قضايا وآراء

مجموعة الـ25: هل هي "الجهاز السري" لفرنسا في تونس؟

عادل بن عبد الله
هل بدأ صراع الأجنحة في قصر قيس سعيد؟- الأناضول
هل بدأ صراع الأجنحة في قصر قيس سعيد؟- الأناضول
بحكم سيطرتها على وسائل الإعلام العمومية والخاصة، استطاعت الآلة الدعائية للمنظومة القديمة وحلفائها في اليسار الوظيفي أن تمحّض تعبير "الجهاز السري"، للدلالة على وجود تنظيم داخل حركة النهضة تتهمه بالتورط في الاغتيالات السياسية وغيرها من الأعمال "الإرهابية". وقد مثّل هذا الملف الذي ما زال تحت أنظار القضاء؛ أداةً من أهم أدوات ابتزاز حركة النهضة واستضعافها حتى من لدن حليفها "التوافقي" حركة نداء تونس أيام المرحوم الباجي قائد السبسي. كما كان هذا الملف وما زال حجة للطعن في مبدئية الخيار الديمقراطي للنهضة والدعوة إلى إقصائها من العمل السياسي القانوني، سواء أجاءت تلك الدعوة من أنصار "الاستئصال الصلب" (أي الداعين إلى جعل الملف ملفا أمنيا- قضائيا كما كان الشأن زمن المخلوع)، أم جاءت من أنصار "الاستئصال الناعم" (أي الداعين إلى المقاربة السياسية للملف وإلى تحجيم حركة النهضة والدفع بها إلى المعارضة).

وليس يعنينا في هذا المقال أن نتوسع في موضوع الجهاز السري لحركة النهضة ووظائفه السياسية ودوره في تذويب الخلافات الأيديولوجية والصراعات الحزبية بين مكونات "العائلة الديمقراطية"، كما لا يعنينا أن نبرهن على اعتباطية العلاقة بين "الديمقراطية" وأغلب مدعيها في تونس (اعتباطية تلك العلاقة في مستوى التأسيس النظري أو التاريخ الواقعي أو حتى في مستوى إدارة شؤونها الداخلية). فكل ما يعنينا هو التطرق إلى الملف الذي أصبح يُعرف بمجموعة الـ25 (وهو عدد المتهمين) أو ما يمكن أن نسمّيَه على وجه الترجيح بملف "الجهاز السري" لفرنسا بتونس.

لم نُسمّ مجموعة الـ25 بالجهاز السري لفرنسا لأننا نجزم بأن الدولة المقصودة في الملف هي فرنسا، بل ليقيننا بأن محور الثورات المضادة لا يمكن أن يشتغل في تونس إلا برعاية وغطاء وضوء أخضر من فرنسا. وهو ما يعني أنه مهما كانت الدولة التي أشارت إليها الدعوى القضائية، فإن المجموعة تشتغل بالضرورة لصالح فرنسا

إلى حدود كتابة هذا المقال، لم تُحدد الأجهزة الرسمية التونسية اسم الدولة التي يُشتبه بالمظنون فيهم خدمتها من خلال "تكوين وفاق بقصد الاعتداء على الأشخاص والأملاك والتآمر على أمن الدولة الداخلي، وربط اتصالات مع أعوان دولة أجنبية الغرض منها الإضرار بحالة البلاد التونسية من الناحية الديبلوماسية، وارتكاب فعل موحش عند رئيس الدولة والتدليس ومسك واستعمال مدلّس". ولكن إذا دققنا في الأسماء المذكورة في القائمة فإننا لن نجد فيها اسما واحدا محسوبا على حركة النهضة أو ائتلاف الكرامة، وهو ما يعني بالضرورة استبعاد فرضية أن تكون الدولة المقصودة هي تركيا أو قطر أو حكومة طرابلس، كما أننا لا نجد في أسماء المشتبه فيهم من اشتهروا بالميل إلى إيران أو روسيا ومعاداة "الغرب". ولا يعني ذلك منطقيا إلا أن الدولة المقصودة هي دولة تنتمي إلى محور إقليمي معروف بقيادة فرنسا وعضوية مصر والإمارات والسعودية.

ونحن لم نُسمّ مجموعة الـ25 بالجهاز السري لفرنسا لأننا نجزم بأن الدولة المقصودة في الملف هي فرنسا، بل ليقيننا بأن محور الثورات المضادة لا يمكن أن يشتغل في تونس إلا برعاية وغطاء وضوء أخضر من فرنسا. وهو ما يعني أنه مهما كانت الدولة التي أشارت إليها الدعوى القضائية، فإن المجموعة تشتغل بالضرورة لصالح فرنسا، وقد شكلت "الوفاق" لخدمة أجندتها الإقليمية. وإذا ما علمنا بأن فرنسا كانت وما زالت -على الأقل في مستوى الخطاب الرسمي- من أكبر الداعمين لمسار 25 تموز/ يوليو ونظامه الحاكم، فإن تورطها المفترض في هذا الملف يدل على وجود موقف "سري" لباريس من الرئيس ومشروعه السياسي. وهو ما جعلها تسعى مباشرةً أو عبر أحد حلفائها في محور الثورات المضادة؛ إلى البحث عن بديل في القوى الموالية لفرنسا والمطبّعة مع المنظومة القديمة.

لمّا كان ملف هذا "الجهاز السري" أمرا محرجا لأنصار فرنسا في تونس، ولمّا كان دليلا على وجود حرب داخلية بين أجنحة السلطة (وتحديدا بين الرئيس وأنصاره من المحسوبين على المنظومة القديمة)، يسعى العديد من "الإعلاميين" والمحللين السياسيين إلى تتفيهه، كما يعملون على حرف الرأي العام عن القضية الأصلية وذلك بطرح مسألة تسريب الملف وربطها بالسيطرة "المتخيلة" لحركة النهضة على القضاء إلى حد الآن، ويحاولون جاهدين التغطية على الملف بإعادة الحديث عن "الجهاز السري" للنهضة.
التهم تعني العمل على إرباك النظام وإضعاف قدرته على إدارة شؤون البلاد في الحد الأدنى، والانقلاب عليه وتغيير هيئة الحكم بالقوة في الحد الأقصى. ومهما كان القصد من تكوين "الوفاق" فإنه يهدف إلى إعادة هندسة المشهد السياسي في تونس بعيدا عن خارطة الطريق الرئاسية من جهة أولى، وبعيدا عن جبهة المعارضة من جهة ثانية

ولعلّ الحجة الأقوى التي يراد منها نسف هذا الملف هي استحالة أن يجتمع المشتبه فيهم داخل "وفاق" مع ما بينهم من اختلاف في الموقف من 25 تموز/ يونيو. فما الذي يجمع مثلا بين فاضل عبد الكافي (المعارض الشرس للرئيس) أو حكيم بن حمودة (الشخصية التوافقية) وبين نادية عكاشة (مديرة الديوان الرئاسي السابقة) أو مية القصوري (اليسارية الوظيفية المناصرة لورثة التجمع ثم للرئيس)؟

إن الإجابة عن هذا السؤال ستكون هي المفتاح لفهم قضية "التخابر" مع "دولة أجنبية". فالتهم تعني العمل على إرباك النظام وإضعاف قدرته على إدارة شؤون البلاد في الحد الأدنى، والانقلاب عليه وتغيير هيئة الحكم بالقوة في الحد الأقصى. ومهما كان القصد من تكوين "الوفاق" فإنه يهدف إلى إعادة هندسة المشهد السياسي في تونس بعيدا عن خارطة الطريق الرئاسية من جهة أولى، وبعيدا عن جبهة المعارضة من جهة ثانية. إننا ظاهريا أمام "طريق ثالث" لا يتماهى مع الرئيس ولا مع معارضته المعروفة، ولكننا في الحقيقة أمام تفريع من تفريعات المسار الانقلابي.

ونحن نفهم هذا الوفاق باعتباره تجميعا ميتا- أيديولوجيا (فهو يجمع بين ليبراليين ويساريين من مجالات مهنية مختلفة) للمدافعين عن فرنسا ومصالحها الاقتصادية والثقافية في تونس. وهو ما يستدعي بالضرورة تذويب الخلافات الأيديولوجية، والدفع بالمواقف السياسية السابقة لبعض الشخصيات إلى خلفية المشهد.
مهما كانت مآلات ملف مجموعة الـ25 من الناحية القضائية، فإنه يدل على وجود صراعات حقيقية بين أجنحة المنظومة الحاكمة، وهي صراعات لا يمكن أن تغيب عنها فرنسا باعتبارها الفاعل الدولي الأهم في تونس قبل الثورة وبعدها

لبناء بديل مقبول للرئيس التونسي ونظامه (أو على الأقل لإضعاف هذا النظام وحمله على تعديل تركيبته وتغيير خياراته السياسية الكبرى) تحتاج "الدولة الأجنبية" (سواء أكانت فرنسا أم أحد وكلائها الإقليميين في تونس) إلى تشكيل وفاق لا ينحصر في أنصار مسار 25 تموز/ يوليو أو في خصومه. إنها تحتاج إلى الجمع بين أنصار الرئيس وخصومه، بشرط أن يكونوا غير منتمين إلى أطياف المعارضة للنفوذ الفرنسي في تونس، ولا من الداعين إلى العودة إلى النظام البرلماني المعدّل أو المحسوبين على المحور القطري- التركي. ولا شك عندنا في أن هذا الوفاق يهدف إلى قطع الطريق أمام المعارضة المبدئية للرئيس، وتحديدا قطع الطريق أمام حركة النهضة لتكون فاعلا أساسا في أية تسويات سياسية قد تفرضها المتغيرات الداخلية والإقليمية.

مهما كانت مآلات ملف مجموعة الـ25 من الناحية القضائية، فإنه يدل على وجود صراعات حقيقية بين أجنحة المنظومة الحاكمة، وهي صراعات لا يمكن أن تغيب عنها فرنسا باعتبارها الفاعل الدولي الأهم في تونس قبل الثورة وبعدها. ونحن نميل إلى جدية الشبهات التي تحوم حول مكونات "الوفاق" أو "الجهاز السري" لفرنسا بتونس (بالمعنى الذي حددناه أعلاه)، ولكننا نميل أيضا -بحكم حاجة النظام الحاكم إلى دعم باريس في ملف القروض وغيره- إلى أن هذا الملف لن يؤثر كثيرا في علاقة قرطاج بباريس، وإن كان سيؤثر في طبيعة العلاقة بين الرئيس وجزء كبير من أنصاره المنتمين إلى المنظومة القديمة وحلفائهم في اليسار الوظيفي (وكلهم من الموالين لفرنسا ومحور الثورات المضادة). وهو ما قد يُعجّل بتصعيد النخب الموالية للرئيس من خارج المنظومة القديمة (ما يسمى بـ"النخب البديلة") إلى مراكز القرار السياسي وغيره، مع ما يعنيه ذلك من تقوية لموقف الرئيس داخل المنظومة الحاكمة وإضعاف لاستراتيجية المنظومة القديمة (وبالتالي فرنسا) في الهيمنة على "تصحيح المسار" أو حتى إسقاطه عند انتفاء الحاجة إليه.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)