كتاب عربي 21

"إسرائيل" بلا أمريكا.. حكاية الذخيرة وأسئلة السياسة والاستراتيجيا

ساري عرابي
- أ ف ب
- أ ف ب
الفزع الإسرائيلي، أثناء حرب تشرين/ أكتوبر 1973، كما كشفته الوثائق الإسرائيلية التي أفرج عنها الاحتلال في السنوات الأخيرة، يستدعي الاهتمام. وإذا كانت إرادة المعرفة، لا بدّ وأنْ تتّجه للبحث في تفكير قيادة الاحتلال في ذلك الحين في شأن "خيار شمشون" (ضرب دمشق والقاهرة بالنووي الإسرائيلي)، وهو ما كان مطروحاً بالفعل للتداول من غولدمائير، فإنّه غير بعيد عن لحظة اليأس هذه، تشاؤم موشيه ديان وهو ينظر إلى مستقبل "إسرائيل" مقفرة من السلاح، عاجزة عن الدفاع عن نفسها: "أكثر ما أخشاه هو أن تبقى دولة إسرائيل في نهاية المطاف بدون كمية أسلحة كافية للدفاع عن نفسها، لن تبقى لا دبابات ولا طائرات ولا أشخاص مدربون للدفاع عن إسرائيل".

هكذا بدت "إسرائيل" في لحظة يقين، في أوّل حرب جدّية، أتتها من أكثر من جبهة. ومن هنا امتدّ إليها الجسر الجوّي الأمريكي، في عملية عرفت حينها باسم "عملية عشب النيكل"، أمدت فيها الولايات المتحدة "إسرائيل" بآلاف الأطنان، من الدبابات والسلاح والذخيرة. هذا المشهد، وإن على نحو أقلّ دراماتكية، تكرّر في حروب "إسرائيل" على لبنان (حرب 2006)، وعلى غزة (حرب 2014)، فقد استعانت بالذخيرة الأمريكية، في حروب محدودة على فصائل مقاومة صغيرة.

لم تُترك "إسرائيل" والحالة هذه، للصدف، كما أنها تنكشف بوصفها محمية أمريكية، وأرضاً للقواعد الأمريكية. فالمعلومات تفيد بوجود ست قواعد عسكرية أمريكية في فلسطين المحتلة، تتكون من أبنية حصينة مقامة تحت الأرض، وتضمّ مخازن للأسلحة والذخيرة والمركبات والصواريخ إلى جانب مستشفى عسكري، بالإضافة إلى قاعدة عسكرية جوّية دائمة افتتحت في صحراء النقب في العام 2017

لم تكن استعانة "إسرائيل" بالذخيرة الأمريكية سرّاً في حروبها على لبنان وغزّة. في حرب العام 2014، تحدث البيت الأبيض ووزارة الدفاع الأمريكية، عن إمداد "إسرائيل" بالذخيرة من مخازن الولايات المتحدة داخل فلسطين المحتلة. لم تُترك "إسرائيل" والحالة هذه، للصدف، كما أنها تنكشف بوصفها محمية أمريكية، وأرضاً للقواعد الأمريكية. فالمعلومات تفيد بوجود ست قواعد عسكرية أمريكية في فلسطين المحتلة، تتكون من أبنية حصينة مقامة تحت الأرض، وتضمّ مخازن للأسلحة والذخيرة والمركبات والصواريخ إلى جانب مستشفى عسكري، بالإضافة إلى قاعدة عسكرية جوّية دائمة افتتحت في صحراء النقب في العام 2017.

أخيراً، كشفت الصحافة الأمريكية، وبالاستناد إلى مسؤولين أمريكيين، عن نقل الولايات المتحدة مئات الآلاف من القذائف المدفعية، من مخزونها في "إسرائيل" إلى أوكرانيا، دعماً للأخيرة في حربها مع روسيا. هذا المخزون وُصف بالهائل، وهو ما يمكن أن يؤكّده الرقم شبه المفتوح، بالحديث عن "مئات آلاف" القذائف، في بلد صغير كـ"إسرائيل".

خبر كهذا ينبغي أن يخيف حلفاء "إسرائيل" الجدد، من العرب الذين يعتقدون أنّه يمكنهم (أو يظهرون في سياساتهم اعتقاداً كهذا) تعويض جانب من الحماية الأمريكية، بالاحتماء بـ"إسرائيل"، وهو اعتقاد لا يلاحظ الضعف الإسرائيلي، المغطّى تاريخيّاً بالحماية الأمريكية، والذي يشبه في جوانب منه الحماية الأمريكية لبعض حلفائها العرب، كما أنّه لا يفهم أنّ "إسرائيل" لا يمكنها القتال في معركة ليست معركتها في الأساس، ولا يرى أنّ هذه الدولة تعيش قلقاً وجوديّاً مزمناً، لم يتكشف في حرب 1973 فحسب، بل ظلّت تعلن عنه مرات عديدة.

ذلك بالضرورة غير منفكّ عن القلق الوجودي الاستراتيجي الذي يعانيه الكيان تاريخيّاً، لقيامه على قضية زائفة وخاسرة في الوقت نفسه، وفي مكان لا يحتمل استمراره، وداخل جغرافيا تفتقر للعمق الاستراتيجي

فقد وُصفت انتفاضة الأقصى (2000-2005) بأنّها امتداد لحرب الاستقلال، وحذّر نتنياهو الغرب، في مؤتمر صحفي أثناء العدوان على غزّة في 2021، من أنّ هزيمة حماس لـ"إسرائيل" هي هزيمة للغرب كلّه، في تصريح يبدو كاريكاتوريّاً، لكنه واقعيّ للغاية بالنسبة للتشاؤم الإسرائيلي المزمن، الذي يستهلك الأمل من خزّان الخديعة، ومن إفراط القصف الذي تنفد ذخيرته سريعاً، حتى في المعارك الصغيرة مع فصائل مقاومة صغيرة.

وإذا كانت التصريحات الإسرائيلية المتتالية، لا سيما من خصوم نتنياهو، ومن أوساط قيادية عتيقة في المستويات الأكثر عمقاً في الجيش والأجهزة الاستخباراتية، باتت تحذّر من انهيار "إسرائيل"، ترجع في الأساس إلى حالة التردّي الداخلي التي تنخر ببطء في بُنى الكيان، فإنّ ذلك بالضرورة غير منفكّ عن القلق الوجودي الاستراتيجي الذي يعانيه الكيان تاريخيّاً، لقيامه على قضية زائفة وخاسرة في الوقت نفسه، وفي مكان لا يحتمل استمراره، وداخل جغرافيا تفتقر للعمق الاستراتيجي. وإذا كان للذاكرة العربية أن تنسى ذلك، بعد سنوات من اليأس والهزيمة والخيانة، تلت الحرب الكاشفة في العام 1973، فإنّ معركة صغيرة، سمّاها الفلسطينيون "معركة سيف القدس" (أيار/ مايو 2021)، أحيت الذاكرة العربية من جديد، ووضعت إصبعها على جرح القلق الوجودي الإسرائيلي النازف، وأضاءت على أزمته الاستراتيجية، من جهة افتقاره للعمق، ومشكلته مع تعدّد الجبهات.

الحادثة، وبقدر ما تعيد الإضاءة على موقع "إسرائيل" في السياسة الأمريكية، وعلى الأزمات الاستراتيجية العسكرية التي تعانيها "إسرائيل" على نحو مزمن، فإنّها أيضاً تكشف عن محدودية القدرة الأمريكية، في حال زادت الأعباء الأمريكية، أو تعارضت التزاماتها تجاه حلفائها. وهذه المسألة، تدفع نحو البحث في إمكانية خلق التناقضات بين المصالح الأمريكية وبين المصالح الإسرائيلية

من اللافت أن هذا الخبر (نقل الذخيرة الأمريكية من "إسرائيل" إلى أوكرانيا) لم يحظ بالتغطية الكافية عربيّاً، ربما لأنّ التفكير الاستراتيجي، ينطمس في هذه اللحظة العربية لصالح تفاهة الترند، وثقافة الترفيه، في وضع عربي بائس، لم تَعُدْ فيه "إسرائيل" أولوية بحثية لصانع القرار والدعاية في العالم العربي. بمعنى أنّ الغفلة عن خبر كهذا انعكاس لرداءة عربيّة، تفرض نفسها تلقائيّاً، فضلاً عن إرادة الفرار الواعي من الحقيقة هرباً من استحقاقاتها، ومن ثمّ الاستمرار في الترويج للأكاذيب عن القوّة الإسرائيلية الأبدية، والضعف العربي الحتمي إزاءها!

بالتأكيد، لا تكفي حادثة نقل الذخائر الأمريكية من "إسرائيل" لأوكرانيا، مؤشراً على إمكان تخلّي الولايات المتحدة عن "إسرائيل"، خاصة وأنّ الأخيرة لا تعاني حاجة لحوحة في اللحظة الراهنة، بيد أنّ الحادثة، وبقدر ما تعيد الإضاءة على موقع "إسرائيل" في السياسة الأمريكية، وعلى الأزمات الاستراتيجية العسكرية التي تعانيها "إسرائيل" على نحو مزمن، فإنّها أيضاً تكشف عن محدودية القدرة الأمريكية، في حال زادت الأعباء الأمريكية، أو تعارضت التزاماتها تجاه حلفائها. وهذه المسألة، تدفع نحو البحث في إمكانية خلق التناقضات بين المصالح الأمريكية وبين المصالح الإسرائيلية، بالإضافة إلى جوهر القضية، الذي لا ينبغي أن يغفل قسوة الحرب الجادّة متعددة الجبهات على "إسرائيل"، فضلاً عن الفرص التي قد تتيحها الحرب الروسية الأوكرانية!

twitter.com/sariorabi
التعليقات (0)