الذاكرة السياسية

فيصل جلول: لهذا فشلت مطالبة الأحمر بترشيح مدني لرئاسة اليمن

علي عبد الله صالح بين العرشي والأحمر
علي عبد الله صالح بين العرشي والأحمر

اغتيل الرئيس أحمد حسين الغشمي في صباح يوم 24 حزيران/يونيو عام 1978، واغتيل الرئيس الاشتراكي الجنوبي سالم ربيع علي في 26 حزيران/ يونيو أي بعد يومين، ودفن الرئيسان في اليوم نفسه. معلوم أن الرئيس إبراهيم الحمدي كان هو الآخر قد اغتيل قبل ثمانية أشهر. في هذه الظروف التي قلما اجتمعت في بلد آخر، كان ينبغي اختيار رئيس جديد للجمهورية العربية اليمنية، ولم يكن المرشحون يتدافعون للفوز بالمنصب.

عاد الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر إلى صنعاء في 26 حزيران/يونيو 1978، وتبعه عموم المشايخ الذين عزلهم الرئيس إبراهيم الحمدي وحملهم الرئيس أحمد الغشمي على البقاء خارج العاصمة اليمنية. وكان على العائدين التدخل من أجل اختيار رئيس جديد للجمهورية كما اعتادوا من قبل، لكن هذه المرة سيكون تدخلهم محدودا وغير حاسم.

كان الشيخ الأحمر متضررا من العسكريين الذين رفعوا شعار مكافحة القبلية. أصابه ضرر في عهد المشير عبد الله السلال، على الرغم من كونه الشريك الأبرز في الثورة على الإمامية، وتضرر في عهد الحمدي الذي أراد بناء دولة في الجمهورية اليمنية لا سلطة فيها للمشايخ، وسيلحقه ضرر مشابه في عهد الغشمي الذي تمنى عليه البقاء خارج العاصمة، علما أن الرئيس ينتمي إلى قبيلة حاشد وهو بهذا المعنى شيخ الرئيس. وسيمضي الشيخ الأحمر 15 عاما (1978 ـ 1993) من فترة حكم الرئيس علي عبدالله صالح، من دون منصب رسمي أو شراكة أساسية في الحكم، وسيصبح شريكا في السلطة الوحدوية بعد أزمة التعايش بين الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام 1993.

يقول الشيخ عبدالله الأحمر إنه وقف بقوة بعد اغتيال الغشمي، ضد ترشيح المقدم علي عبد الله صالح لرئاسة الدولة، خصوصا بعد أن "أوضح لي بأنه يريد الثأر لأحمد حسين الغشمي. كنت أعتقد أنه غير قادر على تولي الرئاسة وأنا أعرفه من قبل، وكنت أعتقد أيضا أن علينا أن نتدارك الخطأ الأول حين سلمنا الحكم للعسكريين. ونريده أن يعود للمدنيين".

دعم الشيخ الأحمر تنصيب القاضي عبد الكريم العرشي رئيسا للجمهورية، "قلنا له أنت المسؤول بوصفك رئيسا لمجلس الشعب التأسيسي، ويمكنك البقاء في الحكم حتى ترتيب الانتخابات بما يتلاءم مع الدستور. ونصحته بأن يفتح النقاش في المجلس حول شروط الحكم وليس حول شخص الحاكم، فإن توفرت شروط الحكم في الشخص المناسب، تتم الموافقة عليه وساعتئذ يأتي من يأتي طالما أنه ملتزم بالشروط" (مذكرات الأحمر 232).

ترشيح العرشي

وأضاف الشيخ عبدالله: "كنت أعتقد أن الفرصة سانحة بعد مقتل رئيسين عسكريين لنستفيد من الخطأ السابق وأن يتولى المدنيون الحكم. نعم كنت مؤيدا بقوة لأن يتولى القاضي العرشي رئاسة الجمهورية". ويضيف قائلا: "كانت القبائل تؤيدني في هذا المطلب، ويزدحم بهم حوش منزلي نهارا، لكنهم يتوجهون ليلا إلى مقر القيادة وأعضاء مجلس الشعب التأسيسي".
 
ليس من الصعب تفسير رهان الشيخ الأحمر على العرشي، فهو يدرك أن العسكريين يستمدون سلطتهم من الجيش، وأن المدنيين يحتاجون في حكمهم إلى التفاف الشعب حولهم. من جهة أخرى لا يمكن للقبيلة وحاشد بصورة خاصة أن تنافس أحدا على السلطة إذا كان قائدا للجيش والأمر الناهي في المؤسسة العسكرية، في حين يمكنها أن تنافس مدنيا كما كانت الحال في عهد القاضي عبد الرحمن الإرياني. والمنافسة لا تعني الغلبة دائما وإنما الشراكة أيضا في الحكم، في منافعه ومضاره على السواء. وفي عرف الشيخ الأحمر أن قبيلته تحملت عبئا كبيرا في نصرة الجمهورية، ومن ثم يحق له أن يقول كلمة مؤثرة في إدارة النظام الجمهوري ويتمتع بالشرعية المناسبة للمشاركة فيه.

يبقى أن الثقافة السياسية في حينه كانت موروثة من النظام الإمامي السابق الذي كان يرعى تراتبا فئويا لم تخترقه الكولونيالية، التي ظلت محصورة في الاحتلال البريطاني لعدن ومحمياتها ولم تصل إلى الشمال. كان النظام الإمامي يقوم على هرمية تحتل أسرة حميد الدين موقع الرأس فيها، وتأتي بعدها فئة الهجر الهاشمية ومن بعد فئة القبائل، وأخيرا فئة البَيَع ويأتي كبار المشايخ في فئة القبائل وفي مكان لا يبعد عنهم، تأتي فئة القضاة من أبناء القبائل ثم المشايخ الصغار بمسمياتهم المختلفة من منطقة إلى أخرى، ثم عموم القبائل.

 

العرشي يؤم المصلين في دار الرئاسة علي سالم البيض وعلي عبدالله صالح وعبد العزيز عبد الغني وآخرين.

كل هذه الفئات تتمنطق بالجنابي ولكل منها رمزيته الخاصة، فالجنبية المعقوفة للقبيلي والجنبية المستوية للقاضي، وفارق اللون أو الحزام والقبضة لهذه القبيلة أو تلك، ويحتفظ الجميع كل بسلاحه الفردي. هذا يعني أن المدنية في المجتمع اليمني الشمالي تشمل كل من لا ينتمي إلى الجيش من دون أن يكون مدنيا مشابها للمدني الأوروبي، أو سكان المدن في بلاد الشام أو مصر، وإذا كان مصطلح المدنية وافد من مدينة، فسكان المدن وضواحيها في شمال اليمن بقسمهم الأعظم مسلحون يجيدون فنون القتال.

يبدو لي في ضوء ما سبق أن حديث الشيخ الأحمر عن تولي المدنيين السلطة، يشمل القضاة بالدرجة الأولى ويستبعد العسكريين الذين كانوا ينفذون الأوامر فقط في النظام اليمني الإمامي، ولكنهم تحولوا في العهد الجمهوري اليمني وفي الجمهوريات الانقلابية العربية إلى حكام يرفضون التشارك في الحكم، ويطوعون الرأي العام بواسطة الآلة العسكرية، ناهيك عن أن الجمع بين الرتبة العسكرية والانتماء القبلي، يفضي في حال تولي السلطة إلى الحكم باسم الفرع القبلي الذي ينتمي إليه الحاكم، وليس الائتلاف القبلي الكبير. لذا، نلاحظ أن سلطة الغشمي كان يُنظرُ إليها بوصفها سلطة مشيخة متوسطة في همدان، ولا تَختصِرُ مصالح حاشد كما رأينا في الحلقة السابقة.

مدنية قبلية

يجدر التنبيه هنا أيضا إلى أن مصطلح "المدنية" يوحي بالمواطن الفرد المجرد من العلاقات ما قبل الرأسمالية، وهو الأقرب إلى صورة المواطن الأوروبي السيد الذي يمكنه أن يقرر مصير حكومة في أول استحقاق انتخابي. هذه الصورة لا تشبه المجتمع اليمني الذي تتفاعل فيه الفئات المذكورة آنفا، ويبدو فيه المدني (غير المسلح) أقرب إلى الفئة الهامشية في المجتمع، ونعني بذلك فئة الخدمات والترفيه (حلاق ومغن في الحفلات وصحفي قديم يسمى محليا دوشان، إلخ). إن مجمل هذه النماذج لا وزن لها يذكر في موازين القوى المحلية، بل بعضها يعتبر نقيصة في المشهد الاجتماعي. سيكون من الصعب أن يتولى "مزين" رئاسة الجمهورية في اليمن في المدى المنظور.

ليست هذه الفئة التي يعنيها الشيخ الأحمر بحديثه عن المدنية، وإنما فئة القضاة، ولعله كان صادقا تماما في حديثه عن دعم القاضي عبد الكريم العرشي، الذي ينتمي إلى أسرة عريقة يعود نسبها إلى قبائل الأعروش زعماء قبائل خولان الطِيال (ضاحية صنعاء الغربية) وهو عالم مهم، تمكن من تكييف الشريعة الإسلامية في قوانين دستورية حديثة. وتشير سيرته إلى أنه أدى دورا معتبرا في فك الحصار عن صنعاء، وعينه الرئيس إبراهيم الحمدي مساعدا لرئيس مجلس القيادة وشغل في عهد المقدم أحمد الغشمي منصب رئيس مجلس الشعب التأسيسي. وسيتولى خلال عهد الرئيس علي عبد الله صالح مناصب أساسية من بينها نائب رئيس الجمهورية وعضو مجلس الرئاسة في الحكم الوحدوي ورئيس مجلس الشورى، وسيتصرف أحيانا باستقلال نسبي فقد دعا يوما، الدكتور حسن اللوزي وزير الإعلام  لمساءلته في مجلس الشورى، لكن اللوزى رفض الدعوة وتوجه إلى المطار في مهمة خارج البلد، فكان أن أصدر العرشي قرارا بمنعه من السفر وأرسل القرار إلى أجهزة المطار، الأمر الذي استدعى تدخل رئيس الجمهورية، وطلب السماح ثلاثة أيام للوزي يعود بعدها للمثول أمام المجلس وهو ما تم بالفعل.

صالح يهدد بإسقاط طائرة الشيبة

سيتولى العرشي رئاسة الجمهورية لأسابيع ثلاثة هي الفترة الفاصلة بين اغتيال الغشمي وانتخاب المقدم علي عبدالله صالح رئيسا للجمهورية، وقد شهدت الأسابيع الثلاثة تفاصيل محلية وإقليمية جديرة بأن تروى.

روى لي اللواء علي محسن الأحمر في صيف العام 1997 ما جرى في الساعات الأولى التي تلت اغتيال الغشمي، في مقيل خاص امتد لأكثر من خمس ساعات، على هامش إعداد كتابي "اليمن: الثورتان. الجمهوريتان. الوحدة 1962 1994"، قال اللواء: "علمت بخبر اغتيال المقدم أحمد الغشمي بعيد اغتياله بقليل. اتصلت فورا بالرائد علي عبد الله صالح في تعز. كان يستعد لاستقبال رئيس أركان الجيش المقدم علي الشيبة ليوزعا معا أوسمة للعسكريين المستحقين. توجه الشيبة إلى مطار المفرق في تعز لهذه الغاية، لكنه علم باغتيال الغشمي في أثناء تحليق الطائرة في أجواء المدينة، فأمر الطيار بالعودة فورا إلى صنعاء، علم صالح بعودة الطائرة فطلب من الشيبة الهبوط في مطار المفرق للعودة إلى صنعاء مع العائدين. رفض الشيبة، ساعتئذ اتصل صالح بالطيار وهدده بإسقاط الطائرة بصاروخ أرض جو إن لم يعد إلى تعز، فكان أن عاد هو ومن معه ورجع الجميع إلى صنعاء جوا". 

ويعلق اللواء علي محسن بالقول: "ما كان لدى صالح صواريخ أرض جو في ذلك الحين"، كانت خدعة ذكية غيرت وجه الأحداث اليمنية لأكثر من ثلث قرن. 

التحق الرئيس علي عبد الله صالح الساعة الثانية عشرة من بعد ظهر اليوم نفسه 24 جزيران/ يونيو عام 1978 باجتماع في مبنى الأركان العامة، يضم قادة القطعات العسكرية الكبرى ورئيس مجلس الشعب التأسيسي ورئيس مجلس الوزراء. اقترح صالح بأن يكون عبد العزيز عبد الغني رئيسا للجمهورية لكنه رفض، فاقترح المقدم عبد العزيز البرطي أن يكون المقدم علي صالح الشيبة رئيسا للجمهورية وقائدا عاما للقوات المسلحة، وافق الشيبة لكن الاقتراح لم يحظ بموافقة المجتمعين.

في هذا الوقت، اقترح أحدهم تشكيل مجلس جمهوري مؤقت من أربعة اشخاص يتولى السلطة لثلاثة أشهر، واقترح الرئيس علي عبد الله صالح أن يكون القاضي عبد الكريم العرشي رئيسا له. صوت المجتمعون على الاقتراح بالإجماع، واختير العرشي رئيسا، وعلي صالح الشيبة عضوا، وعبد العزيز عبد الغني، وأخيرا علي عبدالله صالح، الذي طرح اسمه المقدم محمد ضيف الله.

طالب القاضي العرشي بتعديل الدستور لكي يصبح قائدا عاما للقوات المسلحة وطالب بضمانات أمنية، لكن أحدا ما، كان بوسعه ضمان أحد في حينه. في اليوم التالي لتوليه الرئاسة أصدر العرشي قرارا بتعيين المقدم علي صالح الشيبة قائدا عاما للقوات المسلحة والرائد علي عبدالله صالح رئيسا للأركان، بعد ترفيعه إلى رتبة مقدم، وبعد أسابيع ثلاثة سيكون مرشحا منفردا لرئاسة الجمهورية، وسيحظى بالإجماع ما خلا صوتا واحدا هو صوت الناصري محمد عبد الرحمن الرباعي، الذي سيعارض صالحا حتى اليوم الأخير في حكمه.     


التعليقات (0)