مقالات مختارة

عن التوازن النووي في الشرق الأوسط: الفصل بين امتلاك التكنولوجيا والسلاح

إبراهيم نوار
1300x600
1300x600

الخلل في توازن القوى الحالي في الشرق الأوسط، الناتج عن أن إسرائيل تتمتع فيه بمزايا احتكار السلاح النووي، والتفوق العسكري النوعي الساحق على جيرانها، وضمان تدفق الأسلحة المتقدمة إليها بلا حدود عبر شريان المساعدات الأمريكية، يمثل وصفة مثالية لاستمرار هيمنة الصراع وليس التعاون، على العلاقات الإقليمية، وتصاعد التوتر على جبهات النزاع المختلفة، من قضايا الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، إلى صراعات استغلال مصادر الثروات الطبيعية، بما فيها ترسيم حدود المناطق الاقتصادية البحرية الخالصة، وصولا إلى صراعات السيطرة من أجل رسم صورة مستقبل التعاون الإقليمي، وتغيير نظم الحكم في المنطقة بما يخدم مصالح إسرائيل وحدها، وما يجعلها محرك التغيير السياسي الإقليمي.

التوازن النووي

ترى إسرائيل استقرار المنطقة من نافذة واحدة فقط، هي نافذة تحقيق شروط أمنها القومي وحدها، وإزالة كل ما يهدد ذلك، وتوظيف الآخرين لتحقيق هذه الأهداف، مقابل تثبيت أنظمة وعروش الحكام. وما موضوع السلاح النووي الإيراني إلا مجرد واحد من موضوعات الصراع الأخرى المرتبطة بتحقيق أهداف الأمن القومي الإسرائيلي.
نظرة إسرائيل إلى احتمال امتلاك إيران للسلاح النووي لا تنصرف إلى امتلاك السلاح نفسه، ولكنها تنصرف أصلا إلى امتلاك القدرات التكنولوجية النووية بإتقان وبغير حدود. وفي المقابل فإن إيران نجحت خلال السنوات الأخيرة في قطع خطوات مهمة لدمج التكنولوجيا النووية عضويا في بنية الاقتصاد، من الزراعة إلى صناعة الطاقة الجديدة، رأسيا وأفقيا، بحيث تكاملت إلى حد كبير سلاسل الإمدادات التكنولوجية والهندسية والاقتصادية على المستوى المحلي، من صناعة أجهزة الطرد المركزي، وتطوير بناء سلاسل التخصيب، إلى خلق تطبيقات تكنولوجية متنوعة في مجالات الحياة المختلفة، وصولا إلى البدء في تصنيع محطات صغيرة لإنتاج الطاقة النووية. ويمكن القول بأن الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية أصبحت ذراعا رئيسيا من أذرع التنمية.

إنهاء الاضطهاد النووي

هذا التناقض الحاد بين رغبة إسرائيل في احتكار التكنولوجيا والسلاح، وقدرة إيران على تطوير امتلاك وإتقان التكنولوجيا النووية، وصولا إلى بناء القدرة على امتلاك السلاح، مع الامتناع إراديا عن ذلك لأسباب تتعلق بالقيم والشريعة، يخلق صراعا ممتدا غير قابل للحل؛ فالتكنولوجيا النووية بطبيعتها هي تكنولوجيا ثنائية الاستخدامات (مدنية – عسكرية). وفي ظل تقدم التكنولوجيا النووية عالميا فإن الحرمان منها يتناقض مع منطق التقدم في اتقان استخداماتها. من هذا المنظور يبرز بُعد رئيسي من أبعاد الالتباس في المجهود العالمي لحظر انتشار الأسلحة النووية؛ فهذا الحظر يجب أن يقوم على أسس ومعايير لا تتناقض مع الحاجة إلى امتلاك وإتقان التكنولوجيا النووية، ولتحقيق ذلك فإنه من الضروري إعادة صياغة مفهوم وآليات حظر امتلاك واستخدام الأسلحة النووية على الأسس الثلاثة التالية:


أولا: يجب أن لا تكون وظيفة الوكالة الدولية للطاقة النووية هي ممارسة ما نسميه "الاضطهاد النووي" بتكريس احتكار السلاح النووي لصالح الدول الأعضاء رسميا في "النادي النووي"، ولكن أن تكون وظيفتها هي التخلص من السلاح النووي تماما، ووضع المعايير اللازمة لعدم انتشاره وتحريم استخدامه في حل الصراعات، لأن آثاره التدميرية تتجاوز حدود الأطراف المتصارعة من حيث المكان الجغرافي، ومن حيث المدى الزمني، إذ تمتد إلى أماكن وأجيال لا علاقة لها بصراعات قائمة؛ فأي خطر نووي في أوكرانيا يهدد أوروبا والعالم كله، وما تزال في اليابان أجيال تدفع حتى الآن تكلفة القنبلتين النوويتين اللتين أسقطتهما الولايات المتحدة على هيروشيما وناكازاكي. ومع ذلك فإن دول "النادي النووي" تعتبر أن لديها الحرية المطلقة في تطوير ترساناتها النووية نوعيا وكميا، بإنتاج أسلحة نووية تكتيكية، ورؤوس نووية أشد فتكا، وأجهزة حاملة للأسلحة، أكثر دقة وأسرع من الصوت بأضعاف مضاعفة.


ثانيا: إن معايير حظر امتلاك واستخدام الأسلحة النووية يجب أن لا تنطوي على حرمان الدول النامية من امتلاك وتطوير تكنولوجيا نووية؛ فهذه التكنولوجيا باتت ضرورية لتطوير مجالات اقتصادية كثيرة في نواحي الحياة المختلفة، من مقاومة الآفات الزراعية، وحفظ الحبوب والخضروات والفواكه، إلى التصنيع، إلى الرعاية الصحية وعلاج أمراض مستعصية مثل السرطان، إلى إنتاج الكهرباء والطاقة غير التقليدية، وإنتاج الوقود النووي الصالح لتشغيل أجيال جديدة من المحركات التي تعمل بالطاقة النووية، مثل محركات تشغيل الغواصات على سبيل المثال، التي تحتاج إلى وقود نووي مخصب بنسبة 90% أو أكثر. وفي هذا السياق يجب ألا يقتصر تحقيق السلام النووي على مجرد حظر امتلاك واستخدام الأسلحة النووية، ولكن أن يشمل أيضا توفير مقومات "الأمان النوعي" الكافية لتحقيق أمان استخدام المواد النووية، وهو ما يعني ألا تقتصر معايير الأمان على معاملات كمية مثل خفض تخصيب اليورانيوم إلى درجة معينة.

ثالثا: يجب على الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهي تمارس وظائفها في منع انتشار الأسلحة النووية ألا تكيل بمكيالين، وألا تتسامح مع تعزيز وتوسيع نطاق الترسانات النووية الموجودة فعلا، وألا تغمض عينيها عن الدول غير المشاركة في المعاهدة الدولية لحظر الانتشار النووي. وكذلك أن تأخذ في اعتبارها أن قرار امتلاك سلاح نووي هو قرار سياسي بحت، يتم بحثه على هذا المستوى، في مجلس الأمن الدولي، وليس بواسطة الوكالة، حتى لا يتم استخدامها كذراع سياسي للدول المحتكرة للأسلحة النووية، وممارسة "الاضطهاد النووي" ضد غيرها تحت عباءة القانون الدولي.

فساد المقاربة النووية الإسرائيلية

تعلم إسرائيل أن امتلاك إيران للسلاح النووي قد أصبح مسألة "قرار سياسي" ولم يعد "مسألة وقت". وتدرك أن ذلك يضع أساس توازن جديد للقوى في الشرق الأوسط، يقوض هيمنتها الإقليمية. في افتتاحية صحيفة "جيروساليم بوست" يوم الجمعة 12 من الشهر الحالي، عبرت إدارة الصحيفة عن شكوكها في قرب التوصل إلى اتفاق نهائي بخصوص عودة إيران والولايات المتحدة لاتفاق عام 2015، وأعربت عن أملها في أن يتضمن نص وثيقة العودة معايير تضمن أمن إسرائيل، وذلك بحرمان إيران للأبد من امتلاك القدرة على صناعة سلاح نووي. وقالت إن إسرائيل تعتمد في تحقيق ذلك على تحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة، وتعاونها الجيد مع إدارة الرئيس الحالي جوزيف بايدن. وأضافت أن إسرائيل تؤيد الجهود الأمريكية لتوفير الأمن للمنطقة، وتتوقع ألا تصبح إيران قادرة أبدا على امتلاك أسلحة نووية. وحددت الافتتاحية أهم دواعي قلق إسرائيل حاليا، في أن إيران تمكنت من تطوير أجهزة طرد مركزي متطورة لتخصيب اليورانيوم، وأنها نجحت في التخصيب إلى معدلات مرتفعة كثيرا عما نص عليه الاتفاق الأصلي. وقالت إن المسؤولين الإيرانيين أكدوا في تصريحات أخيرة أن بلدهم يمتلك المواد والوسائل اللازمة لصنع سلاح نووي، لكنهم لم يقرروا ذلك. وذكرت أن ذلك يثير المخاوف من أنه في حال أي اتفاق جديد أو العودة للاتفاق القديم ، فإن إيران تستطيع مواصلة "ابتزاز القوى الغربية" للحصول على تنازلات أكثر. وحذرت من أنه في كل الأحوال، تستطيع إيران بعد انتهاء أجل الاتفاق، أي بعد سنوات قليلة، أن تنتج الأسلحة النووية بلا قيود. وينطلق التحليل الإسرائيلي للموقف الآن بالنسبة للمفاوضات النووية من أن حرب أوكرانيا زادت في تعقيد الأمور، حيث أصبحت واشنطن غير راغبة في تصعيد أزمة أخرى في الشرق الأوسط، بينما الحرب الأوكرانية مستمرة، وأن العملية العسكرية الأخيرة في غزة كانت بمثابة استعراض للقوة من جانب طهران، أرادت بها تأكيد أن "أصغر وكلائها"، يستطيع إثارة الارتباك في المنطقة كلها. وتساءلت كيف يكون الأمر إذن إذا تحرك وكلاء أقوياء مثل حزب الله في لبنان، أو الحوثيين في اليمن، أو الحشد الشعبي في العراق، أو مجموعات الحرس الثوري في سوريا؟ واستخلصت الصحيفة في افتتاحيتها أن إيران تسعى إلى إخراج الولايات المتحدة من المنطقة، وأن التهديد النووي الإيراني ما هو إلا واحد من التهديدات وليس كلها، وأكدت أن أي اتفاق مع إيران يجب أن يتعامل مع كل التهديدات، وليس مع التهديد النووي فقط، بما في ذلك البرنامج الصاروخي، وبرنامج إنتاج طائرات الدرونز، وأنشطة إيران لزعزعة الاستقرار الإقليمي عن طريق حلفائها في المنطقة. هذه الافتتاحية تمثل عينة مكثفة من تفكير القيادة ومراكز صنع القرار الإسرائيلية، تجاه ما يعتبر جوهر نظرية الأمن القومي الإسرائيلي. هذه النظرية تعتقد أن السلام يتحقق باحتكار القوة، بما فيها القوة النووية، وقهر الشعوب الأخرى. إن المطابقة بين احتكار إسرائيل للسلاح النووي وتحقيق أمنها القومي، يكشف عن فساد المقاربة السياسية الإسرائيلية للتوازن في الشرق الأوسط، وضرورة مراجعة جوهر هذه المقاربة، وإسقاطها، من أجل تحقيق توازن إقليمي جديد، يوفر عوامل الأمان والاستقرار، ولا يكون وصفة لاستمرار النزاعات والحروب.

 

القدس العربي

0
التعليقات (0)