قضايا وآراء

السيسي ومتلازمة السلطة (4)

محمود النجار
يقف السيسي أمام الزعماء الأجانب بطريقة مختلفة عما يقابل بها شعبه- الرئاسة المصرية
يقف السيسي أمام الزعماء الأجانب بطريقة مختلفة عما يقابل بها شعبه- الرئاسة المصرية
يفترض أنه كلما ارتفعت رتبة الضابط صار أكثر جرأة وقوة وحضورا شخصيا، حتى إذا ما وصل إلى رتبة لواء أو فريق أو مشير؛ بات من موقعه العسكري أكثر حكمة وشجاعة؛ بما يمنحه هيبة خاصة ورهبة بين العساكر والضباط الأقل رتبة، وترتجف الأرض تحت أقدامهم وهم يؤدون له التحية. وهذا الوضع إما أن يصنع ضابطا كبيرا يتسم بالرزان وقوة الكامن الداخلي، وإما أن يصنع منه صورة مصغرة لرتبة عالية؛ لإحساسه بأنه لا يستحق هذه المنزلة، بسبب مركبات النقص الناتجة عن معرفته بنفسه التي تفتقر إلى الوعي أو الذكاء أو الثقافة مقارنة ببعض زملائه من كبار الضباط.

والضباط الصغار في مصر تربّوا على الإهانة من قِبل من سبقهم من كبار الضباط، وهي ذات الممارسة التي يمارسونها هم تجاه الأقل رتبة، لذلك فالتربية العسكرية وثقافة المجتمع العسكري لا تخلق ضابطا متوازنا شجاعا، واثقا من نفسه، واسع الثقافة والمعرفة، إلا في حالات نادرة، وهو ما ينطبق على عبد الفتاح السيسي الذي نشأ منذ الصغر، وقبل التحاقه بالجيش، على اضطهاد زملائه له في الحي أو المدرسة، كما ذكر بنفسه. وربما كان لجوؤه للعسكرية من باب اكتساب الهيبة التي افتقدها في مواجهة المجتمع والناس؛ لذلك تجده -حتى بعد أن منحه الرئيس مرسي، رحمه الله، رتبة مشير، وهي أعلى رتبة في الجيش، وبعد أن صار رئيسا لمصر- ضعيفا في مواجهة الشخصيات العامة الأجنبية مهما كانت درجتها أو مكانتها، بينما يتنمر على من هم دونه كما يفعل ضباط الجيش مع الأفراد والضباط الصغار.
يظهر بين رجاله والمصفقين والمطبلين منتصبا بوجه حاد، يرغي ويزبد ويهدد ويملي ويعربد، مندفعا بالحماية العسكرية التي وطّنها لتكون تحت جناحه من خلال الرشاوى المالية والرواتب والامتيازات والمكافآت

فحين يجلس السيسي إلى أي شخصية أجنبية أو عربية نافذة كحكام الخليج؛ تجده يجمع كتفيه إلى رأسه، مادّاً رأسه إلى الأمام قليلا، كتلميذ مذنب في حضرة مدير مدرسة عبوس، أو كلص في حضرة ضابط شرطة وهو يتربص صفعة على قفاه، وغالبا ما يظهر على جبهته ووجهه عرَق لا يظهر على جليسه؛ ذلك أنه يحس بصعوبة الموقف؛ لأنه يعرف أنه في مقام أكبر من مقامه الصغير، وأنه لا يصلح لتمثيل بلد كبير مثل مصر، وأنه بالكاد يمكن أن يصلح للعمل بوظيفة شيخ خفر؛ فهو هش في مواجهة أي شخصية ذات قدر. لكنه يظهر بين رجاله والمصفقين والمطبلين منتصبا بوجه حاد، يرغي ويزبد ويهدد ويملي ويعربد، مندفعا بالحماية العسكرية التي وطّنها لتكون تحت جناحه من خلال الرشاوى المالية والرواتب والامتيازات والمكافآت، وغض الطرف عن السرقات التي ملأت خزائن البنوك في سويسرا من رجاله وخدمه اللصوص.

وأحيانا أخرى تجده يضحك ضحكا هستيريا، ويحول لقاءاته بالمطبلين إلى مسخرة وسخافات يندى لها الجبين، وذلك انسجاما مع كمية أقراص الترامدول التي تناولها ذلك اليوم. وربما تذكرون التسريب القديم له مع عباس كامل والحديث عن حبة الترامدول التي يتناولها كلاهما لتخفف عنهما ضغوط العمل ولقاءاتهما مع رجالات الخليج في بداية عملية التسول التي بدأها وهو قائد للجيش، قبل أن يصبح رئيسا.

إنه في التنكر لشعبه ووطنه وقمعه وظلمه يمارس ثقافة الطبع، ويمارس مع الآخرين ثقافة التّطبّع؛ فهو بطبيعته يستقوي على الأضعف، كما تعلم في العسكرية. وتدفعه قلة الثقة بالنفس وضعف الخبرة في التعامل مع الأجنبي إلى تغيير طبيعته لصالح الهوان والضعة. وتلك من أبرز صفات الحاكم المصاب بمتلازمة السلطة، وهي أن "يغلظ على أبناء وطنه، ويذل للغريب الأجنبي".
إنه في التنكر لشعبه ووطنه وقمعه وظلمه يمارس ثقافة الطبع، ويمارس مع الآخرين ثقافة التّطبّع؛ فهو بطبيعته يستقوي على الأضعف، كما تعلم في العسكرية. وتدفعه قلة الثقة بالنفس وضعف الخبرة في التعامل مع الأجنبي إلى تغيير طبيعته لصالح الهوان والضعة. وتلك من أبرز صفات الحاكم المصاب بمتلازمة السلطة

ومما أحصاه "جبرتي تويتر" من صفات المصاب بمتلازمة السلطة: "عدم الإحساس بالواقع المحيط، والنرجسية في رؤية العالم، ومطابقة المصالح والرغبات الشخصية مع مصالح ورغبات الأمة، والميل إلى تعميم الرؤى الشخصية بصرف النظر عن حساب نتائجها"؛ فالسيسي مأخوذ بالإحساس بأنه هو الأمة والوطن، وأنه يشكل عالما خاصا في قلب العالم الكبير. فهو وعلى الرغم من المصائب التي جلبها لمصر، وعلى الرغم من الفشل الذريع والفقر والجوع والحرمان وصراخ الأفواه بحثا عن لقمة العيش، ونحيب الأمهات على أبنائهن المعتقلين، لا يزال ينظّر ويأمر وينهى، ويحاول الظهور بمظهر المنقذ، ولا ينفك يردد أنه أنقذ مصر من أهل الشر بثقة مفتعلة وباعثة على الاستهجان. فما يقوله هو الصواب وقول غيره بلا قيمة ولا معنى ولا تقدير؛ فما الوطن إلا هو، وما مشكلاته إلا هم..!!

ويضيف "جبرتي تويتر": "تقلب مزاج هذا المريض من فرح ونشاط مفرط غير طبيعي إلى حالات متباينة من الحزن أو الخمول أو الاكتئاب الشديد". وهو ما نجده واضحا في شخصية السيسي؛ فهو في أمزجة مختلفة تفرضها عليه أوضاع البلاد، وهو هذه الأيام أشد ما يكون اكتئابا وضعفا وقلقا؛ بعد أن سدت في وجهه الأبواب، وبات عاجزا عن حل المشكلات الاقتصادية الخانقة التي صنعها بنفسه بناء على تصوراته الشخصية وعشوائية الإجراءات التي قام بها طوال تسع سنوات. وأظنه الآن غير قادر على الظهور بمظهر الفرح والنشاط المفرط، بعد أن أخذه نشاطه وفرحه إلى ما لا يحمد عقباه من كارثة اقتصادية مميتة؛ مما اضطره اليوم إلى بيع أهم أصول مصر، وهي قناة السويس الشريان الرئيسي للدخل القومي المصري، ومرافق أخرى ستفصح عنها الأيام القليلة القادمة..

إنه هذه الأيام في أشد حالات الضعف والعجز والانطواء؛ بعد أن غادر الولايات المتحدة مؤخرا بشكل مفاجئ منزعجا خالي الوفاض، حيث لم يحصل على شيء خلال استضافة جو بايدن لرؤساء أفريقيا. وقد كان طلب إلى الولايات المتحدة أن تستثمر ثقلها الاقتصادي، لتخفيف أعباء الديون عن الدول الأكثر تضرراً، لكن -على ما يبدو- أن طلبه لم يجد أذنا صاغية، لدى بايدن، وربما أنّبه ونهره، ولسان حاله يقول: اشتريت طائرة بنصف مليار دولار، وبنيت القصور، وقمت بمشاريع فاشلة، ثم تأتي وتطالب بتخفيف أعباء الديون؟! وقد ظهر انزعاج السيسي وقلقه في لقطة الصورة الجماعية، حيث غادر المنصة بطريقة هستيرية مستفزة وباعثة على السخرية، كمراهق أزعجه رفض أبيه شراء دراجة هوائية له؛ فخرج من البيت مغاضبا..!!
أوصل السيسي البلاد إلى شلل حضاري وقيمي وعاد بمصر إلى الوراء بوتيرة متسارعة تؤشر على كل صور العجز والهوان والخزي والعار، حتى بات المصري يحس بالدونية والقهر والوجع الصعب

ويضيف ذات المصدر: "وفي نهاية المطاف فإن المصاب بهذا المرض ينتهي به الحال إلى عدم التقدير السليم للأمور وعدم الكفاءة في اتخاذ القرارات والفشل في إنجاز الأعمال الموكولة إليه، وتعاظم الإحساس بالعظمة والغطرسة وربما الانفصام التام عن الواقع أو الاكتئاب أو الإدمان.. وأخيرا الجنون".. وهو ما أظن أن السيسي فعلا دخل فيه، فهو هذه الأيام مرتبك، يحس بالعجز، لا يجد حلولا عملية للخروج مما تسبب به من كوارث، وقد خفت صوته، وارتفع صوت إعلامه الرخيص، يدافع عنه ويبحث له عن مخارج؛ فها هو اليوم بيدين فارغتين، يتصرف بغباء منقطع النظير؛ فبدلا من أن يعمل على بيع آلاف الشقق التي بناها في العاصمة الإدارية وغيرها من المناطق بأسعار معقولة للناس، فهو يبيع قناة السويس الشريان الحيوي الأخطر والأهم لمصر، ويبيع ضفاف النيل، والبنوك والأراضي والمؤسسات والمصانع الكبرى، بحثا عن تمويلات سرعان ما ستنفق في سداد فوائد الديون وبعض الشؤون الملحة، ليعود بعدها باحثا عما يمكن بيعه من جديد؛ فماذا تبقى لمصر من مقومات الدولة بعد أن ذهبت عشرات المليارات في الإسمنت والحديد، بدلا من استثمارها في مرفقي الصحة والتعليم اللذين انهارا انهيارا كبيرا وغير مسبوق؟!

لقد أوصل السيسي البلاد إلى شلل حضاري وقيمي وعاد بمصر إلى الوراء بوتيرة متسارعة تؤشر على كل صور العجز والهوان والخزي والعار، حتى بات المصري يحس بالدونية والقهر والوجع الصعب، بل بات يخجل من الحديث عن الوطن والمواطنة، وعن الحضارة والمدنية والحرية والديمقراطية، وهو يرى حالة التقهقر والتردي والقبح التي يعيشها في بقعة راحت تتلاشى معالم حدودها التي كانت ممتدة عبر شرايين العالم العربي والدول الأخرى من حولها. وهو إلى ذلك كله يعيش قلقا وخوفا دائما من أجهزة الأمن في بلده، وحين يضع الكمامة على فمه، لا يضعها ليقي نفسه وباء كورونا، بل ليفلتر لسانه خشية أن يبوح بحلم أو توق أو رغبة في الحياة..!
التعليقات (6)
متابعة تونسية
الثلاثاء، 27-12-2022 04:44 م
نعم السيس جاب مصر الأرض وقضى عليها وقد أعجبتني الفقرة الأخيرة من المقال التي لخصت فيها شخصية السيسي تلخيصا دقيقا، فهو يتنازل عن مصر لحاملي الشيكات والأقلام الذهبية بما يشبه الاحتلال. شكرا لقلمك الشاعر
خليل ابراهيم كاظم
الخميس، 22-12-2022 02:50 ص
وصف دقيق لحالته بجمع كتفيه وتعرقه الدائم وقد لاحظت هذا مرارا وعلقت عليه مقارنا بينه وبين الشهيد بأذن الله صدام حسين فقلت...هل هذا قائد وصدام حسين قائد؟؟لعنك الله امريكا....
محمود النجار
الثلاثاء، 20-12-2022 10:10 م
أشكر الأح / الأخت "تصحيح للتاريخ" على التصحيح الصحيح.. وجل من لا يسهو.. تقديري واحترامي لك
تصحيح للتاريخ
الثلاثاء، 20-12-2022 07:48 م
لم يمنح الرئيس الشهيد الدكتور محمد مرسي السيسي رتبة مشير وإنما منحه رتبة فريق أول مرقيا إياه من رتبته آن ذاك وهي لواء وذلك لكي يتثنى له تعيينه وزيرا للدفاع بعد إقالة طنطاوي عقب مذبحة جنود الجيش في معبر رفح الحدودي والذي تبين بعد ذلك أنها تمت بمعرفته واشتراك الكيان الصهيوني وعميلهم محمد دحلان في تنفيذ تلك المذبحة أثناء تناول الجنود إفطار رمضان. مبررات هذه الترقية التي قفز بها رتبتين كانت لأسباب وجيهة وهي أن رتبة وزير الدفاع يجب أن لا تقل عن رتبة قادة افرع الجيش الذين يحملون رتب فريق. بالنسب لرتبة المشير فقد منحها لنفسه مستعينا بعدلي منصور الذي عينه رئيسا صوريا للجمهورية بعد أن كان يشعل رئيس المحكمة الدستورية التي تآمرت مع العسكر في عملية الانقلاب على النظام القائم وإسقاط الدستور الذي شارك فيه الشعب المصري و اقره بنسبة تجاوزت 67%.
سمية
الثلاثاء، 20-12-2022 06:00 م
قراءة نفسية في غاية الدقة و الإحكام مع حرفية في نقل الوقائع و تفسير الوضع الخطير الذي آلت اليه الأمور في مصرنا الحبيبة ..نحييك أستاذ محمود ما تكتبه مختلف و رائع