مقالات مختارة

هل ترتدي أوروبا «الكاكي» وتحارب؟

إبراهيم نوار
1300x600
1300x600

لم تحارب أوروبا داخل حدود القارة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى جاءت حرب البلقان في تسعينيات القرن الماضي؛ ففرضت عليها القتال في إطار حلف الناتو تحت قيادة الولايات المتحدة، خارج حدود الحلف للمرة الأولى. وتواجه أوروبا الآن، أكثر من أي وقت مضى، خطرا قد يفرض عليها القتال ضد قوة عالمية رئيسية. وسيكون عليها أن تختار بين أن تلبس الكاكي وتحارب دفاعا عن أمنها، أو أن تختبئ داخل حدود الحلف، انتظارا لقوات بوتين حتى تدق أبوابها.


في الولايات المتحدة وأوروبا تسود وجهة نظر مفادها أن حرب أوكرانيا هي حرب بين موسكو وكييف، وأن على دول الناتو ألا تتورط فيها، لكن توجد وجهة نظر أخرى لا يتم ترويجها كثيرا تقول إن أوروبا مهما حاولت تجنب المواجهة مع بوتين فإن الحرب بين الطرفين مقبلة لا محالة، السؤال هو متى، الآن أو بعد حين؟


سيطرة روسية على مسرح العمليات


طبيعة العمليات العسكرية على الأرض منذ بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا، تكشف أن قوات بوتين، بدأت تتبنى تكتيكات مستعارة من الحرب السورية، ومن الخبرة الإسرائيلية في الضفة الغربية لمواجهة المقاومة. هذه التكتيكات تتضمن حرق المناطق المتمردة وتأجير سكانها، وإقامة مناطق «تخفيض التوتر» وتحييد دور القيادات السياسية والعسكرية للمقاومة بقتلهم كما يحدث في كيرسون وماريوبول، أو بخطفهم واعتقالهم، كما حدث في بعض المدن مثل إيفان فيدوروف عمدة ميليتبول وإيفان ماتفييف عمدة دنيبرودن. وقطع طرق الإمدادات العسكرية وتهديد الدول التي تسمح بمرورها، والسيطرة تماما على الحدود البرية والجوية والبحرية. واستخدام المتطوعين الأجانب (المرتزقة). وليس من المستبعد أن تلجأ قوات بوتين إلى استخدام الأسلحة الكيماوية لقهر المقاومة في المدن الرئيسية، التي لم يتم اقتحامها حتى الآن، بما فيها العاصمة كييف.


وفي مواجهة التصعيد الذي يمارسه بوتين، فإن الرد الأوروبي لم يتجاوز إعلان المزيد من العقوبات الاقتصادية، وهو ما تفعله الولايات المتحدة أيضا. وعلى الرغم من أن واشنطن ولندن وبرلين وعواصم أوروبية أخرى، أعلنت زيادة إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا، فإن وصول هذه الأسلحة فعلا أصبح محل شكوك كبيرة، بعد التهديدات الروسية للدول المجاورة، وموقف المجر الرافض صراحة لمرور أي مساعدات عسكرية، كما شدد على ذلك فيكتور أوربان رئيس الوزراء، ونظرا لأن الولايات المتحدة ودول الناتو رفضت طلب زيلينسكي بفرض منطقة حظر للطيران في الأجواء الأوكرانية، كما رفضت عرضا تقدمت به بولندا لتزويد أوكرانيا بطائرات من طراز ميغ – 29 الروسية، على أن تقدم لها الولايات المتحدة طائرات أف- 16 بديلا عنها، فإن قوات المقاومة الأوكرانية المكونة من الجيش والتشكيلات غير النظامية، تجد نفسها مكشوفة تماما للضربات الجوية الروسية، ومن المرجح أن تواجه نقصا في السلاح والذخيرة في الأسابيع المقبلة، مع شدة الحصار البري والبحري والجوي الذي تفرضه روسيا. في هذا الوضع الاستراتيجي الصعب ربما لن يجد فلوديمير زيلينسكي بابا مفتوحا أمامه غير التفاوض مع بوتين والإذعان لشروطه الرئيسية.


حافة الحرب أو الهروب؟


رغم التصعيد المتبادل بين روسيا والولايات المتحدة قبيل اجتياح الحدود الأوكرانية، فإن الدبلوماسية الأمريكية، فشلت في استخدام قواعد سياسة «حافة الحرب» كوسيلة من وسائل الردع المعنوي. وعلى العكس من ذلك فإن بوتين ربما يكون قد عمد إلى تسريب معلومات عن نيته غزو أوكرانيا، بقصد اختبار ردود الفعل المحتملة، ولما اطمأن إلى حدود رد الفعل المتوقع، فإنه تقدم بلا خوف، بعد أن هدد بأنه قد يرد بما لم يشهده الغرب من قبل في حال التدخل. موقف الولايات المتحدة ومن ورائها حلف الأطلنطي لم يستفد من سياسة «حافة الحرب» التي ابتكرها جون فوستر دالاس في خمسينيات القرن الماضي، كوسيلة من وسائل ردع الاتحاد السوفييتي، وهي سياسة تختلف عن سياسة «الاحتواء» التي طورها جورج كينان، وعملت بها إدارات أمريكية متلاحقة خلال الحرب الباردة. وعلى الرغم من أن الإدارة الأمريكية استخدمت خطابا سياسيا حادا ضد بوتين حتى منتصف فبراير تقريبا، وأرسلت بريطانيا أسلحة وعسكريين لمساعدة الحكومة الأوكرانية، فإن الموقف انقلب تماما بعد ذلك، فتراجعت حدة الخطاب الأمريكي، وقررت بريطانيا سحب مستشاريها العسكريين على عجل، وصدرت تأكيدات بأن حلف الناتو لن يتورط في صراع مسلح ضد روسيا، مكتفيا بالتلويح بالعقوبات، والوعد بتقديم مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا. هذا التراجع يذكرنا بأحد المخاطر التي حذر منها جون فوستر دالاس، الذي قال: «إذا حاولت أن تتهرب منها (يقصد التهديدات) فإن هذا يعني أنك خائف من الذهاب إلى الحافة (يقصد حافة الحرب) وبهذا تكون قد خسرت».

 

منطوق سياسة «حافة الحرب» كما شرحها دالاس في حوار مع مجلة «لايف» الأمريكية في عام 1956 يقول إنها: «القدرة على الوصول إلى حافة الحرب، لكن من دون الدخول في حرب فعلية. وهي فن ضروري، لكن إذا لم تكن قادرا على إجادته، فإنك تدخل في حرب لا محالة». معنى ذلك أن الرسالة الموجهة للخصم يجب أن تكون كافية لإقناعه بأنك داخل في حرب لا محالة، بينما أنت بالفعل لا تعتزم الدخول في حرب، وإنما تسعى لتحقيق مصالحك، أو الدفاع عنها من دون حرب.

 

إن من يراجع مسار المنحنى البياني لقوة التهديدات التي أطلقها جو بايدن قبل وبعد الغزو الروسي، يدرك أن الدبلوماسية الأمريكية خلال تلك الأزمة وقعت في الخطأ الكلاسيكي، الذي حذر منه جون فوستر دالاس، وهو خطأ التراجع بسرعة بعد التهديد.

 

ومن المثير للدهشة أن الدبلوماسية الأمريكية عندما لاحت لها فرصة ثانية لاستخدام سياسة حافة الحرب بإعلان تأهب نووي في أوروبا، ردا على أمر بوتين برفع حالة التأهب النووي بين قواته في اليوم الرابع للغزو، فإنها لم تفعل.

 

ويعتقد بعض العسكريين أن حلف الناتو سيكون مضطرا إلى مواجهة روسيا عاجلا أم آجلا، وأن السؤال الحقيقي ليس ما إذا كانت هذه المواجهة ستقع، ولكنه متى ستقع؟ كما قال الجنرال السير كريس ديفيريل Chris Deverell القائد السابق للقوات الخاصة ورئيس المخابرات العسكرية البريطانية سابقا، الذي تقاعد عام 2019. الجنرال ديفيريل قال في تغريدة على حسابه على تويتر منذ أيام، إنه كان يعارض فرض حظر جوي في أوكرانيا، لكن مع تمادي بوتين في نزعته العدوانية، فإنه غَيّر رأيه ويدعم فكرة منطقة الحظر الجوي، ويعتقد حاليا أن السؤال هو: «هل الناتو سيحارب روسيا الآن أم في ما بعد؟» وتساءل بعد أمر بوتين برفع حالة التأهب عما يجعل استخدام هذا التهديد مفيدا لروسيا أكثر من حلف الناتو. وهو ما يعني ضمنا أن الجنرال متقاعد ديفيريل، لا يرى حكمة في امتناع الناتو عن إعلان رفع حالة التأهب النووي مثلما فعل بوتين.


هل تصبح أوكرانيا بابا لسلام «ويستفالي» جديد؟


الطريق الثالث بين الحرب والاستسلام هو البحث عن «سلام ويستفالي» جديد في أوروبا يهيئ لها الأمان والنمو في بيئة مستقرة، تقوم على أسس نظام جديد للأمن الجماعي، يتجاوز الرغبة المتوحشة في توسيع حدود حلف الناتو شرقا. لقد تمادت أمريكا بعد الحرب الباردة في استخدام إرادتها المنفردة، وممارسة القوة خارج نطاق القانون الدولي. كما أنها في الوقت نفسه استمرت في حرمان حلفائها من المشاركة الفعلية في صناعة القرار داخل حلف الناتو. أخطر ما في السياسة الأمريكية الحالية أنها تستخدم «إعادة تموضعها» العسكري في الشرق الأوسط، لغرض تعزيز قدراتها ضد كل من روسيا والصين. وليس لدى أوروبا الإجماع نفسه ضد كل من هاتين الدولتين.

 

وعلى الرغم من أن أزمة أوكرانيا أظهرت ضرورة الحاجة إلى وحدة الموقف داخل الحلف، إلا أنها جعلت أوروبا تفيق على حقيقة عجزها العسكري، وخطورة سياسة توسيع الناتو شرقا. إن الأزمة الأوكرانية تعكس في جوهرها غياب نظام للأمن الجماعي الأوروبي على غرار اتفاقيات «ويستفاليا» وهي الاتفاقيات التي وضعت أسس «السلام الويستفالي» وأنهت حروب الثلاثين عاما (1618- 1648). كما تعكس أيضا خطورة إصرار الولايات المتحدة على توسيع حدود الحلف شرقا وتطويق روسيا.

 

لقد خلقت تطورات ما بعد الحرب الباردة خللا حادا في ميزان القوى بين روسيا وجيرانها في الغرب، وهي مع صحوتها لم تقبل باستمراره وتحاول إصلاحه، لكنها في سعيها لإصلاح الخلل تمادت إلى درجة المطالبة بحرمان دول قومية من حقوقها السيادية الطبيعية، بل والإقدام على احتلالها. ونظرا لأن أوروبا بما فيها أوكرانيا وروسيا تتحمل التكلفة الرئيسية للحرب، فإنها تتحمل مسؤولية تاريخية للتفاوض في ما بينها لوضع نظام للأمن الجماعي في القارة، حتى لا تتحول إلى مصدر لحرب عالمية ثالثة.

 

(القدس العربي اللندنية)

0
التعليقات (0)