قضايا وآراء

الانتخابات التشريعية التونسية والقراءة الرئاسية "المختلفة"

عادل بن عبد الله
سيتخفف الرئيس تدريجيا من خطاب الشرعية الشعبية بعد ثبوت هشاشتها- عربي21
سيتخفف الرئيس تدريجيا من خطاب الشرعية الشعبية بعد ثبوت هشاشتها- عربي21
يوم الأحد الماضي، نظّمت "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" (وهي هيئة عيّنها الرئيس قيس سعيد بمرسوم) الدور الثاني من انتخابات مجلس النواب. ويَعتبر الدستور التونسي الجديد (دستور 2022) مجلس النواب إحدى غرفتي "الوظيفة التشريعية"، إلى جانب "المجلس الوطني للأقاليم والجهات" الذي لم تُخصّص له الحكومة أية ميزانية في حين خصصت 36 مليون دينار لمجلس النواب.

ومهما كان موقفنا من النظام التونسي ومن شرعيته، فإننا أمام مشهد "سريالي" رسّخ الأزمة السياسية وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، وهو مشهد لا يبدو أن هناك نية للتعاطي العقلاني أو البراغماتي معه (هيئة انتخابات غير مستقلة ومحلّ شكوك قوية تمس حياديتها، غياب رقابة دولية موثوقة للانتخابات، تخوين لكل أطياف المعارضة، بل تخوين لبعض مكوّنات "المساندة النقدية" لما يُسمى بـ"تصحيح المسار"، استقواء الرئيس بالقوة الصلبة ورفض الحوار أو التراجع عن خارطة طريقه الرئاسوية، تخفيض "وكالة موديز" للتصنيف السيادي لتونس إلى المرتبة قبل الأخيرة، التضخم غير المسبوق منذ ثلاثين سنة بشهادة البنك المركزي التونسي، إمكانية إفلاس البنوك الخاصة نتيجة إقراض الدولة في شكل سندات للخزانة، تراجع تونس في مؤشر مدركات الفساد حسب منظمة الشفافية الدولية إلى المرتبة 85 من أصل 180 دولة وهو أدنى ترتيب لها منذ سنة 2012.. الخ).

جاءت نتائج الانتخابات التشريعية التونسية لتؤكد واقع الانقسام المجتمعي الخطير الذي تعيشه تونس منذ المرحلة التأسيسية والذي لم يكن انقلاب 25 تموز/ يوليو إلا دفعا به إلى نهاياته المنطقية (ضرب الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني الذي تهيمن عليه حركة النهضة). فإجراءات الرئيس لم تكن في جوهرها إلا تفعيلا لدعوات سابقة أطلقها العديد من رموز "العائلة الديمقراطية" منذ انطلاق أشغال المجلس التأسيسي

لقد جاءت نتائج الانتخابات التشريعية التونسية لتؤكد واقع الانقسام المجتمعي الخطير الذي تعيشه تونس منذ المرحلة التأسيسية والذي لم يكن انقلاب 25 تموز/ يوليو إلا دفعا به إلى نهاياته المنطقية (ضرب الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني الذي تهيمن عليه حركة النهضة). فإجراءات الرئيس لم تكن في جوهرها إلا تفعيلا لدعوات سابقة أطلقها العديد من رموز "العائلة الديمقراطية" منذ انطلاق أشغال المجلس التأسيسي، بدعوى إنقاذ الدولة ومؤسساتها من "الأخونة" أو على الأقل من "الهواة" الذين "اخترقوا" أجهزة الدولة لينافسوا "الكفاءات الوطنية" (أي الرأسمال البشري للمنظومة القديمة وحلفائهم في اليسار الوظيفي بجناحيه الشيوعي والقومي).

وقد راهنت أغلب "القوى الديمقراطية" على الرئيس قيس سعيد لإعادة هندسة الحقل السياسي، أي لبناء نظام رئاسي يهمّش حركة النهضة في الحد الأدنى (منطق الاستئصال الناعم) أو يعيدها إلى مربع المقاربة الأمنية- القضائية (منطق الاستئصال الصلب).

ولكنّ "تصحيح المسار" أثبت تهافت هذا الرهان بحكم عجزه عن القراءة الصحيحة لمشروع الرئيس، أو بالأحرى مشروع النواة الصلبة للحكم ومَن يقف خلفها إقليميا ودوليا. فالرئيس لم يأت لخدمة "القوى الديمقراطية" ولا ليكون شريكها في الحكم، بل جاء لمركزة السلطة وإنهاء الحاجة إلى كل الأجسام الوسيطة (أو على الأقل تدجينها سواء أكانت أحزابا ومؤسسات وسلطات دستورية أم كانت نقابات ومجتمعا مدنيا)، وذلك لفرض واقع جديد ينهي "الربيع العربي 1" في مهده الأصلي بعد فشل "الثورة" في تحقيق أية مشروعية اقتصادية واجتماعية تحصّن المكاسب السياسية.

ولا يمكن فهم القراءة الرئاسية لنتائج الانتخابات (بل لنتائج خارطة طريقه كلها) إلا حين نقاربها من حيث هي المرحلة الأخيرة في استراتيجية انقلابية ذات ارتباطات إقليمية ودولية؛ بدأت منذ الانتخابات الرئاسية واستطاعت أن تنجح بحكم تنزلها في سياقات ملائمة يمكننا تسميتها بسياقات "قابلية الانقلاب على الانتقال الديمقراطي".

في مرحلة أولى -أي خلال الانتخابات الرئاسية- تبنّى الرئيس خطابا "طهوريا" يتماهى مع الإرادة الشعبية ويتعارض جذريا مع خطابات النخب الحاكمة والمعارضة، ولكنه حرص دائما على الاعتراف بالدستور والشراكة مع باقي الفاعلين (وعود بمقاومة الفساد وتمكين الشباب من أدوات/ تشريعات بناء الثروة، موقف رافض للتطبيع مع الكيان الصهيوني باعتباره "خيانة عظمى"، اتخاذ المسافة نفسها من مختلف الفرقاء الأيديولوجيين، إدانة الصراعات الهوياتية التي طبعت السجال العمومي منذ الثورة.. الخ). وقد مكّن هذا الخطابُ الرئيس من شعبية كبيرة وأعطاه ضربا من "التفويض الشعبي" للقيام بدور "تحكيمي" أو تعديلي للمشهد السياسي العام.

ولكنّ الرئيس الذي لم يُخف يوما أنه يُمثّل بديلا للنخب لا شريكا لها، استغل الأزمة البرلمانية وتردي الأوضاع الاقتصادية والصحية (تفشي وباء كورونا) ليمرّ إلى المرحلة الثانية؛ بتفعيل الفصل 80 من الدستور دون أي التزام بما يضبطه الدستور (عدم حل البرلمان أو تجميده، مواصلة الحكومة لأعمالها، إدارة تشاركية لحالة الاستثناء..). ولم تكن تلك القراءة "ما فوق الدستورية" كما يسميها أنصاره و"الانقلابية" كما يسميها خصومه إلا تمهيدا للمرور إلى اللحظة الانقلابية الموالية: السيطرة على إدارة حالة الاستثناء وتحويلها إلى مرحلة انتقالية تؤسس للجمهورية الثانية.

في هذه المرحلة يمكننا الحديث عن ثلاث لحظات "تكتيكية" تندرج في خيار استراتيجي واحد هو تغيير النظام السياسي برمته (الخروج من الديمقراطية التمثيلية إلى الديمقراطية القاعدية أو المباشرة، ومن نظام برلماني معدّل إلى نظام رئاسوي). أما المرحلة الأولى فهي تلك المرحلة التي أعقبت تفعيل الفصل 80 من الدستور -قبل إصدار المرسوم 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر 2021- وفيها انفرد الرئيس بإدارة "مرحلة الاستثناء" بمنطق المراسيم والأوامر والجمع بين كل السلطات؛ دون أن يصرّح بأنه سيحوّل الاستثناء إلى مرحلة انتقالية تؤسس لجمهوريته الجديدة.

وخلال هذه المرحلة تمتع الرئيس بدعم أغلب "القوى الديمقراطية" التي زينت لها ضغائنها الأيديولوجية أنها ستكون من الناجين من حرب الرئيس على الأجسام الوسيطة، بل ستكون من المستفيدين من الهندسة السياسية التي ستعقب حالة الاستثناء بعد إقصاء حركة النهضة وحلفائها. ولكنّ المرسوم 117 أخرجها جزئيا من سباتها الدوغمائي ووضعها أمام اللحظة الانقلابية الثانية التي أكدت أن الرئيس لا ينوي تشريكها في إدارة حالة الاستثناء ولا في الاستفادة من مخرجاتها. وفي هذه اللحظة أكد الرئيس أنه يحمل بديلا لا يقبل الشراكة حتى مع مكونات المولاة الحزبية والنقابية والمدنية، وأكد أن على الجميع القبول بزعامته والقبول بدور الأجسام الوظيفية في خدمة مشروعه السياسي.

الرئيس سيتخفف تدريجيا من خطاب الشرعية الشعبية بعد ثبوت هشاشتها (دون التخلي عن هذه الشرعية في المستوى الخطابي المحض)، ولكنه واقعيا سيعتمد بصورة أعظم على الشرعية الدستورية أو الانتخابية وما يسندهما من أجهزة الدولة الصلبة، بعد خسارته لأهم مواقعه في "الموالاة النقدية" وإمكانية دخوله في مواجهة مفتوحة مع الاتحاد العام التونسي للشغل

وبعد أن طرح الرئيس خارطة الطريق للخروج من حالة الاستثناء، دخلت تونس اللحظة الانقلابية الثالثة التي فرضت نتائجها على الرئيس اعتماد "القراءة المختلفة" منذ ظهور نتائج الاستفتاء الوطني الالكتروني. فرغم أن نتائج جميع "المحطات التاريخية" قد أثبتت أن الرئيس لا يمثل إلا جزءا أقليا من الشعب التونسي، فإن حاكم قرطاج ما زال مصرّا على خطاب الشرعية الشعبية وعلى تأويل الأرقام بصورة تجعله خارج أية مساءلة أو محاسبة من جهة أولى، أو قد تفرض عليه مراجعة مشروعه والانفتاح على دعوات الحوار الوطني من جهة ثانية.

فالاستشارة الإلكترونية قد نجحت -حسب القراءة الرئاسية- رغم كل محاولات إفسادها باستعمال المال السياسي الفاسد، والاستفتاء قد نجح رغم أنف "الفاسدين" و"العملاء" وأعداء الشعب والدولة، والانتخابات التشريعية أيضا قد نجحت (رغم أنه لم يشارك فيها ما يقارب 89 في المائة من الشعب) لأن العزوف أكد سوء سمعة مجلس النواب السابق، ولا علاقة لفشل التحشيد الرسمي للانتخابات بموقف الشعب من الرئيس أو مشروعه.

ولعل المتغير الأكبر في هذه اللحظة الأخيرة هو أن الرئيس سيتخفف تدريجيا من خطاب الشرعية الشعبية بعد ثبوت هشاشتها (دون التخلي عن هذه الشرعية في المستوى الخطابي المحض)، ولكنه واقعيا سيعتمد بصورة أعظم على الشرعية الدستورية أو الانتخابية وما يسندهما من أجهزة الدولة الصلبة، بعد خسارته لأهم مواقعه في "الموالاة النقدية" وإمكانية دخوله في مواجهة مفتوحة مع الاتحاد العام التونسي للشغل.

المأزق الحقيقي ليس في القراءات الرئاسية المختلفة للواقع بأرقامه وأحداثه، بل هو في غياب قراءة "مختلفة" عند مكونات المعارضة خلال جميع لحظات الانقلاب. فأغلب مكونات المعارضة ما زالت تقرأ المشهد الجديد بعقل ما قبل 25 تموز/ يوليو، بل ما زالت تستصحب صراعاته ورهاناته وخياراته الفاشلة. وهو ما يجعلها عاجزة -على الأقل في المدى المنظور- عن تقديم أي بديل ذي مصداقية شعبية

يتناسى المتندرون بالقراءة الرئاسية "المختلفة" للأرقام أمرين مهمين: أولا يتناسون أن النخب التي هيمنت على الحكم منذ الثورة قد حفرت قبورها بأيديها؛ لأنها هي الأخرى قد قرأت انتظارات الناخبين بصورة "مختلفة" عندما اختزلت استحقاقات الثورة في مكاسب سياسية وتسويات انتهازية وصراعات هوياتية بائسة. وهو ما جعلها تعجز عن تفكيك بنية الفساد والاستبداد، مما دفع بجزء معتبر من الشعب إلى القبول بأي مغامرة سياسية تعِد في بداياتها بإصلاح الأوضاع المتردية ثم ينكشف أنها لم تكن إلا لحظة انقلابية في خدمة النواة الصلبة للحكم ورعاتها الإقليميين والدوليين.

أما الأمر الثاني الذي يتناساه أولئك المتندرون فهو أن القراءة الرئاسية "المختلفة" قد بدأت منذ تفعيل الفصل 80 من الدستور التونسي، ولكنها لم تجد أية قراءة مقاومة تستطيع وأدها منذ أيامها الأولى.

ولذلك فإننا نعتبر أنّ المأزق الحقيقي ليس في القراءات الرئاسية المختلفة للواقع بأرقامه وأحداثه، بل هو في غياب قراءة "مختلفة" عند مكونات المعارضة خلال جميع لحظات الانقلاب. فأغلب مكونات المعارضة ما زالت تقرأ المشهد الجديد بعقل ما قبل 25 تموز/ يوليو، بل ما زالت تستصحب صراعاته ورهاناته وخياراته الفاشلة. وهو ما يجعلها عاجزة -على الأقل في المدى المنظور- عن تقديم أي بديل ذي مصداقية شعبية وقادر على فرض شروطه على الرئيس وداعميه في الداخل والخارج.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)