قضايا وآراء

الحرب على غزة وخرافة القانون الدولي الإنساني

امحمد مالكي
استهداف الطواقم الطبية هو جريمة حرب بموجب القانون الدولي- الأناضول
استهداف الطواقم الطبية هو جريمة حرب بموجب القانون الدولي- الأناضول
تدخل الحرب القذرة على غزة شهرها الثاني، مُستعملة أحدث الآليات العسكرية، برا وبحرا، في حق مواطنين مدنيين عُزل، ذنبهم أنهم يدافعون عن أرضهم التي سُلبت منهم بالتدريج، وبالقوة والنار، منذ قرار التقسيم والإعلان عن إنشاء دولة إسرائيل قبل 75 سنة (1948-2023).

ولعل أفظع ما مَيز الحرب الدائرة في غزة أنها حصدت الآلاف من الأبرياء الشهداء، من الأطفال والنساء، والشيوخ، ودَمرت المباني والمنشآت العمومية والخاصة، ولم تسلم من عملياتها القذرة حتى المؤسسات الدولية، المنوط بها تقديم المعونة للفلسطينيين لمواجهة مآسيهم، ومساعدتهم على تحمل ما يكابدون يوميا من جرائم الآلة العسكرية الإسرائيلية فوق أرض عمرها أجدادهم وآباؤهم منذ قرون، وظلوا متمسكين بها بنضالهم وإيمانا بعدالة قضيتهم.. حدث كل هذا أمام أعين العالم "المتمدن"، وعلى مسمع مؤسساته، وقوانينه وشرائعه، وفي مواقف كثيرة، بتأييد ضمني أو صريح من بعض قادته وصناع سياساته.

أعادت الحرب على غزة العديد من المفاهيم والمصطلحات المتداولة دوليا إلى دائرة الضوء، ووضعت سلامة استعمالها ومصداقية توظيفها أمام المحك، أبرزها ما سمي في الفقه الدولي بـ"القانون الدولي الإنساني"، و"التدخل الإنساني"، و"الدفاع المشروع عن النفس"، وغيرها من التسميات التي ظلت موضوع جدا واختلاف في الرأي بين الفاعلين والمؤثرين في العلاقات الدولية والقانون الدولي.

أعادت الحرب على غزة العديد من المفاهيم والمصطلحات المتداولة دوليا إلى دائرة الضوء، ووضعت سلامة استعمالها ومصداقية توظيفها أمام المحك، أبرزها ما سمي في الفقه الدولي بـ"القانون الدولي الإنساني"، و"التدخل الإنساني"، و"الدفاع المشروع عن النفس"، وغيرها من التسميات التي ظلت موضوع جدا واختلاف في الرأي بين الفاعلين والمؤثرين في العلاقات الدولية والقانون الدولي

فلطالما انتقد اتجاه في الفقه الدولي هذه المفاهيم والمصطلحات، واعتبر مضامينها غير سليمة ولا مقبولة من الناحيتين المنهجية والموضوعية. حجج أنصار هذا الرأي النقدي، أن السياسة بشكل عام، والسياسة الدولية فرع منها، مبنية بطبيعتها على المنفعة والمصلحة، وحَيّزُ الأخلاق فيما تعرف من تطبيقات وممارسات ضيق جدا، وبذلك يُصبح البُعد الإنساني في إعمال مثل هذه المفاهيم محدودا جدا أمام تنازع المصالح، إن لم نقل مضللا على صعيد الفهم والإدراك، والتحليل، وتقييم الممارسة والحكم على نتائجها..

لذلك، كشفت الحرب القذرة على غزة المستور، وأكدت حقيقة النظام الدولي، ونفاق قواه الكبرى المهيمنة على مصادر صنع القرار في مؤسساته، كما قامت بتعرية الوظيفة الأيديولوجية لمصفوفة من مفاهيمية ومصطلحاته. فالقانون الدولي الإنساني، على سبيل المثال، الذي بشّر دُعاتُه والمنتصرون لمبادئه وقواعده من الفقهاء والممارسين؛ بأدواره المفصلية في "أنسنة" الحروب والنزاعات، وحماية ضحاياها والمتضررين من ويلاتها ومآسيها، لم نعاين وقعا ولا أثرا له في الحرب على غزة، حيث تحصد الآلة العسكرية الإسرائيلية الجائرة يوميا مئات الأبرياء من المدنيين من مختلف الأعمار، بل إن المسؤول الدبلوماسي لإسرائيل في الأمم المتحدة لم يجد حرجا في تمزيق مشروع قرار يدعو إلى إيقاف الحرب على غزة أمام أنظار ممثلي الدول وأسماعهم، وكل المناشدات المطالبة بإيقاف الحرب من أوساط دولية عديدة، بما فيها تلك الصادرة من الفاتيكان، لم تلتفت إليها إسرائيل التي تتصرف كسيدة العالم، لا رقيب عليها ولا حسيب ولا مسؤولية عليها على الإطلاق.

ليس القانون الدولي الإنساني، على الرغم من الجهود الفقهية الساعية لتقعيده وتأصيل مبادئه، مجرد خرافة فحسب، بل يبدو وكأنه سلاح الضعفاء ليس إلا. وفي حالة الحرب على غزة تحديدا، تظل لغة القوة والحرب القذرة واحتقار كل ما يندرج ضمن الشرعية الدولية، هو المنطق السائد دون سواه.

والحقيقة، لاحظنا مواقف متميزة من قبل الأمين العام للأمم المتحدة الحالي، والمحكمة الجنائية الدولية، وبعض الشخصيات الدولية المستقلة، كما أبانت دول من أمريكا الجنوبية عن مبادرات مشرفة بقطع علاقاتها مع إسرائيل أو بسحب سفرائها. وقد أدت تحركات كثير من المجتمعات العربية إلى خلخلة مشروع التطبيع مع إسرائيل، الذي شُرع في بناء خطواته الأولى في دول عربية بعينها ضمن ما سمي باتفاقية أبراهام"، وتظاهر العالم من غربه إلى شرقه دعما للشعب الفلسطيني في غزة وضد المجازر التي تقع فوق أرضه التاريخية، والآفاق مفتوحة أمام ما ستولد هذه الحرب من آثار في القادم من الشهور.

القانون الدولي الإنساني، على الرغم من الجهود الفقهية الساعية لتقعيده وتأصيل مبادئه، مجرد خرافة فحسب، بل يبدو وكأنه سلاح الضعفاء ليس إلا. وفي حالة الحرب على غزة تحديدا، تظل لغة القوة والحرب القذرة واحتقار كل ما يندرج ضمن الشرعية الدولية، هو المنطق السائد دون سواه

فإذا استثنيا صمت بعض الدول، وحيادية بعضها الآخر، وهي قليلة في كل الأحوال، فقد حصدت الحرب على غزة ردود فعل مساندة لفلسطين ولحق شعبها في أن يكون له وجود وكيان مشروع يحميه، ويصون وجوده وهويته. فقد ظهرت الولايات المتحدة (وإلى حد ما فرنسا)، معزولة عما يجري في العالم، وهي التي حركت منذ اليوم الأول من بداية الحرب على غزة أسطولها وبارجاتها نحو المتوسط، غير بعيدة عن إسرائيل، كما لم يتردد رئيسها في التعبير الصريح عن مساندته غير المشروطة لما أقدمت عليه إسرائيل من جرائم وعمليات تدمير وإبادة منذ أكثر من شهر، وما زالت مستمرة في هذا التأييد والدعم المادي والعسكري، وما خفي أعظم.

تؤكد الحرب القذرة على غزة، وما ترتبت عنها وتترب عنها من آثار خطيرة، أن الأداء العربي كعادته محدود وباهت، ويطرح أكثر من تساؤل واستفهام، سواء من داخل نظامه الإقليمي، أي جامعة الدول العربية، أو من خلال مواقف دوله منفردة. فمهما كانت التحليلات المفسرة للموقف الرسمي العربي مما يقع في غزة، فإن حال العرب يدعو إلى الكثير من التفكير. وقد سبق التنبيه إلى هذا الواقع بعض القادة من دول أمريكا الجنوبية وغيرهم، وحثوا العرب على اليقظة والتوحد من أجل الدفاع عن وجودهم المشترك.

أما الواقع الفلسطيني، بوصفه المعني الأول وفي مقدمة الحرب الدائرة، في غزة فيكشف هو الآخر عن درجة واضحة من الهشاشة بالنسبة لوحدة مكوناته، وتماسك كيانه، وتوسع فجوة التباعد بين قياداته، وكلها مؤشرات لا تخدم القضية الفلسطينية وعدالة كفاحها الوطني.. لتكن ماساه غزة وما ترتكب على أرضها من جرائم حرب، فاتحة تاريخ جديد يجُبّ سابقه، ويُعيد للعقل العربي رُشدَه وتصالحَه مع التاريخ.
التعليقات (0)

خبر عاجل