائلات المخطوفين. ووفقا للتقرير، فقد اعتمد الفريق أساسا على المعلومات التي زودتها لهم الحكومة الإسرائيلية وتشمل 5000 صورة وحوالي 50 ساعة من لقطات الفيديو والتسجيلات الصوتية للهجمات، بالإضافة إلى المعلومات الإضافية التي قدمتها الحكومة الإسرائيلية، ومصادر مستقلة ومواد مفتوحة المصدر. ومع ذلك، أكدت باتن أن «المعلومات» ليست «أدلة» يمكن استخدامها، على سبيل المثال، في محكمة قانونية». هل من أحد يستطيع أن يحل التناقض هنا. ويضيف التقرير أن فريق باتن عقد أيضا 33 اجتماعا مع المؤسسات الإسرائيلية، بما في ذلك الوزارات الحكومية، وقوات الدفاع الإسرائيلية، وجهاز الشاباك. وتتمادى باتن فتتوصل إلى نتائج، دون أي مصدر حول الرهائن الذين تحتجزهم حماس في غزة. جاء في التقرير، أن الفريق جمع «معلومات واضحة ومقنعة» مفادها أنه أثناء وجودهم في الأسر، تعرض بعض الرهائن للتعذيب الجنسي، بما في ذلك الاغتصاب». وأضاف التقرير أن هناك «أسبابا معقولة «للاعتقاد بأن مثل هذا العنف قد يكون مستمراً». فكيف لنا أن نقبل مثل هذا الاستنتاج غير الموثق، حيث لم يزر الفريق غزة ولم يلتق بأي مسؤول فلسطيني من غزة. ثم ما هي «الأسباب المعقولة»، وهل ما هو معقول بالنسبة لباتن معقول لغيرها؟ ولمزيد من التشويه وإصباغ الهمجية على الفلسطينيين، ادعت باتن أن معظم الذين تعرضن للاغتصاب قُتلن بعد ذلك، وأن حادثتين على الأقل تتعلقان باغتصاب جثث نساء». ثم تعود لتناقض نفسها وتقول: «يرى الفريق أن معرفة حقيقة انتشار العنف الجنسي أثناء هجمات 7 أكتوبر وما بعدها، قد تستغرق شهورا، أو سنوات، وقد لا تُعرف بشكل كامل». أي أنها تردد ما روي لها فتنشره ثم تعود وتقول، ولكن التحقيق الموضوعي والفني والمهني هو الذي سيثبت ذلك. إذن ما هدف الزيارة القصيرة والتقرير المقتضب إلا إعطاء مصداقية دولية للرواية الإسرائيلية؟

اللغة تتغير تماما عندما تتحدث عن الضفة الغربية ولقاءاتها: «في الضفة الغربية استمع الفريق إلى وجهات نظر ومخاوف مسؤولين فلسطينيين وممثلين عن المجتمع المدني بشأن ادعاءات ارتكاب عنف جنسي، مرتبط بالصراع في أعقاب 7 أكتوبر، يُزعم تورط قوات الأمن الإسرائيلية ومستوطنين فيه». نلاحظ هنا الحذر: فالهدف من الزيارة الاستماع إلى وجهات نظر ومخاوف وادعاءات بارتكاب عنف جنسي «يزعم» تورط قوات إسرائيلية ومستوطنين فيه. إذن هي ادعاءات ومزاعم. أما من الجانب الآخر فهي توصلت إلى حقائق وتحققت واستنتجت أن الانتهاكات والاغتصاب والقتل قد حصل. ورغم الطبيعة الاستقصائية لزيارتها مع فريقها من خبراء الأمم المتحدة، بمن في ذلك متخصصون في الطب الشرعي وحقوق الإنسان، قالت باتن: «لم نقم بإجراء تحقيق، لأننا لا نملك تفويضا للقيام بذلك. فهذا الدور يقع على عاتق مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، ولجنة التحقيق التابعة لها بشأن إسرائيل وفلسطين». وعندما سئلت وهل تسمح إسرائيل لفريق التحقيق المستقل برئاسة نافي بيلاي بالدخول إلى البلاد للتحقيق، قالت إنها تتمنى على إسرائيل أن تسمح للفريق بالدخول بحرية والتحقيق.

رفضت باتن في مؤتمرها الصحافي أن تجيب عن الأسئلة المتعلقة بالنساء اللواتي قابلتهن، وما إذا التقت بالأسيرات اللواتي امتدحن حسن المعاملة من رجال المقاومة ووعدوا أن يحموهن بأجسادهم في حال الخطر. هل اجتمعت مع التي أطلق سراحها وخرجت وهي تحمل كلبها بين يديها، ومع تلك التي خرجت والمياه المعدنية في يديها وغيرهن الكثير. الكيان الصهيوني متمرس في خلق معارك جانبية للتغطية على الموضوع الرئيسي. وقد خلق معركتين متزامنتين مع مواصلة حرب الإبادة: اتهام 12 موظفا من الأونروا بالمشاركة في هجمات 7 أكتوبر، وحكاية الاعتداءات الجنسية. كلا الموضوعين أثار زوبعة كبيرة بدعم مريب من الدول ذاتها التي تمده بالسلاح والمال، ولكن الروايات المزورة بدأت تتهاوى ويتكشف زيفها. الشيء المؤسف والمثير للحنق أن يتحول مسؤول دولي إلى بوق للرواية الإسرائيلية دون تمحيص أو تحقيق.

(القدس العربي)
التعليقات (0)

خبر عاجل