قضايا وآراء

مسلسل الحشاشين والعامية المصرية

عصام تليمة
اللافت للنظر في هذه الدراما، أنها أتت بلغة غير لغة هذا الزمن، فجاءت بالعامية المصرية، وهو أمر ملاحظ ومستغرب- (وسائل تواصل اجتماعي)
اللافت للنظر في هذه الدراما، أنها أتت بلغة غير لغة هذا الزمن، فجاءت بالعامية المصرية، وهو أمر ملاحظ ومستغرب- (وسائل تواصل اجتماعي)
تنشط الدراما المصرية في شهر رمضان تحديدا، ويكون موسما وفرصة لعرض الأعمال الدرامية والتاريخية، ومنذ فترة بعيدة لم تتناول القنوات المصرية أعمالا دينية، سواء متعلقة بالتاريخ العام، أو التاريخ الإسلامي، وهو ما كان ملاحظا منذ فترة، أن شهر رمضان الذي كانت فيه المسلسلات الدينية ثابتا من ثوابته، حتى أصبحت معدومة، ولا وجود لها تماما منذ سنوات تزيد عن العشر.

ولأن الإنتاج الفني في مصر أصبحت تحتكره شركة واحدة، تديرها المخابرات المصرية، كي يقع كل عمل فني تحت رقابتها، واختيارها، وهي شركة المتحدة، فأصبح رمضان لا يخلو من عمل فني، يخدم السلطة، ولو من باب الإسقاط، ومن ذلك ما قامت شركة المتحدة بإنتاجه وبثه في رمضان، لمسلسل يحمل عنوان: (الحشاشين)، وهو يتكلم عن فرقة الحشاشين المعروفة تاريخيا، وهي فرقة منبثقة عن الشيعة، وبخاصة الشيعة النزارية، ولها تاريخ معروف، حيث تنتمي للفكر الباطني.

حتى الآن في الحلقات التي تم عرضها، لم تبرز بوضوح أهم الإسقاطات التي تريدها السلطة على معارضيها، فأفكار الجماعة الباطنية: الحشاشين، كانت معروفة بعدائها لأهل السنة في زمانهم، وجرى بينهم وعلماء السنة نقاشات طويلة، كان على رأسهم: الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله، فكتب كتابه: فضائح الباطنية، عنهم وعمن يعتنقون أفكارهم، أو يقتربون منها.

لكن اللافت للنظر في هذه الدراما، أنها أتت بلغة غير لغة هذا الزمن، فجاءت بالعامية المصرية، وهو أمر ملاحظ ومستغرب، بل مستهجن، فهو لا يخلو من دلالة التحريف لما سيكون في العمل من حيث التاريخ، فإذا غير الكاتب ـ أو القائمون على العمل ـ أهم محور جوهري في الحدث، وهو لغته، إلى لغة تتعلق بالقطرية والمحلية الخاصة، فهو لا يخلو من غرض، يخرج به عن حقيقته.

ومهما كانت المبررات بأنه أقرب لفهم الجمهور، أو أي حجة أخرى، فهو كلام لا يصح علميا ولا تاريخيا، وهذه المخالفة أصبحت سمة في عدد من الأعمال السينيمائية في مصر، وبخاصة في أفلام يوسف شاهين، فرغم تناوله لأحداث تاريخية كانت لغتها الفصحى، إلا أنه حرف فيها تاريخيا، ولغويا.

فمن ذلك: فيلمه عن (الناصر صلاح الدين)، وصلاح الدين وزمنه، كان زمن اللغة العربية الفصحى، بدون أدنى شك، فإذ به يجعل الحوار بلغة عامية، وأحيانا بعض عبارات فصحى، وأحيانا كلمات مشكلة بين الفصحى والعامية، فيما يطلق عليه بعض المعاصرين: الفصعمية، أي: الجمع بين العامية والفصحى.

كان الانزعاج من دخول خط العامية على الدراما التاريخية والدينية، ليس فقط من باب تزييف التاريخ، ولا من طمس معالمه، ولا من تجريفه، بل لأن اللغة العربية هي المستهدف الرئيس وراء ذلك
وأيضا عندما أنتج فيلما بعنوان: (المصير)، عن حياة الفيلسوف الأندلسي ابن رشد، وابن رشد كان قاضي القضاة، وأحد أهم شيوخ المذهب المالكي في زمانه، وأحد أشهر فلاسفة الإسلام، وصاحب أهم كتاب في الفقه المقارن، وفلسفة الفقه، والاختلاف الفقهي بين المذاهب الفقهية، أي: أن لغة الرجل الفصحى من أعلى درجات التمكن منها، فعندما يذهب يوسف شاهين لاعتماد العامية المصرية، رغم أن معظم الممثلين المشاركين في العمل، يمكنهم أداء الدور بالفصحى، فقد كان بطل الفيلم: الفنان نور الشريف، وهو فنان مسرحي كبير، عرفت عنه أدوار مهمة بالفصحى، سواء دينية، أو تراثية.

وقد جرت الدعوة للعامية بديلا عن الفصحى في مصر، في القرن العشرين، وزادت نغمة الدعوة إليها، في الوقت الذي كانت تنطلق دعوات مماثلة، تدعو لعودة اللغة القبطية، والتي اندثرت من مصر ولم يبق منها إلا التقويم القبطي المرتبط بالزراعة في مصر، وخرجت دعوات أخرى مماثلة عن العودة للفرعونية، في مخطط لا يخفى أهدافه، من حصار لغة القرآن الكريم وإضعافها.

ورأينا ذلك في رموز الأرثوذكسية في مصر، كالبابا شنودة، والبابا تواضروس، ففي خطاباتهم العامة والخاصة، يجري الحديث بالعامية، وكان ذلك يجري عن عمد من شنودة، رغم قدرته على الحديث بالفصحى، فكثيرا ما أعلن عن نفسه، بأنه يقرض الشعر، ويحفظ ألفي بيت من الشعر، ومع ذلك نراه مصرا على الحديث بالعامية، في دلالة كانت تلاحظ من الكثيرين من الراصدين لحركة انتشار العامية.

وهو أمر ملاحظ كذلك عندما تجري المقارنة بين رموز المسيحية ومثقفيها في مصر، ورموزها ومثقفيها في الشام مثلا، ستجد أن الأرثوذوكس المصريين في القرن العشرين ـ إلا قليلا منهم ـ لم يقدموا خدمات للغة العربية وتراثها كما قدم الشوام، إلا في حالات محدودة.

وما نراه من العامية التي تقحم في مجال الدراما الدينية والتاريخية، ليس إلا سيرا على هذه الخطى، التي نراها تؤتي أثرها وأكلها السيء في ثقافتنا في مصر، فنرى ضعفا بارزا وواضحا في الإلمام باللغة، وذلك على مستويات عدة، بدأ من التركيز على المدارس الدولية، والتي تكون فيها اللغة العربية لغة هامشية، لا قيمة لها، ونرى طلاب هذه المدارس في ثقافتهم، وقراءتهم ـ لمن يقرأ ـ جلها محصورة في اللغة الإنجليزية، أو اللغات الأجنبية بوجه عام.

ولذا كان الانزعاج من دخول خط العامية على الدراما التاريخية والدينية، ليس فقط من باب تزييف التاريخ، ولا من طمس معالمه، ولا من تجريفه، بل لأن اللغة العربية هي المستهدف الرئيس وراء ذلك، وبالنظر لكل هذه المراحل من التهميش لهذه اللغة وإضعافها، لا ينظر بحال من الأحوال لهذا التعمد لفرض العامية بديلا عن الفصحى في أعمال كان واقعها الفصحى، سوى خطوة تكمل الخطوات السابقة في استهداف لغة العرب.

فإن فصل الناس عن لغتهم التي نزل بها القرآن، هو فصل بالتدريج عن فهمه، وعن استيعابه، وخروج أجيال غريبة عن القرآن والسنة ولغتهما، فضلا عن التراث العربي، في بلد فيه مجمع لغوي من أقدم مجامع اللغة العربية، وأنشطها على مستوى بلاد العرب، والناطقين بها.

[email protected]
التعليقات (0)