مقالات مختارة

عن إسرائيل الحاضرة في حرب أوكرانيا.. وفلسطين الغائبة

عماد شقور
1300x600
1300x600

ليس مفاجئا أن تتصرف أمريكا، إزاء ما تسميه روسيا "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا، على النحو الذي نشاهده. فهذه "العملية" الروسية هي الخطوة العملية الأولى في برنامج إزاحة الولايات المتحدة عن موقع التفرد على قمة الهرم العالمي.

 

ويعلمنا التاريخ أنه لم يحدث أن تنازلت أي إمبراطورية عن موقعها ومكتسباتها وهيمنتها عن طيب خاطر. نجحت روسيا بقيادة زعيمها، فلاديمير بوتين، منذ توليه السلطة، باعتماد مبدأ الإقدام والمبادرة، وترَكَ للإمبراطورية الأمريكية ممارسة "ردود الفعل".

 

حصل هذا منذ مواجهة روسيا للأحداث في الشيشان، ثم في جورجيا، ولاحقاً في أوكرانيا سنة 2014، حيث كانت أبرز نتائجها "استعادة شبه جزيرة القرم الى حضن أمها روسيا"، وتوفير الحماية لمقاطعتين في شرق أوكرانيا، غالبية سكانهما من الروس.


لكن "المبادرة" الروسية الحالية، التي انطلقت قبل ثلاثة اسابيع، مع تخطي جنازير أول دبابة روسية للأراضي الأوكرانية، شكلت الخطوة الحاسمة في مسلسل الصراع الروسي، لفرض “نظام دولي” جديد، متعدد الأقطاب، ينهي نظام الاستفراد الأمريكي، العسكري والاقتصادي، في عالم “القطب الواحد”.


لم تتأخر ردود الفعل الأمريكية، الباهتة، على المبادرة الروسية، وتمثلت هذه بفرض “عقوبات اقتصادية” على روسيا. ونقول "باهتة" لأن أمريكا، بالذات، مارستها مرارا وتكرارا، ولم تكن غير مُجدية، فقط، بل إنها أعطت نتائج عكسية تماماً. من التاريخ ومن الحاضر، نتعلم من الإغداق بالمساعدات الاقتصادية، ومن فرض العقوبات الاقتصادية، أن الإغداق مثمر ومفيد، في حين أن فرض العقوبات مُضر ويعطي دائماً نتائج عكسية:

 

ـ أقدمت إدارة الرئيس الأمريكي هاري ترومان، سنة 1947، اي بعد عامين فقط من انتهاء الحرب العالمية الثانية، على إقرار “مشروع مارشال”، (ومارشال هو الجنرال جورج مارشال، رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي أثناء الحرب العالمية الثانية، ووزير الخارجية الأمريكي منذ كانون الثاني/يناير 1947، والذي أعلن مشروعه بنفسه يوم 5 حزيران/ يونيو من ذلك العام). وسمي المشروع، في حينه، "المشروع الاقتصادي لإعادة تعمير أوروبا" بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

 

وبلغت قيمة المشروع 12.9925 مليار دولار، (ما يعادل نحو خمسين ضعف ذلك المبلغ في أيامنا). وكانت نتيجة ذلك أن أصبحت أوروبا (الغربية طبعا)، بفضل مشروع مارشال الحليف القوي لأمريكا.


ـ في مقابل مشروع “الإغداق” الأمريكي السخي، والمُثمر، على دول أوروبا الغربية، أقدمت أمريكا، في بداية عهد الرئيس دوايت آيزنهاور، (وربما بتحريض من بريطانيا)، على فرض شروط لتمويل بناء سد أسوان (السد العالي) في مصر، رفضها الزعيم المصري العربي، جمال عبد الناصر، ووصفها بـ"الشروط الإستعمارية".

 

ولهذا الموضوع قصة لا يضيرنا إعادة التذكير بها. ففي أعقاب ثورة 23 تموز/ يوليو 1952، قدم المهندس المصري من أصول يونانية، أدريان دانينوس، لعبد الناصر، فكرة إنشاء سد في منطقة أسوان، من أجل حجز مياه نهر النيل، منعا للفيضان من جهة، وجمعاً للمياه من جهة ثانية، من أجل أعمال الري واستصلاح الأراضي، ومن أجل توليد الطاقة اللازمة لنمو مصر والانتقال بها الى عصر الصناعة. استساغ عبد الناصر الفكرة، ورحب بها وأقرها مجلس قيادة الثورة، وبدأت عملية البحث عن تمويل بناء السد.

 

وافقت أمريكا وبريطانيا والبنك الدولي على تولي مسؤولية التمويل ولكن بشروط. وعندما رفضت مصر تلك الشروط، سحبت أمريكا وبريطانيا والبنك الدولي عرضهم للتمويل، (وربما كان ذلك أول قرار "عقوبات أمريكية اقتصادية" غبي)، وهو ما سرع في اتخاذ مصر قرارا تاريخيا بتأميم قناة السويس، الذي أعلنه جمال عبد الناصر يوم 26 تموز/ يوليو 1956، والذي كان الذريعة المعلنة لـ"العدوان الثلاثي" الفاشل، (البريطاني الفرنسي الإسرائيلي) على مصر، في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر من ذلك العام.

إيران، وبفضل “العقوبات الاقتصادية” الأمريكية، أقوى، بما لا يقاس، مما كانت عليه قبل فرض تلك العقوبات. وهي أقوى علمياً وعسكرياً، بسلاحَيْ الهجوم والمباغتة، وسلاحَيْ الدفاع والتصدي.

استفاق الرئيس الأمريكي آيزنهاور من “خطيئة” فرض “عقوبات اقتصادية” على مصر، ونجح في تحويلها الى مجرد “خطأ”. وتعاوَنَ مع الزعيم السوفيتي، (من أصول أوكرانية!)، نيكيتا خروتشوف، وفرَضَا، معاً، وقف العدوان على مصر، وانسحاب إسرائيل من سيناء، ومن قطاع غزة الفلسطيني، في حد أقصاه ظهر يوم 15 آذار/مارس 1957. وتم ذلك في موعده بالضبط.


على أن التكفير الأمريكي عن خطيئة/خطأ فرض “عقوبة اقتصادية” على مصر، لم يحمِها من دفع ثمن ذلك. وتقدم الاتحاد السوفيتي بعرض تقديم 400 مليون روبل، أي ما يعادل مئة مليون دولار، (بأسعار ذلك الزمان)، لبناء المرحلة الأولى من سد أسوان. وتم قبول مصر للعرض، واحتفلت مصر يوم 15 يناير/كانون الثاني، (وهو يوم عيد ميلاد عبد الناصرالثاني والخمسين)، باكتمال بناء صرح مشروع “السد العالي” بحضور الرئيسين، عبد الناصر وخروتشوف.


هذا عن التاريخ القريب لمنافع ولمضار “الإغداق” و”فرض العقوبات الاقتصادية”. فماذا عن الحاضر الذي نعيشه هذه الأيام؟ أقرب الأحداث، زمنياً، وأبرزها وأكثرها وضوحاً، هو ما نراه ونلمسه من نتائج “العقوبات الاقتصادية” الأمريكية على جارتنا الأقرب: الجمهورية الإسلامية الإيرانية. هذه “النقمة” التي هللت لها أمريكا دونالد ترامب وجو بايدن، وإسرائيل بنيامين نتنياهو ونفتالي بينيت، هي في حقيقة الحال “نِعمة” دفعت إيران الى الاعتماد على نفسها، وعلى طاقات شعبها. فإذا كانت مصر ذات الخمسة وعشرين الى ثلاثين مليون نسمة، أيام عبد الناصر، ( وهي الآن مئة مليون نسمة)، قد صمدت، بل واستفادت من “العقوبات الاقتصادية الأمريكية”، فماذا عن جارتنا إيران، ذات الما يقارب 85 مليون نسمة، مع مخزون مهول من الطاقة؟ ومع امتدادات عرقية وعقائدية وطائفية منظمة؟


إيران، وبفضل “العقوبات الاقتصادية” الأمريكية، أقوى، بما لا يقاس، مما كانت عليه قبل فرض تلك العقوبات. وهي أقوى علمياً وعسكرياً، بسلاحَي الهجوم والمباغتة، وسلاحَي الدفاع والتصدي. كل ما تقدم يشكل تركيزاً على تهافت وتفاهة “العقوبات الاقتصادية” على دول وشعوب، هي، في هذا الزمان الصعب، وفي أحسن حالاتها، مجرد قوى إقليمية. روسيا، (في زماننا الذي نعيشه هذه الأيام)، مستوى آخر: هي قوة نووية، تستند الى جدار نووي مرعب، يمكن له أن يُهدد. وهو ليس مجرد جدار يستند الى “الحق المشروع” لشعبها، كما هو حالنا كشعب فلسطيني.


بعد كل هذا هل من المسموح لكاتب فلسطيني جاد، أن يُفطفط في قضايا يهودية اسرائيلية، بعضها، (على الأقل)، ذات دلالة؟


إن كان كذلك…أقول:
في إحدى جلسات الحكومة الإسرائيلية في هذا الأسبوع، قالت وزيرة الداخلية في حكومة بينيت، أييلت شاكيد: “إن هناك عددا من رؤساء البلديات في إسرائيل يطالبون باستقدام لاجئين أوكرانيين الى مدنهم..”، فقاطعها وزير المالية، افيغدور ليبرمان، (وهو أصلاً من مولدوفيا)، قائلاً: “بعضهم يريدون استقدام أوكرانيات الى مدنهم”. وإذ قامت ضجة في وسائط التواصل الاجتماعي حول هذا التلميح الجنسي غير اللائق، طلب ليبرمان محو هذا التعليق البذيء من محضر تلك الحكومة الرسمية.


ثم: أعود من الهزل والنكات و”المسخرة” الى الجد: أفري شطاينر، اليهودي الإسرائيلي، عضو مجلس الإدارة في “هيمنوتا”، (وهي إحدى الشركات المنبثقة عن شركة “كيرن كاييمت ليسرائيل” المسؤولة عن امتلاك الأراضي في فلسطين)، طالب في آخر اجتماع لـ”هيمنوتا”، في الأسبوع الماضي، ببحث إمكانية شراء الكيرن كاييمت لعدد من الجزر اليونانية غير المأهولة في البحر المتوسط، ( وعددها نحو أربعين جزيرة)، والعمل على إعداد وتحضير البنى التحتية فيها، لتكون جاهزة لاستقبال اليهود من إسرائيل، في حالة حدوث كارثة طبيعية، أو “نشوب حرب”. بل واستخدم هذا المندوب الإسرائيلي العضو في مجلس إدارة “هيمنوتا” الصهيونية تعبير: أرض جزر بدون شعب، لشعب بدون أرض!!


ها قد وصلنا الى عصر “اليهود الرحل”!!!


كل هذا لا يلغي حقيقة أن الصين هي الرابح والكاسب الأكبر من هذا العِراك الدولي الاستراتيجي. لكن أكثر ما هو مؤلم في هذا العراك، هو أن اسرائيل حاضرة وفاعلة، في حين أن فلسطين غائبة.

٭ كاتب فلسطيني

 

(القدس العربي اللندنية)

التعليقات (0)