مقالات مختارة

السوريون هم الأكثر فهماً للوجع الأوكراني

عبد الباسط سيدا
1300x600
1300x600

دعوات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي المتكررة للغرب بضرورة فرض حظر الطيران فوق الأجواء الأوكرانية، ومطالبته بمزيد من الدعم العسكري لبلاده، حتى تكون قادرة على مواجهة الغزو الروسي الوحشي الذي أمر به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا قبل أكثر من أسبوعين، وهو الغزو الذي كان من المفروض وفق المخططين له أن ينتهي في حدود أيام معدودات؛ هذه الدعوات والمطالبات تذكرنا كثيراً بما كان السوريون المناهضون لسلطة بشار الأسد يدعون إليه، ويطالبون به قبل أكثر من عقد من الزمن.

 

فنحن اليوم على مشارف الذكرى الحادية عشرة للثورة السورية التي انطلقت سلمية في أواسط آذار/ مارس 2011، وفرضت عليها العسكرة، وذلك نتيجة الحرب التي أعلنتها سلطة بشار الأسد على الشعب منذ اليوم الأول لبداية المظاهرات والاعتصامات التي استمرت على مدار أكثر من ستة أشهر على الرغم من الاعتقال والتنكيل والقتل.

 

فالسوروين كانوا يطالبون بالضغط على النظام لمنعه من إطلاق النار على المتظاهرين، والحيلولة دون قصفه الوحشي للمدن والبلدات. كما كانوا يطالبون بفرض مناطق حظر جوي وممرات آمنة، حتى يتمكن الناس من الانتقال إلى مناطق آمنة ضمن بلدهم في انتظار ما ستسفر عنه الأمور. ولكن، وعلى الرغم من العدد الكبير للدول التي كانت تشارك في مؤتمرات مجموعة أصدقاء الشعب السوري (أكثر من 100 دولة)، والوعود الكثيرة التي أغدقت؛ ظلت النتائج باهتة، ولم تستخدم تلك الشرعية الواضحة خارج نطاق آلية مجلس الأمن العقيمة لوضع حدِ لجرائم سلطة بشار التي لم تمتلك الشرعية قط.

 

وفي يومنا الراهن، بينما أكثر من نصف الشعب السوري بين نازح ومهجر، وأكثر من مليون قتلوا بفعل جرائم هذه السلطة، والبلد مدمر بالمعنى الحرفي الشمولي للكلمة، هناك من يتحدث عن إمكانية تعديل سلوك بشار الأسد، أو اعتماد سياسة الخطوة خطوة، وهي السياسة التي بدأت عملياً بتقديم الدعم له تحت بند «التعافي المبكر» هذا ناهيك عن الصفقات المشبوهة تحت اسم المساعدات الإنسانية، وغض النظر عن مسؤولية تلك السلطة في تحويل البلد إلى بؤرة من بؤر إنتاج وتسويق المخدرات.


الأزمة الأوكرانية لها أسبابها العميقة التي تعود جذورها إلى أيام الاتحاد السوفياتي السابق الذي انهار عام 1991، وقد تفاقمت مع الهجوم الروسي على أوكرانيا 2014 والذي أسفر، كما هو معروف، عن إعلان روسيا سيادتها من جانب واحد على القرم، وفي الوقت ذاته دعمت الانفصاليين في منطقة دونباس تحت اسم جمهوريتي دوينتسك ولوهانسك/ لوغانسك حيث هناك أغلبية في عدد الناطقين بالروسية، وممن يعتبرون أنفسهم روساً.


لا يمكن فهم وعزل ما يجري راهناً في أوكرانيا عن تطلعات بوتين والعقيدة التي يحاول الترويج لها، واتخاذها وسيلة لشرعنة توجهاته التوسعية. فروسيا بوتين اليوم تتخذ من القومية والأرثوذكسية الشرقية عنصرين أساسيين لتعزيز نفوذهما بين الأقليات الروسية في مختلف الجمهوريات التي استقلت بعد تلاشي الاتحاد السوفياتي، وهي تحاول تسويق توجهها القومي الديني هذا ضمن إطار أوسع يتمثل في الأيديولوجية الأوراسية الجديدة التي تتبناها، وهي العقيدة التي تعتبرها روسيا ذاتها محورها المفصلي، وحاملها السياسي العسكري. وبناء على هذه العقيدة تعتبر الساحة الأوكرانية امتداداً حيويا لنفوذها. وبناء على هذا التوجه، أعلن بوتين مراراً وتكراراً، ويعلن باستمرار بأنه لن يقبل بعضوية أوكرانيا في الناتو، وأنه يعتبر ذلك في حال حدوثه، بمثابة إعلان الحرب على روسيا.


دول الناتو، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، لم تتخذ الموقف الواضح الذي كان ربما من شأنه الإسهام في منع نشوب الحرب، فلا هي ضمت أوكرانيا إلى الناتو، وبأسلوب إسعافي سريع، رداً على طريقة بوتين في فرض الأمر الواقع كما فعل في اوسيتا الجنوبية وأبخازيا على إثر الحرب مع جورجيا عام 2008 و2009، وفعل في شبه جزيرة القرم عام 2014، وأعلن قبل عدوانه الأخير على أوكرانيا من خلال الاعتراف باستقلال كل من دونيتسك ولوغانسك.


كما لم تنصح الدول المعنية أوكرانيا بترك موضوع المطالبة بالانضمام إلى الناتو، والتركيز في المقابل على عضوية الاتحاد الأوروبي، على اعتبار ان هاتين المنظمتين هما في نهاية المطاف تكملان بعضها بعضاً. فمعظم دول الاتحاد الأوروبي قد وقعت على وثيقة التعاون الدفاعي، وباعتبار أن غالبية دول الاتحاد الأوروبي هي أعضاء في حلف الناتو، تكون مشروعية الدفاع المشترك حتى بالنسبة للدول غير الأعضاء في الناتو موجودة.


بل على خلاف ذلك كان التلويح المستمر من جانب الناتو والاتحاد الأوروبي بالعقوبات غير المسبوقة، وكان الحديث عن الدعم الكبير الواسع الذي سيحصل عليه الأوكرانيون ليتمكنوا من الدفاع عن شعبهم وأرضهم، وقد اتخذت بالفعل الكثير من الإجراءات غير المسبوقة في هذا المجال. وقُدّم دعم لافت للأوكرانيين، ومن المتوقع أن يقدم المزيد الكثير؛ إلا أنه من الواضح أن كل ذلك لن يردع الجيش الروسي الذي يتابع هجومه بأوامر مباشرة من بوتين، ويستمر في تدمير البنية التحتية لأوكرانيا، ويقصف المشافي بما في ذلك مشافي الأطفال؛ كما يقصف المدارس والأحياء السكنية، تماماً كما فعل، ويفعل، في سوريا منذ دخوله إليها بصورة علنية في أيلول/سبتمبر 2015 وذلك لحماية سلطة بشار.


واليوم يُتهم الجيش الروسي من جانب الأمريكان بأنه يستخدم قنابل تفتقر لآلية التوجيه الدقيق، مما يؤدي إلى المزيد من التدمير، وإلى وقوع المزيد من الضحايا بين المدنيين. وهنا لا بد من التذكير مجدداً بقصف طيران بشار البدائي على مدى سنوات المدن والبلدات السورية ببراميل البارود الهمجية، وتسبب ذلك في جرائم حرب ومجازر بشعة بحق المدنيين، وكل ذلك كان يمكن تجنبه لو تمكن السوريون من الحصول على حفنة من الصورايخ المضادة للطائرات التي كانت ستقلب المعادلات رأساً على عقب.


ولعله لا حاجة هنا للتذكير، باعتبار أن ذلك قد بات من المسلّمات إن لم من البدهيات، بأنه لولا التساهل الأمريكي مع التدخل الروسي في سوريا، لما تصرف بوتين اليوم تصرف القوة العظمى المتوحشة التي تستطيع فرض بنودها على جدول أعمال الآخرين، وتهدد باستخدام الأسلحة النووية، وتبدي استعدادها لمواجهة العالم بأسره.


فالأوكرانيون لم يحصلوا حتى الآن على الدعم المطلوب لحل المشكلة سياسياً مع الروس، ويخشى ألا يحصلوا على الدعم المطلوب للقيام بأعباء الدفاع عن أنفسهم في المواجهة العسكرية التي فرضها عليهم الروس.


ولنا في التجربة السورية الأمثلة المريرة في هذا المجال، ففي سوريا لم تتعرض السلطة للضغوط المطلوبة لإرغامها على القبول بالحل السياسي، وكان ذلك من السهل الممكن في البدايات؛ ولم يقدم للسوريين في الوقت عينه ما كانوا يحتاجون إليه لحسم الأمور عسكرياً، لذلك استمرت المعاناة التي استنزفت السوريين، وحولت قضيتهم نتيجة أخطاء المعارضة، وعدم تمسكها بالأولويات التي ثار السوريون من أجلها، إلى امتداد لأولويات الدول وحساباتها.


ولكن بغض النظر عن كل الهواجس والمتغيرات المتلاحقة، لا بد من الإشادة بالشجاعة الفائقة التي جسدها الأوكرانيون بأعمالهم البطولية، وثباتهم، في الدفاع عن بلادهم وتمسكهم بها. ولا بد في الوقت عينه من تقدير إصرارهم على حماية سيادتهم وحقوقهم. هذا على الرغم من اعتراف الجميع بعدم سهولة المواجهة مع روسيا المستعدة لاستخدام كل أنواع الأسلحة، وهي لا تلتزم بأية مواثق دولية أو اعتبارت أخلاقية.


الأوكرانيون عازمون على الاستمرار في صمودهم، ويبدون استعدادهم لتحمّل ضريبة الحرية، وهذا ما يلزم الدول الأعضاء في كل من الناتو والاتحاد الأوروبي باتخاذ مواقف أكثر حزماً وتأثيراً. فهذه الدول تدرك تماماً أن بوتين إذا تمكن من ابتلاع أوكرانيا فإنه لن يتوقف عندها، بل سيشكل تهديداً لمحيطه، ولما هو أبعد من محيطه. وما تحركات ميليشيات فاغنر وتدخلاتها في العديد من مناطق العالم، وفي المقدمة منها سوريا وليبيا ومالي، سوى مؤشرات واضحة تؤكد النزوع الإمبراطوري الذي ما زال يهيمن على عقول وسلوكيات القيادة الروسية الحالية، هذه القيادة التي تعلن صراحة عن توجهاتها ورغباتها في استعادة المجد التليد.


ماذا عن الصين ودورها؟ هل ستتمكن بضغط المصالح مع الأوروبيين وحتى مع الأمريكان من إقناع القيصر بضرورة المراهنة على الحل السياسي الذي يبقى هو الحل الفعلي، في جميع الأحوال، طالما أن الحرب مدمرة وستؤدي في نهاية المطاف إلى خسارة الجميع؟ أم أن الأخير سيستمر في اندفاعه المتهور الذي يهدد الأمن والاستقرار في جميع أنحاء العالم؟


ولكن في جميع الأحوال تبقى الكلمة الفصل للأوكرانيين شرط أن يحصلوا على الدعم المناسب في الوقت المناسب.

 

(القدس العربي اللندنية)

0
التعليقات (0)