أفكَار

هل تدبر القرآن الكريم لا يتأتّى إلا للعالمين بتفسيره؟

تدبر القرآن بوصفه مرتبة أعلى من التفسير لا يتأتّى لمن لا يحسن اللغة العربية
تدبر القرآن بوصفه مرتبة أعلى من التفسير لا يتأتّى لمن لا يحسن اللغة العربية

تُرشد التوجيهات القرآنية الحاثّة على تدبر القرآن الكريم إلى إعمال العقل لتفهم تلك الآيات، واستخراج ما فيها من المعاني والحِكم والدلالات، ولأن التدبر تفاعل عقلاني ووجداني بين قارئ القرآن وآياته الكريمة فإن من الطبيعي أن يفضي ذلك التفاعل إلى توليد نكات جديدة لم يسبق إليها المتدبر من قبل.

وهو ما يُتخذ في بعض الأحيان مدخلا للقراءات الحداثية والمعاصرة للقرآن الكريم، إعمالا وتفعيلا لمدلولات معاني تدبر القرآن، الذي جاء النص مبينا أن التدبر هو الحكمة من إنزاله، كما في قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}، بيد أن علماء التفسير المعاصرين يُحذرون من تلك المسالك لأنها تفتح، برأيهم، باب القول في القرآن بالرأي على مصراعيه، لكل من لا يمتلك أدوات تفسير القرآن وتدبره. 

الداعية المغربي، سعيد الكملي أوضح في أحد دروسه المصورة أن التدبر هو بمعنى "تثوير معاني القرآن" أخذا من القول المأثور عن الصحابي عبد الله بن مسعود "ثَوِّرُوا القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين"، وفي رواية "لا تَهذُّوا القرآن هَذّا.. وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب"، فالتدبر هو إثارة تلك العجائب واستخراجها واستنباطها، وهو مرتبة فوق التفسير.. والغوص على المعاني"، وفق الكملي.

 

ويرى الكملي أن تدبر القرآن بوصفه مرتبة أعلى من التفسير لا يتأتّى لمن لا يحسن اللغة العربية بنحوها وصرفها وبلاغتها، وهي التي كانت عند العرب الذين تنزل القرآن في زمانهم لسانهم الذي يتحدثون بها سجية، من غير تعلم ولا تكلف، على عكس غالب العرب في زماننا الذين لا حظ لهم من إتقان علوم العربية والتمرس بها، وهو ما يعني أن الغوص على معاني القرآن وتثويرها دون إتقان العربية وتعلم علومها سيكون من قبيل التفسير بالرأي المذموم المنهي عنه. 

ووفقا لباحثين في علوم القرآن وتفسيره فثمة تكامل بين تدبر القرآن وتفسيره إذا فُهما فهما سليما وقويما، "فالتدبر هو التفاعل مع القرآن، وهو واجب من الله تعالى على كل مكلف لأن الله تعالى قال {أفلا يتدبرون القرآن}، فجعل الخطاب عاما ولم يخصه بأحد" وفق أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة العلوم الإسلامية في الأردن، الدكتور جمال أبو حسان. 

 

 

       جمال أبو إحسان.. أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة العلوم الإسلامية في الأردن


وتابع: "أما التفسير فهو طريق إلى التدبر، لأن مقتضى التفسير فهم الآيات القرآنية المنزلة، والتدبر ثمرة من ثمار التفسير، بل هو النتيجة التي ينبغي أن تكون للتفسير والفهم". 

وردا على سؤال "عربي21" حول طبيعة العلاقة بين التدبر والتفسير، نفى أبو حسان "وجود تنافر بينهما، إذ أن أحدهما وسيلة للآخر، فالتفسير يقود إلى الفهم، والفهم يقود إلى التدبر الذي نتيجته الحتمية هو تعديل السلوك إيجابا تبعا لأوامر القرآن الكريم، وإذا كان التفسير سيفضي إلى آراء مختلفة في فهم الآيات القرآنية، فإن التدبر حتما سيقود أيضا إلى هذا الاختلاف". 

وأردف "غير أن التدبر لما كانت ثمرته الأساسية هي التعديل السلوكي، والانفعال الإيجابي بالقرآن الكريم، فسيكون التدبر اذن هو الوسيلة العملية لتعديل السلوك، ولن يضره بكثير اختلاف الآراء الفكرية في التفسير، لأن أي تفسير يجب أن يكون منضبطا بقوانين لا تسمح بأن يكون الاختلاف متباينا يفضي إلى التدابر في السلوك العملي". 

وبين تلك القوانين بقوله "أن يكون التفسير متناغما مع مضامين القرآن الكريم، ولا يضرب بعضها ببعض، وأن يكون التفسير متوافقا مع تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للمواضع المفسرة منه، وأن لا يتعارض بشكل عام مع سنة النبي عليه الصلاة والسلام، التي هي من قبيل التفسير العملي للقرآن الكريم". 

وينبغي، طبقا لأبو حسان "أن يكون التفسير مقبولا من جهة اللغة، وأن لا يكون لمعان مستحدثة لا تقرها اللغة من قريب أو بعيد، وأن يكون التفسير متوافقا مع سياق الآيات المفسرة، فإذا جمع التفسير هذه الضوابط فسيكون التناغم حينئذ واضحا جدا بين التفسير والتدبر". 

من جهته قال الأكاديمي المغربي، الباحث في الإسلاميات، الدكتور محمد التهامي الحراق "بتأمل آيات التدبر في القرآن الكريم، نستطيع أن نستخلص أن "التدبر" هو الصيغة التي يرتضيها النص القرآني الوحياني لتلقي آياته، قال تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" [محمد: 29].

 

 

                            التهامي الحراق.. باحث وأكاديمي مغربي


وتابع "ثم إن هذا التدبر يعني فتح بصيرة القلب لهذه الآيات، وذلك لاستبطان معانيها، واستيعاب أنوارها؛ قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها}، [محمد: 24]، وهنا نسجل أن القرآن الكريم يُعيِّن بشكل ضمني مراسم أو منهج تلقي آياته في الكتاب والآفاق والأنفس، فيخص آيات الكتاب بـ"التدبر"، وآيات آفاق الكون بـ"التفكير"، وآيات الأنفس بـ"التبصر" وهو ما فصلته في كتابي "مباسطات في الفكر والذكر". 

ولفت الحراق في حواره مع "عربي21" إلى أن "التدبر في آيات الكتاب يجمع بين التنسك أو التقوى وطلب العلم، لذلك خُصَّ به أولوا الألباب؛ إذ القلب هو محل التقوى من جهة، ويتوسل بالتعقل من أجل الإدراك من جهة ثانية؛ قال تعالى { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، [الحج : 46].

وخلص إلى القول "إن التدبر هو تلقٍ تعبدي وتعرفي لآيات القرآن المسطور، ومداره بذل الوسع في المجاهدة القلبية، والاجتهاد العقلي من أجل استمداد أنوار الهداية من القرآن الكريم، أي تلقيه بوصفه هدى ونورا كما سمّى نفسه، ورسم بذلك منهاج تلقيه في أكثر من آية، فالتلقي الذي يرتضيه القرآن لـ"يكرم" قارئه بالهداية هو التدبر، وهو تلق يجمع بين التنسك والتعرف..".

وأوضح أنه "يمكن تقسيم مستويات هذا التلقي التدبري إلى ثلاثة مستويات؛ نسميها: "التدبر التعرفي"، و"التدبر المعرفي"، و"التدبر العرفاني" فالأول هو المستوى الأدنى في التدبر، والجامع بين محاولة التخلق بالتقوى ومحاولة الفهم، ويُطالَب به كل مؤمن، بل هو شرط التلقي الإيماني والشعائري للقرآن الكريم في حدوده الدنيا".  

أما المستوى الثاني، وهو التدبر المعرفي، فحسب الحراق "ننتقل فيه من السعي الاجتهادي للجمع بين التقوى والتعرف إلى السعي للجمع بين التقوى والتفسير، وفي هذا المستوى تندرج مختلف ألوان تفسير القرآن الكريم، والتي تتوسل بمختلف علوم الآلة وعلوم القرآن لمحاولة تفسير آيات الكتاب، وتتعدد هنا المدارس التفسيرية بحسب العلم الغالب على معرفة المفسر، رواية وأثرا ولغة وفقها وفلسفة وعلما وما إلى ذلك". 

وتابع بيانه للمستوى الثالث، ألا وهو التدبر العرفاني "الذي يجمع بين مرتبة الإحسان في التقوى، ومرتبة العرفان، إذ تثمر تلك المرتبة كشفا يحول المعرفة في هذا المستوى إلى ما نطلق عليه عرفانا؛ وهو معرفة يتواشج فيها العقل المعرفة بما يتجاوزه روحانيا" على حد قوله. 

وعن آفاق العمل بالتدبر أشار الحراق إلى أنه "مرتبط بنتائج هذا التدبر، وهي تتحصل بحسب تقوى المتدبر، أو قل بحسب بذله في تجديد إيمانه بالتقوى؛ وكذا بحسب عقل المتدبر، أي بحسب بذله في تجديد معرفته بالعلم.. وإجمالا فإن المؤمن مطالب بالاجتهاد في التدبر، إذ بالتدبر يهجر هجران القرآن الكريم، ويرتقي من التلقي الطقوسي العقيم للنص الإلهي إلى التلقي التدبري المطلوب لولوج عوالم القرآن الكريم..".

بدوره قال الباحث في العلوم الشرعية، مدير مركز الإمام الشافعي في العاصمة الأردنية عمان، الدكتور سمير مراد في توضيحه لطبيعة العلاقة بين التدبر والتفسير "التدبر أعم لشموله أهل العلم وغيرهم، كما أن التفسير لخصوصه فإنه يعتبر بيانا مختصرا أم موسعا، قد يتضمن أحكاما، وقد يكون مجرد بيان للقصص والأخلاق وغيرها". 

 

          سمير مراد.. مدير مركز الإمام الشافعي في العاصمة الأردنية عمان

وتابع حديثه لـ"عربي21": "وأما ال الشرع، ولذلك لا يصح التوسع بمفهوم التدبر، لأنه بمعنى التفكر، دون لزوم الاستناج إلا ما ظهر من النص، متدبر فهو وإن كان يفضي إلى أفهام أو آراء، فإنها لا تعدو كونها متعلقة بالاعتبار بالقصص ونحوها، أو ما يتعلق منها بالخلق وآثار بعض المخلوقات، مما لا يتضمن أحكاما شرعية إلا ما تعلق منها بالكليات التي يشترك في معرفتها الجميع". 

وأشار في ختام حديثه إلى "أن كل نتيجة، وبناء على ما تقدم، إن كانت مما يوافق الشرع مما ليس محلا للاجتهاد، فالعمل بها مفوض لكل متدبر ما لم يخالفما يتعلق بالخلق كنزول المطر، وخلق الإبل، ورفع السماء، وبسط الأرض، وطيران الطيور وهكذا.. فهذه وأمثالها لا أحكام فيها، وهي محل تدبر العموم، وما زاد فهو لأهل الاختصاص حسب المواضيع". 


التعليقات (0)