كتاب عربي 21

عملية "سيرلي".. جريمة ضد الإنسانية.. مفاهيم ملتبسة (19)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
تتأتى أهم عناصر الالتباس حول مسألة الحقوق الإنسانية من تطبيقات هنا وهناك تدعي زوراً أنها تضمن هذه الحقوق الإنسانية، وتدافع عنها وتحميها، وهي في حقيقة الأمر تقوم بانتهاكها ليل نهار. ومن خلال انتقائية معايير ظالمة تبدو لنا هذه الأمور أكثر ما تبدو في هذا الوضع المركب من الموقف من حقوق الإنسان، سواء من بلاد يحكمها مستبدون أو من أخرى تدعي الحرية والدفاع عن حقوق الإنسان.

تمثل هذه الحالة المركبة "عملية سيرلي"؛ هذه العملية التي ستكون موضع اهتمامنا في هذا المقال، فهي تستدعي أطرافاً مركبة انتهكت حرمة الإنسان واستخفت بحياته في سياق تعاون مشبوه له من الدواعي بين نظامين؛ نظام الثالث من تموز/ يوليو في مصر، ونظام ماكرون وسابقه في فرنسا.

هذا التركيب إنما يتأتى من دعاوى حملها الاثنان حينما يدّعيان مكافحة الإرهاب، ثم بعد ذلك يتبين في المحصلة هذه أنها استهانة بأرواح ونفوس بشرية يمكن أن تصل إلى الآلاف من خلال عمليات عسكرية وجهود استخباراتية. كانت منطقة الصحراء الغربية مسرحاً لذلك الانتهاك المركب من النظامين، حينما كشف ذلك التقرير المهم الصادر في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي عن "موقع ديسكلوز الفرنسي"؛ عن عمليات القتل الممنهج لأعداد تتراوح بين المئات والآلاف وفقا لتقديرات مختلفة، وهي تعبر عن كيف أن منظومة حقوق الإنسان يُعبث بها من خلال تلك الادعاءات الزائفة والباطلة من مستبد في بلادنا ومن مدعي ديمقراطية أو الدفاع عن حرية التعبير في بلاد الغرب، ضمن نظرة تحاصر المفهوم وتنتهكه بشكل فادح وفاضح من خلال دعاوى خطيرة وحقيرة.
نظام احترف الكذب والإجرام وانتهاك الحقوق الأساسية الإنسانية، وإن كانت هذه المرة الاتهامات موثقة وفيها شركاء من الخارج، فالجريمة تتمثل في مقتل مصريين قصفاً بالطائرات بدون محاكمة بمعاونة الحكومة الفرنسية

طالعتنا وسائل الإعلام الدولية بالاتهام الرسمي المستحق للنظام المصري بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وهي ليست المرة الأولى، وللأسف الشديد لن تكون الأخيرة في ظل استمراره على نفس النهج والآليات والقيم والسياسات. فهو نظام احترف الكذب والإجرام وانتهاك الحقوق الأساسية الإنسانية، وإن كانت هذه المرة الاتهامات موثقة وفيها شركاء من الخارج، فالجريمة تتمثل في مقتل مصريين قصفاً بالطائرات بدون محاكمة بمعاونة الحكومة الفرنسية. وعلى الرغم من أن الجريمة تم اكتشافها في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، إلا أنها عادت للأضواء مجددا مع الجهود المكثفة والمباركة التي يبذلها حزب "أمل مصر- تحت التأسيس" في مواجهة النظام المصري عبر المسار القضائي في المحافل الدولية.

فقد تم الكشف عن القضية التي تقدمت بها كل من منظمة "حركة مصريون في الخارج من أجل الديمقراطية" و"منظمة كود بينك" بدعم من "حزب أمل مصر" أمام القضاء الفرنسي وأمام الأمم المتحدة؛ حيث أقيمت الدعوى أمام قسم الجرائم ضد الإنسانية في محكمة باريس، وثلاث دعاوى أمام الأمم المتحدة؛ أولها لدى المقرر الخاص بالقتل خارج إطار القانون، والثانية أمام المقرر الخاص بالتعذيب، والثالثة أمام المقرر الخاص بحماية حقوق الإنسان أثناء مكافحة الإرهاب. وتهدف الشكاوى للمطالبة بالتحقيق في تورط مسؤولين مصريين وتواطؤ مسؤولين فرنسيين في جرائم ضد الإنسانية في مصر جراء العملية سيرلي.

العملية سيرلي التي تشكل أساس الطعون هي عملية أمنية استخباراتية بين مصر وفرنسا بدأت في شباط/ فبراير 2016م، تنفيذاً لاتفاقية سرية بين الحكومة الفرنسية والسلطات المصرية، بمقتضاها تزود فرنسا مصر بمواقع وإحداثيات خاصة في منطقة الحدود المصرية الليبية بطول 120 كيلو مترا، وبناء على هذه المعلومات قصفت الحكومة المصرية مئات الحافلات منذ ذلك التاريخ، الأمر الذي أسفر عن مقتل مئات، وفي بعض التقديرات آلاف المصريين ممن يعملون بالتهريب في هذه المنطقة، بدعوى مكافحة الإرهاب.

التورط الفرنسي في هذه القضية ثابت وفقا لمئات من التقارير والوثائق التي كشف عنها موقع ديسكلوز الفرنسي، من أجهزة مكتب الرئاسة الفرنسية ووزارة الدفاع وأجهزة المخابرات العسكرية الفرنسية، إضافة إلى تأكيد فريق الدفاع لحزب أمل مصر أن هناك العديد من المناسبات في أعوام 2016 و2017 و2018 و2019، التي قام فيها العملاء الفرنسيون خلال إدارتهم لعمليات الدعم للقوات المصرية بإبلاغ مشرفيهم بأن العملية لا تتعلق بمكافحة الإرهاب، وإنما هي جرائم ضد الإنسانية، إذ يتم استهداف مهربين -يمكن تقديمهم للمحاكمة بسهولة ويسر- بالطيران والقصف المباشر. ولكن جاء الرد الفرنسي بإجراء تحقيق داخلي لمعرفة مصدر تسريب المعلومات، باعتبارها مسألة أمن قومي فرنسي وتضر بالقوات في مهمات خارج البلاد.
التورط الفرنسي في هذه القضية ثابت وفقا لمئات من التقارير والوثائق التي كشف عنها موقع ديسكلوز الفرنسي، من أجهزة مكتب الرئاسة الفرنسية ووزارة الدفاع وأجهزة المخابرات العسكرية الفرنسية

يعد ذلك المسار القضائي الذي اتبعه حزب أمل مصر ومعاونوه من المنظمات فرصة لتذكير العالم بجرائم نظام الثالث من تموز/ يوليو، وفضح وتعرية النظم الغربية -الليبرالية- التي لا تكف عن الطنطنة بالحقوق والحريات، والتي تدعم مثل هذه النظم الاستبدادية رعاية لمصالحها وتعظيما لمكاسبها. فمثل هذه القضايا هي التي تكشف عن أسباب شراء مصر للطائرات وحاملة الطائرات الفرنسية بمئات ملايين الدولارات، فلم تأت هذه الطائرات لحماية الأمن القومي المصري كما يروج المنقلب، أو أنها مثلت ردعا لأعداء مصر كما يحلم ويتمنى مؤيدوه، أو أوقفت التهديدات التي تستهدف تقليص مواردها وحصارها من الخارج كما يجب أن يكون، ولكن اتضح الآن جليا الهدف من هذه الصفقات الملطخة بدماء المصريين، فما كان لفرنسا أن تصمت عن هذا التوريط في جرائم من مثل هذا النوع إلا لأنها قد حققت مصالحها وحصلت على ثمن سكوتها وقبولها بالمشاركة في مثل هذه الجريمة التي يندى لها الجبين، فالتهريب مدان من كل طريق ولكن هذه الإدانة لا تعني الإعدام الفوري بدون محاكمة.

وإن كان ذلك المسار قد كشف تواطؤ فرنسا وتغليبها لمصالحها الأنانية على حساب القيم الإنسانية، فإنه أثبت بما لا يدع مجالا للشك عن المدى الذي يمكن أن يذهب إليه نظام الثالث من تموز/ يوليو لترسيخ أوتاده وتثبيت أذرعه والحفاظ على كيانه واستمراره، على حساب الأمن القومي أو الموارد الوطنية أو الإنسان أو الإنسانية والدستور والأخلاق والنظام العام. ففي سبيل ذلك ارتكب هذا النظام الموبقات جميعا، ففرط في أمن العباد وسمح للدول الأجنبية أن تكشف سماء البلاد بل ووضعها تحت سيطرتها، مرتكبا جرائم ضد الإنسانية إزاء مواطنيه؛ بعضهم قد يكون كل جريمته حمولة سجائر ببضعة آلاف من الجنيهات، أو مجرد السفر عبر هذه الدروب للعمل في ليبيا بعدما تقطعت به سبل السفر الطبيعية، ويأتي هذا النظام الذي يحترف الكذب والإجرام ليقصفه بالطائرات ويطالبه بسداد ثمنها.
لا يمكن القبول بأن تمر هذه الجرائم بلا حساب أو عقاب، فهي جرائم ضد الإنسانية ومن ارتكبها يجب أن يدفع الثمن. إن القبول بمرور مثل هذه الجرائم وتمريرها ستكون نتائجه كارثية على الجميع، فلا يمكن السكوت أو الصمت عن مثل هذه الجرائم التي ارتكبت ضد عُزل

إن قضية سيرلي ومثلها من جرائم ارتكبها هذا النظام في رابعة وأخواتها سابقاتها ولاحقاتها يجب أن يتوقف أمامها الجميع المؤيد والمعارض، فلا يمكن القبول بأن تمر هذه الجرائم بلا حساب أو عقاب، فهي جرائم ضد الإنسانية ومن ارتكبها يجب أن يدفع الثمن. إن القبول بمرور مثل هذه الجرائم وتمريرها ستكون نتائجه كارثية على الجميع، فلا يمكن السكوت أو الصمت عن مثل هذه الجرائم التي ارتكبت ضد عُزل يمكن أن لا تتجاوز عقوبة بعضهم إذا ما عرض أمام القضاء -الحالي- البراءة أو غرامة مالية، إلا أن النظام المصري أبى واستكبر وارتكب جريمته النكراء باغتيال وقصف أبناء الوطن بالأسلحة الثقيلة التي يدفع الشعب ثمنها على حساب قوت يومه واقتصاده ومستقبل أبنائه واستقلال بلاده.

كل ذلك الذي أوضحناه ضمن حقوق الإنسان التأسيسية وحقه في الحياة الذي يتعرض للتهديد في النظم المستبدة وبمساعدة أنظمة مسكونة بالعنصرية وانتقائية المعايير، وهو ما أدى في النهاية إلى سلوك يتمثل في استهانة بالغة واستخفاف بالحياة الإنسانية. وهو انتهاك واضح وصريح لتلك النفس الإنسانية ضمن ممارسات غاشمة وظالمة، ومن ثم فإن متابعة تلك الانتهاكات بقضايا من بني الإنسان، سواء تعلق ذلك ببعض الناشطين أو ببعض من المحامين وبعض من الإعلاميين، إنما يشكل في حقيقة الأمر إحياء لقضايا هذه النفوس التي أزهقت، وتحذيرا مستقبليا من تلك السياسات التي تستهين بحياة الإنسان، فحياة الإنسان بين استهانة واستخفاف وقتل، وحماية وإحياء وتكريم، "مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً" [المائدة: 32].

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)