كتب

مجنون ليلى في مرآة الاستشراق الأدبي.. أندريه ميكيل نموذجا

أندريه ميكيل ضمن قائمة المستشرقين الذين اجتهدوا في خدمة الثقافة العربية بإخلاص
أندريه ميكيل ضمن قائمة المستشرقين الذين اجتهدوا في خدمة الثقافة العربية بإخلاص

الكتاب: ليلى يا عقلي
الكاتب: أندريه ميكيل، ترجمة أبو بكر العيّادي
الناشر: مركز أبو ظبي للغة العربية
عدد الصفحات: 190

1 ـ الاستشراق من زاوية الفنون


يرتبط الاستشراق عامة بعمل المثقف الغربي على توسيع معارفه بحياة الشرق واهتمامه بدراسة حضارته أو استلهامها في فنونه. ويظل موضوع جدل مستمر بين مباركة تجده مفيدا لثقافتنا العربية بما كشف من مكنوناتها، وتُكبر تجشّم أعلامه لإكراهات البحث في المسالك المتشعبة البعيدة عن تراثهم الكلاسيكي، وتحفّظ يجد في أعمال أصحابه قصورا عن فهم روح الثقافة الشرقية، أو إسقاطا متعسّفا لتمثلات الثقافة الغربية عليها ورفضا؛ لكونه، من وجهة نظر خاصة، أداة استعمارية تعمل على تأبيد حالة التّسامي الثقافي لدى الغرب على باقي شعوب العالم، وتتواطأ تواطؤا مقصودا لترسيخ صورة للمسلم المكبوت جنسيا والمعادي للمرأة، أو المدفوع بنزعات فطرية للإرهاب.

والاستشراق الفني على أهميته، مهمل لا يكاد ينتبه إليه غير المختصّين؛ فقد كان عنصر جذب للسينمائي الغربي، وكثيرا ما بدت الكاميرا في أفلامه منبهرة بكنوز الشرق المادية أو التاريخية أو الباطنية الروحية. أما الاستشراق التشكيلي الذي يستعين بخرافاتنا وأساطيرنا ليحرر الفرشاة من العقلانية الغربية الآسرة، فكان مرحلة لا بدّ منها في كثير من المدارس التشكيلية. ولم يكن هذا النّمط المخصوص من الاستشراق بعيدا عن دائرة الاتهام بدوره، فلم يخل من تسريب صور سلبية عن العربي المسلم، تجعله جاهلا يسبح في ثروات لا يحسن التعاطي معها، فيعيش الفقر والتخلف في ظل سلاطين يقصرون همّهم على عالم الحريم ويغرقون في الشهوات الحسية.

2 ـ رواية "ليلى يا عقلي" صورة من الاستشراق الروائي

لقد قادنا إلى موضوع الاستشراق الروائي، وقوعُ النسخة العربية من رواية "ليلى يا عقلي" للمستشرق الفرنسي أندريه ميكيل بين أيدينا؛  فقد صدرت منذ أشهر قليلة بعد أن ترجمها بإتقان الروائي والمترجم التونسي أبو بكر العيّادي. ويمكن أن نعرّفه بكونه تلك النزعة إلى تصوير الشرق باستلهام حكاياته البديعة كألف ليلة وليلة وسائر الأخبار الأدبية. ولنا في خبر "غناك بمصر فاذهب إليها" الوارد في ألف ليلة وليلة، وفي "الفرج بعد الشدة" لأبي الفرج التنوخي خير مثال؛ فقد اقتبسه كل من خورخي لويس بورخس في أقصوصته "حكاية الحالمين" من مجموعته "مرايا ومتاهات"، والبرازيلي باولو كويلهو في روايته الشهيرة "الخيميائي". 

أما الإيطالي أمبرتو إيكو، فقد استلهم رائعته "اسم الوردة"، لتكون رواية استشراقية بالمعنى الصريح، من حكاية صغيرة من حكايات ألف ليلة وليلة، وصنع من خلالها مجدا أدبيا. 

ويمكن أن نضع أندريه ميكيل، تلميذ المستشرق الكبير "ريجيس بلاشير"، ضمن قائمة المستشرقين الذين اجتهدوا في خدمة الثقافة العربية بإخلاص؛ فقد جعل من بعض فصول "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" للمقدسي، موضوعا لأطروحته الأولى للدكتوراه. وأنجز أطروحة ثانية بعنوان "الجغرافيا البشرية للعالم الإسلامي حتى منتصف القرن الحادي عشر للميلاد"، وترجم "كليلة ودمنة" إلى الفرنسية، واشترك مع جمال الدين بن الشيخ في ترجمة "ألف ليلة وليلة". وفي سنة 1984 أصدر روايته "ليلى يا عقلي"، فعاد من خلالها إلى أخبار المجنون في تراثنا الأدبي واستند إلى شعره واستلهم منه قصصا فرعية ليسدّ الفراغات التي تركتها كتب الإخباريين، ليصوغ حكاية العشق الأشهر في تاريخنا الأدبي روائيا. ورغم حرصه الشديد على الوفاء لروحها العربية، ظل المنظور الغربي فيها قائما.

3 ـ حكاية الحكاية

تتابعت أحداث الرواية على مدى سبعة عشر فصلا. فتُستهلّ بولادة طفلٍ للملوّح، أحد أعيان بني عامر عند سفح جبل التوباد قريبا من المدينة المنورة. ويقرر تسميته قيسا تيمنا بأحد أجداد العرب الغابرين، متضرعا للسماء لتبارك الصبي. ويعيش الطفل حياة البدو البسيطة في الصحراء، وتنشأ بينه وبين ليلى صداقة بريئة لما كانا يرعيان الأغنام معا. وعند وصولهما لسن الشباب يُحال بينهما. فتلتحق ليلى بخدور النساء وينصرف قيس إلى صياغة قصائده الأولى، فيلقى تشجيع والده، ويظل يجول بين منابر الشعراء ويتقصى أخبارهم، فيتأثر خاصة بقصة حب ليلى الأخيلية التي عشقها توبة ومُنع من الزواج منها، فتحوّل إلى زعيم عصابة وقاطع طريق؛ انتقاما من القيم التي حرمته ممن يحب. وبدأت صورة المرأة المثالية تتشكّل في ذهنه، تلك التي سيسقطها لاحقا على ليلى: امرأة جميلة وقاسية وخطيرة، بما أنها قادرة على أن تسلب لبّ الشاعر وتصرفه عن عامّة عالمه. 

وبعد أن يضرب في أنحاء مختلفة من البلاد العربية لسنتين حاول خلالهما أن يتعلّم الحياة من كتاب الترحال، عاد إلى القبيلة والتقى ليلى ثانية وقد شبّت، فإذا بحبها يأخذ بمجامع قلبه في شكل كشف يُقذف في صدره دفعة واحدة، ليكون طاقة منفلتة لا يستطيع أن يسيطر عليها أو يتحكّم فيها. ويحصل المحظور؛ فيذكر اسمها ويخالف العرف العربي الذي يعتبر ذكر اسم المرأة في الغزل إساءة كبرى تلطّخ شرفها وشرف أهلها، ويعاقب عاشقها بمنع زواجه منها. وذلك ما كان من المهديّ، فلم تجْدِ مختلف محاولات إثناءه عن قراره نفعا. ورغم حبسه لليلى ومنعها من التواصل مع عالمها الخارجي، كانت تجد الحيل لالتقاء قيس، فتتعدد خلواتهما ليطّرحا الغرام في مغامرات أقرب إلى مغامرات امرئ القيس أو عمر بن أبي ربيعة في شعريهما منها إلى غزل الشعراء البدو المحافظين.

 

واجه قيس مختلف رموز النفوذ؛ أبا يدافع عن سمعة ابنته أو مجتمعا يحاصر الحب ويجرّمه، أو الخليفة يمارس نفوذه السلطوي. وبات العاشقان يتمرّدان على هذه السلطة تمرّدا واعيا؛ فكلاهما كان يتحدّى مختلف مظاهر المنع ليفرض الاعتراف بالحب ويعلنه على الملأ دون مواربة أو خجل.

 



وكما في قصص سحيم وقيس بن ذريح وجميل بن معمر، يلجأ المهدي إلى السلطات لتصدّ الشاعر العاشق، فيستجيب عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، ويبيح سفك دمه إباحة رسمية إن هو عاد إلى التعرض إلى ليلى بشعره. ولكنّ قيسا لا يرعوي ويشتد به الوجد ويتحوّل إلى جنون لا تفيد معه صلوات الأب في المدينة عسى ابنه ينساها. ويفرض المهدي على ابنته أن تتزوج وردا العقيلي من ثقيف ويأخذها بعيدا إلى الطائف. وتتوسّع الفصول اللاحقة في وصف جنون قيس وحياته في القفر بين الوحوش، وتعرض لعلّة ليلى التي لم تقو على نسيانه، وتبتكر لقاء بينهما بمباركة زوجها الذي يرق لمرضها. ولكن، هيهات؛ فليلى تلك رحلت من قلبه كما رحلت من العشيرة. وحلّت محلها ليلى القصيدة رمزا للعشق الإلهي المطلق، الذي يملأ أرجاء الكون، يقول مخاطبا أمينة مرضعته: "تعرفين أنّ ليلى رحلت، أعني ليلى الأخرى، تلك التي يعرفها الجميع. ولكن ليلى الحقيقية، ليلاي، هي هنا معي". 

4 ـ من جنون الحب إلى العشق الإلهي

عمل أندري ميكيل على الارتقاء بقصة مجنون ليلى إلى مصاف العشق الروحي، وجعلها بذرة أولى لحركة التصوّف التي ستظهر في القرن الثالث للهجرة، في شكل نزعات فردية تدعو إلى الزهد ثم ستتحوّل بعدئذ إلى طرق تنتشر في مختلف أصقاع البلاد الإسلامية. ومن هذه الخلفية، بنى الحكاية على التجاذب بين العقلِ الذي يفرض الانضباط إلى منظومة القيم المشتركة ومدارها هنا على الشرف، والروحِ التي تفيض وتنفلت عن كل ضبط ومحرّكها هنا الحب. 

وحوّل الراوي أحيانا إلى مفكّر يحلّل أبعادها تلك ويوجه القارئ إلى فهمها على النحو الذي ذكرنا. يقول: "أعرف كل مجانين العشق اللاحقين. بالنسبة إلى الفرس، حكايته هي حكاية روح الله تسعى إلى الخلود، وحبه لليلى صورة عن توق عارم لا يلبيه إلا الله. أناس ورعون متعطشون إلى الجنة، يمكن أن نسميهم متصوفة، اتخذوا من بعد من المجنون مثالا، ثم أورثوه لشعب قادم من أعالي آسيا استقرّ على مضائق القسطنطينية الأبية، هم الأتراك. لدى العرب حيث ولد، حمل المجنون وجهين؛ هو لدى بعضهم عاشق لله إلى حدّ الوله. ولدى الآخرين يظلّ شاعرا أعطى العرب أحد أصواتهم المتفرّدة".

5 ـ حكاية مجنون ليلى من منظور استشراقي

لقد بذل أندريه ميكيل جهدا محمودا، فيجمع أخبار المجنون ويحوّلها إلى نصّ سردي يجمع بين الرغبة في تقريب حياة العرب القدماء من القارئ الغربي، وتعريفه بحضارتهم والتأريخ لقصة عشق كونية، والارتقاء بها إلى مستوى الرمز الفنّي. وضمّن روايتَه فهمَه الخاص لها ولكل تجارب العشق التي انتشرت حينها، فقد وجد فيها البدايات الجنينية لفكر التّصوّف. 

ولكنه كثيرا ما وقع تحت تأثير خلفياته الحضارية، وكثيرا ما ابتكر من الأحداث ما لا ينسجم مع الواقع الحضاري العربي؛ فشُكر الملوّح ودعاؤه لتشمل ابنه الرعاية الإلهية، كان أقرب إلى صلوات الكهّان. يقول: "مولاي البرّ العظيم، أحمدك على هذا الطفل الذي وهبتني إياه. جنّبه خدع الدنيا والناس، أنشئه كلّ يوم على مزيد من القوّة والحكمة، ولا تدعه أبدا يغفل عنك! متّعه حين يأزف الأوان بزوجة طيّبة وأبناء كثّر!". 

وكثيرا ما منح قيسا صورة شعراء الحواضر الذين يجعلون الغزل مغامرة تغافل العسس وتتسلل إلى مضارب الحبيبة لتجني لذة مختلسة. وجعل الصراع بين العاشق وأهل ليلى صراعا بين الروح والشرف، غير أنّ المقولة الثانية بدت مزيفة خادعة تقصر شرف المرأة في المحافظة على غشاء البكارة. وبالمقابل، جعل وردا، زوج ليلى، متفهّما لعشقها، فلا يسمح لها بزيارة حبيبها والتّحدث إليه فحسب، وإنما يتواطأ معها في ذلك فيأخذها بنفسه إليه.

6 ـ فيلم "مجنون ليلى" أو عودة الأثر الفني الضال

كانت لرواية "ليلى يا عقلي" حياة ثانية في السينما؛ فقد اقتبسها المخرج التونسي الطيب الوحيشي سنة 1989 وشاركه الروائي نفسه في كتابة السيناريو، فأدخلا على الحكاية تغييرات كثيرة، منها ما كان استجابة لانتظارات المتفرّج؛ فالسينما مجال للصراع المحتدم، وفيها يقتضي كلّ فعل فعلا آخر يعادله في القوة ويعاكسه في الاتجاه، فخلق الفيلم من شخصية الراعي الفقير مُنازلا منافسا لقيس في حب ليلى لا يني يحرّض المهدي عليه، وغدت المواجهة بين قيس والمهدي مادية جسدية، وكثيرا ما وصلت حدّ العنف، وتوسّعت دائرتها فتحولت مرارا إلى مواجهة بين عائلتي الملوّح والمهدي ورجالهما. 

ولكن، من التغييرات ما عكس الاختلاف الجوهري بين رؤيتين للحكاية؛ فقد باتت النسخة السينمائية أقرب إلى الروح العربية، وعوضت ثنائيةُ السلطة والحب ثنائيةَ الشرف المنافق والروح، فقد واجه قيس مختلف رموز النفوذ؛ أبا يدافع عن سمعة ابنته أو مجتمعا يحاصر الحب ويجرّمه، أو الخليفة يمارس نفوذه السلطوي، وبات العاشقان يتمرّدان على هذه السلطة تمرّدا واعيا؛ فكلاهما كان يتحدّى مختلف مظاهر المنع ليفرض الاعتراف بالحب ويعلنه على الملأ دون مواربة أو خجل، فأضحت الحكاية صدى لأصوات فكرية عربية تواجه سلطة المجتمع الذكوري، وتتهمه بمحاصرة المشاعر النبيلة والتحكّم في مصائر الأفراد. 

من هنا نفهم الاختلاف بين عنواني الأثرين؛ فجاءت الرواية بعنوان "ليلى يا عقلي" لتجسّد تطلع أندريه ميكيل لفهم "العقل" العربي الروحاني والعاطفي، ولتبيّن حدوده عند الممارسة الفعلية. أما الطيب الوحيشي، فقد عنون الفيلم بــ"مجنون ليلى"، فقد كان يدرك أنه يتوجّه إلى جمهور عربي أساسا، وكان أكثر انتباها إلى معاني الغزل البدوي التي مدارها الحب الأزلي الأبدي، الذي يسرق من العاشق عقله، وعلى إخلاصه وتذلله للحبيبة وكتمه سرّها وتنزيه علاقته بها على الشهوة الجسدية، فكان يعيد الحكاية إلى منابتها العربية، ويعيدها إلى تربتها الأصلية بعد ضلال.


التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم